“ثيودور هرتزل”.. مؤسس الحركة الصهيونية

في العام 1860 شهد منزل من منازل الحي اليهودي بشارع الكنيس الأكبر المعروف بكنيس “تاباكغاس” في بودبست المجرية ميلاد طفل جديد في عائلة “جانيت” و”جاكوب هرتزل” اليهودية. كان يمكن أن يكون الحدث عاديا في العالم الذي يموج في شطريه الشمالي والجنوبي بحروب في كل أنحاء المعمورة، صراع الدروز والموارنة في بلاد الشام والحرب الإسبانية المغربية والحرب الإنجلوفرنسية على الصين، كانت الأحداث تدور بعيدا عن بيت “ثيودور” الطفل، قبل أن يصبح هو نفسه الحدث.

لم يكن متوقعا أن يتسبب ذلك الطفل مختلط الأعراق بقلب العالم وخلق حرب أزلية، وأن يظل الفتيل الذي أشعله مشتعلا حتى وهو في قبره، بعد أن أعلن عن فكرة تأسيس دولة لليهود في فلسطين. فتيل فجر قنبلة ما زالت أشلاء ضحاياها تتساقط إلى يوم الناس هذا.

“المسألة اليهودية”.. من طرح أدبي إلى مشروع قابل للتطبيق

يقول أستاذ العلوم السياسية فادي الزعتري في ترجمة لكتاب “قراءات في كتاب ثيودور هرتزل وتأسيس الدولة اليهودية” للكاتب الصهيوني “شلومو أفنيري”، إن “ثيودور هرتزل” لم يكن الشخص العبقري الذي طرح فكرة جديدة لجمع اليهود، وقادت لإنشاء دولة فوق أراض لا يملكونها، فهناك عدد من الأسماء والمنظمات التي سبقت مَشروعه وأهمها “موشي هس” في كتابه “روما والقدس”، وأيضا “ليون بينسكر” في كتابه “الطريق إلى الحرية”.

إضافة إلى بعض الأسماء التي حاولت إيجاد حل للمسألة اليهودية كمُنظمة “هوفيفي زيون” التي قَررت في بداية ثمانينيات القرن التاسع عشر البدء بإنشاء مُستوطنات يهودية في فلسطين. مع هذا، ورغم صدور عدد من الكتب والخطط والمشاريع لإيجاد حلول للمسألة اليهودية، فإن نَشاطات “هرتزل” تميزت بالحزم والحسم في إنشاء هَيكلية مؤسساتية وتَنظيمية، أدت إلى تسليط الضوء وإثارة اهتمام الرأي العام الدولي والقيادات السياسية بمشروع الدولة اليهودية.

وحسب الكاتب، فقد بدأت شخصية “هرتزل” تظهر إلى العلن عندما كان ابن 35 عاما، إذ تمكن من رفع مستوى طرح قضية “المسألة اليهودية” إلى مستوى عالمي، وانتقل بتلك القضية من مجرد طرح أدبي أقرب للخيال، إلى تسجيل مشروعه المفصل للدولة اليهودية في كتابه “الدولة اليهودية”، وأصبح مشروعا قابلا للتطبيق. كان “ثيودور هرتزل” قد استغل كل السياقات لتنفيذ مشروع إقامة دولة لليهود، فكان يتحدث في كل مرة عن عداوة تاريخية للقوميات والأعراق المختلفة تجاه اليهود في أوروبا الشرقية خاصة.

في العام 1896، نشر ثيودور هرتزل كتابه “الدولة اليهودية” الذي سيصبح بمثابة كتاب مقدس جديد لدى اليهود، وبدأت نبوءة ذلك الكتاب تتحقق في المؤتمر الصهيوني الأول في العام 1897. يقول فادي الزعتري نقلا عن “شلومو أفنيري”: تحليل “هرتزل” السياسي والاجتماعي للمسألة اليهودية أوصله إلى نتيجة، مفادها أن المسألة اليهودية تحل فقط من خلال إطار دولي واتفاق أممي، هذا النهج ترك بصمته على عمل الحركة الصهيونية وآلياتها. كان “هرتزل” يؤمن أن اليهود ليسوا في خطر في النمسا فقط، بل في كل أرجاء القارة الأوروبية، لذلك كانت كل كتاباته ونشاطاته ذات غاية واحدة، وهي إيجاد مكان خارج أوروبا يؤوي اليهود.

“هيفرا كاديسكا”.. وعد بالولاء مدى الحياة للدين اليهودي

وُلد “ثيودور هرتزل” في منزل محاذٍ للكنيس الكبير في العاصمة المجرية بودابست، ونشأ لدى والدين برجوازيين ليس لهما مستوى فكري عالٍ، ولا أي اهتمام خاص بالمسألة اليهودية.

يقول “إسرائيل كوهين” الكاتب البريطاني الذي كان قياديا في المنظمة الصهيونية العالمية في كتابه “ثيودور هرتزل مؤسس للصهيونية السياسية”: مع أن “ثيودور هرتزل” نشأ في منزل لا يطرح بشدة مسألة وضعية اليهود، فإنهم استطاعوا أن يجلبوا إلى العالم طفلا كان مقدرا له أن يؤثر في التاريخ، بوصفه الأب الروحي لإسرائيل. لقد ولد “تيودور هرتزل” في شارع “تاباكغاس”، وهو شارع جميل في الحي اليهودي في بودابست، ليس بعيدا عن الكنيس الكبير، وهو الكنيس ذاته الذي ندد فيه الحاخام بعد 36 عاما بشدة دفاع “هرتزل” عن إقامة دولة لليهود.

الوفود المشاركة في المؤتمر الصهيوني الأول في مدينة بازل السويسرية سنة 1897

لم يكن “ثيودور هرتزل” في طفولته منغمسا في المسألة اليهودية، وكان رابطه الوحيد لتذكيره بعمق اليهودية الأرثوذكسية هو جده “سيمون” الذي كان يزور بودابست في بعض المناسبات الخاصة. كان “سيمون” أحد أعمدة اليهودية الأرثودوكسية القوية، وكان ينتمي لمجموعة انغمست في الفكر الحاخامي أكثر من انغماسها في تعلم الكلاسيكيات الألمانية، وكان ضمن مجموعة الحاخام اليهودي “يهودا هاي ألكالي” ببلدة سملين، الذي دافع بحماس عن عودة اليهود إلى أرض أجدادهم، وكتب في ذلك دراسات، وقام من أجل ذلك برحلات متنوعة، وأسس في العام 1852 جمعية تدعم هدفه.

كانت طفولة “ثيودور” عادية ولم يميّزها أي شيء استثنائي، فكان مثل أي طفل يهودي يرافق عادة والده إلى المجمع اليهودي في أيام السبت والأعياد، وقد انضم في عامه الثامن إلى عضوية “هيفرا كاديسكا”، وهي منظمة كانت تتولى رعاية المرضى ودفن الموتى.

يقول الكاتب “إسرائيل كوهين”: خلال مراسم الانضمام إلى تلك المنظمة قطع “ثيودور” الطفل وعدا بالولاء مدى الحياة للدين اليهودي، وقد أشاد به الحاضرون واكتسب لقب الأخ، ومن المحتم جدا أن ذلك ترك لديه أثرا عميقا.

وصف اليهود بالوثنيين.. لحظة فارقة تصنع تأثيرا عميقا

درس “ثيودور” في مدرسة حديثة خُصّص المنهج الدراسي فيها بشكل أساسي للغات الكلاسيكية، وكان عمره 9 سنوات حين أُعلن افتتاح قناة السويس في العام 1869، وهو ما جعل “فرديناند دي ليسيبس”، وهو مهندس القناة ومؤسسها بطلا في نظر الطفل “ثيودور”.

يقول كتاب “ثيودور هرتزل مؤسس للصهيونية السياسية”: لقد اشتعلت مخيلة “ثيودور” الصبيانية بفكرة حفر القناة، واتجهت مخيلته لفعل ذلك في مكان ما في بنما، ولكن سرعان ما فقد رغبته في العلوم، لأن الجو في المدرسة كان مليئا بمعاداة السامية، وكان من أعراض ذلك أن أحد المعلمين فسَّر كلمة الوثنيين بأنهم المسلمون واليهود أيضا. شعر “ثيودور” بالإهانة الشنيعة، وهو ما جعله لا يراهن على المدرسة الحديثة، وانتقل إلى قاعة للألعاب الرياضية تضم أغلبية من الأطفال اليهود. لقد كانت تجربته الأولى مع العنصرية العرقية هي التي دفعته بعد 20 عاما إلى إطلاق حركته التي ستصنع عصرا جديدا.

الطفل ثيودور هرتزل في وسط عائلته

لم يكن “ثيودور هرتزل” طفلا مجتهدا في دراسته، لكنه كان يملك قدرة على المبادرة والتنظيم، حتى أنه أسس حين كان ابن 14 عاما جمعية أدبية في المدرسة، وترأسها ووضع قوانينها، وكان هدفها تحفيز أعضائها على كتابة القصص والقصائد وإلقائها في الاجتماعات، ووضع كذلك رسما تخطيطيا غريبا للبرلمان المجري نشرته مجلة فيينا الأسبوعية.

أيام الجامعة.. انتماء جرماني وفشل في حلم الكتابة

يقول كتاب “ثيودور هرتزل مؤسس للصهيونية السياسية”: أصبح واضحا أن “ثيودور” كان يريد أن يصبح كاتبا وهو ما يزال في المدرسة، وهو طموح شجعه عليه والداه. ويرجع عدم انجذابه إلى اللغة المجرية إلى حقيقة أن بودابست في ذلك الوقت كانت لا تزال تتمتع بطابع ألماني، وأن السكان اليهود كانوا يتحدثون ويكتبون الألمانية، وكان التعليم هناك مرادفا للتعليم الألماني.

في الواقع، كان اليهود في المجر -كما في جميع أنحاء أوروبا الوسطى وشمال نهر الدانوب- هم الطليعة غير الواعية للغة والثقافة الألمانية، ومهما كان يصعب التصديق، فقد شعر “ثيودور” حينها بأنه جرماني تماما.

في أواخر العام 1878 التحق “ثيودور هرتزل” بكلية الحقوق بجامعة فيينا، ودرس هناك مختلف فروع القانون، ودرس أيضا التاريخ والاقتصاد، والعلوم الطبيعية فترة قصيرة. يقول “إسرائيل كوهين” متحدثا عن اهتمام “ثيودور” الرئيسي: كان منصبا على القانون، مع تحيز للقانون الروماني، كما ظهر لاحقا في كتابه التاريخي الدولة اليهودية.

لقد اختلط بكثير من الأساتذة، لكن لا يمكن القول إن أحدا منهم كان له أي تأثير عليه، ربما لأنه لم يكن متحمسا أبدا بشأن المواضيع التي كانوا يدرسونها. لقد لجأ إلى الدراسة في المقام الأول تنازلا لوالديه، حتى يتمكن في النهاية من الحصول على مصدر رزق آمن يلجأ إليه في حالة فشله في النجاح كاتبا.

لكن مسيرته الأدبية هي التي شكلت طموحه، وكانت دراساته متواصلة باستمرار، ولم تعقها إلى حد كبير محاولته المتواصلة لكسب اسم لنفسه صحفيا وكاتبا مسرحيا، كانت حياة الطالب في فيينا في العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر صاخبة إلى حد ما، بسبب الصراعات العنصرية والقومية التي غالبا ما تجسدت في مظاهر عنيفة.

كان عالم الجامعة مرآة صادقة للتعقيد السياسي للعاصمة، فقد كانت الإمبراطورية كبيرة ومتعددة الأعراق آنذاك، وكانت نقابات الطلاب متنوعة أيضا، بعضها مدفوع بنظرة ليبرالية، وبعضها الآخر يمثل ظلالا مختلفة من الشوفينية الألمانية.

صخب فيينا.. صراع طلابي مع المد القومي الألماني

خلال سنوات دراسته في فيينا، اندمج “ثيودور هرتزل” بشكل كامل في الحياة الاجتماعية في الجامعة. يقول الكاتب “ستيفن بيلر” في بحث له بعنوان “ثيودور هرتزل والنمسا، بعد قرن لاحق”: كان أبناء البرجوازية الليبرالية مثل “هرتزل” ينضمون في كثير من الأحيان إلى أخوية “بورشنشافت”. كانت هذه الروابط الأخوية تميل إلى أن تكون باتجاه الجناح اليساري للسياسة البرجوازية النمساوية، وهو ما كان يعني في ذلك الوقت القومية الألمانية اليسارية الليبرالية.

ثيودور هرتزل في المؤتمر الصهيوني في سويسرا 1901

ولم يكن التنظيم الطلابي “ألبيا” الذي انتمى له “ثيودور” استثناء، ومع أن “هرتزل” يبدو أنه كان على الطرف الأكثر اعتدالا من السياسة الطلابية، فإنه انجذب إلى هذا الاتجاه، جنبا إلى جنب مع المد القومي الألماني في السياسة الطلابية بجامعة فيينا.

ويرى الكاتب “إسرائيل كوهين” أن “ثيودور هرتزل” استفاد من نشاطه في منظمة “ألبيا”، لكنه أحس بالعداوة بعد سيطرة طلاب الحزب القومي الألماني على المنظمة الطلابية، ويقول: كانت النتيجة الحتمية أن هناك نقاشا متزايدا حول المسألة اليهودية. لم يكن تأثير ذلك مجرد إثارة إحساس حاد في “هرتزل” بوعيه اليهودي فحسب، بل كان أيضا إثارة شعور بالاستياء من زملائه.

لم يمض وقت طويل حتى شعر ببرودة متزايدة تجاهه من جانب اليهود الذين تغنوا بالألمانية، ومن جانب القوميين الألمان أنفسهم، وفي ظل هذا الاضطراب، قرأ كتابين أحدثا انطباعا قويا عليه، أحدهما كان رواية تاريخية بعنوان “يهود كولونيا” بقلم “فيلهلم جنسن”، وهي تقدم وصفا محبطا لأحوال المجتمع اليهودي في تلك المدينة في القرن الرابع عشر وحرق الحي اليهودي.

رحلة جبال البرانس.. نجاح أدبي يفتح باب الصحافة الواسع

حصل “هرتزل” على شهادة في الحقوق في عام 1884، وتوجه لممارسة مهنة المحاماة في سالزبورغ، وقد استمر في هذه المهنة عاما واحدا فقط، ربما بسبب ما ادعاه “هرتزل” لاحقا بأنه -بوصفه يهوديا- لا يمكنه أبدًا الوصول إلى قمة مهنة المحاماة في النمسا. ومنذ أغسطس/ آب 1885، بدأ “هرتزل” مسيرته المهنية كاتبا مستقلا، وحقق قدرا كبيرا من النجاح من خلال كتابة مذكراته السياحية، وتقاريره عن رحلاته الكثيرة إلى الخارج.

كانت كتاباته عام 1891 التي تدور حول أسفاره في جبال البرانس، هي التي جعلته نجما في المجال الأدبي في النمسا، وأدى هذا النجاح إلى أن تعرض عليه صحيفة “نوي فراي برس” (Neue Freie Presse) منصبا مرموقا للعمل لديها مراسلا للصحيفة في باريس.

قبل “هرتزل” هذا العرض بحماس كبير، وفي الحقيقة كان هذا المنصب الجديد أكثر ما سيعمق فكرة ما يسمى بالمسألة اليهودية وإيجاد حلول لها. يقول الكاتب “ستيفن بيلر”: فقد غيّرته الفترة التي أمضاها في باريس، وسرعان ما أصيب بخيبة أمل في السياسة الفرنسية، وهو ما يعني أنه بدأ يفهم كيف تعمل السياسة فعليا، وفي الوقت نفسه أصبح صحفيا وكاتبا أكثر فاعلية، كما أصبح مهتما بشكل متزايد بالمشكلة اليهودية.

ثيودور هرتزل في فلسطين، نوفمبر/ تشرين الثاني 1898

لقد أبدى اهتماما بهذه المسألة في 1882-1883، في وقت قريب من خلافه مع “إخوته” في “ألبيا”، ولكن فقط في أوائل تسعينيات القرن التاسع عشر، استطاع رؤية صعود معاداة السامية في فرنسا والنمسا، وبدأ يولي الموضوع اهتماما أكبر من أي وقت مضى.

في خريف عام 1894، كتب “هرتزل” مسرحية بعنوان “الحي اليهودي” (Das Ghetto)، وقد وصفت ما لم يكن بالنسبة له أزمة اجتماعية وسياسية ليهود النمسا فحسب، بل مأزقا أخلاقيا وجده اليهود المندمجون في الثقافة النمساوية.

“هيرش” و”هيرتزل”.. خلافات على تصور الدولة اليهودية

بعد ذلك بعدة أشهر، اندلعت في فرنسا قضية الجندي الفرنسي اليهودي “ألفريد دريفوس” الذي حوكم بتهم الخيانة والتجسس لصالح ألمانيا، ويزعم “هرتزل” أن تحوله نحو حتمية البحث عن أرض يقيم فيها اليهود، كان بسبب صراخ الحشود المتجمعة خلال محاكمته “الموت للخائن”، مع أن بعض الدارسين لسيرته وفكره، يدحضون زعمه ويرجحون أنه تبرير عاطفي لبلوغ هدفه.

يقول الكاتب “ستيفن بيلر”: في نهاية أبريل/ نيسان سنة 1895، كتب “هرتزل” رسالة إلى البارون “موريس دي هيرش” وهو رجل يهودي بارز، قد قام بتمويل المستوطنات اليهودية في الأرجنتين، واقترح “هرتزل” حينها المضي قدما وإقامة دولة كاملة لليهود، بدلا من الاستيطان فحسب.

أرسل “هرتزل” الرسالة بالبريد في منتصف شهر مايو/ أيار، وأجرى “هيرش” مقابلة معه بعد ذلك بوقت قصير، وكان الاجتماع كارثيا، إذ رفض “هيرش” عرضه، ومع ذلك فقد غادر الاجتماع وهو مقتنع بأنه قد وجد الحل للمشكلة اليهودية، وبعد لقائه مع “هيرش” في ذلك اليوم بالذات، بدأ “هرتزل” مذكراته من أجل القضية اليهودية.

خلال الأسابيع والأشهر القليلة التالية، عمل “هرتزل” بشكل محموم على تجميع ما سيصبح كتابه “دولة اليهود، محاولة لحل حديث للمسألة اليهودية”، ويقول الكاتب “بيلر” إن الكتاب كان في البداية على شكل خطاب داخلي إلى عائلة “روتشيلد”، على أمل إقناع النبلاء اليهود بدعم خطته.

وحين فشل في ذلك خرج إلى العلن، وأصدر “الدولة اليهودية” في أوائل عام 1896، وكانت فرضيته الأساسية تتلخص في أن معاداة السامية، مع أنها مرفوضة من الناحية الأخلاقية، فإن المعادين للسامية كانوا على حق في قولهم إن اليهود مختلفون، وهو ما يعني أن أمل اندماج اليهود في كل المجتمعات هو أمر وهمي حسب رأي “هرتزل”، وأن الطريقة الوحيدة في تحررهم هي إنشاء دولة قومية لليهود.

“إن الدولة اليهودية ضرورية للعالم ولذلك فسوف تقوم”

يقول “ثيودور هرتزل” في كتابه “الدولة اليهودية”: لا بد لي -وأنا أستعرض آرائي- أن أتحفظ تجاه خطر ما، فإذا وصفت الأوضاع المستقبلية بحذر شديد فسوف أبدو كأنني أشك في إمكانية حدوثها، ومن ناحية أخرى لو أعلنت عن آرائي بتأكيد أكبر فسوف يبدو أنني أصِف وهما، أنا أؤمن بالناتج العملي لمشروعي، ولكن دون أن أتنبأ أنني اكتشفت الشكل الذي قد يتخذه في النهاية. إن الدولة اليهودية ضرورية للعالم ولذلك فسوف تقوم.

البعثة الصهيونية للقدس برئاسة ثيودور هرتزل في نوفمبر/ تشرين الثاني 1898

ترك كتاب “الدولة اليهودية” تأثيرا فوريا في يهود أوروبا، ويرجع ذلك -في رأي الكاتب “ستيفن بيلر”- إلى أنه كان أمرا مفاجئا ليهود الإمبراطورية الروسية، أن يتبنى تلك الفكرة يهودي معروف عنه أنه مندمج في الثقافة الغربية.

يقول “بيلر”: هناك كثير من اليهود -معظمهم من الإمبراطورية الروسية- قدّموا نفس الحجة في وقت سابق له بكثير. لم يُنشئ “هرتزل” حركة قومية يهودية بقدر ما وفّر القيادة لحركة موجودة وأعاد تنشيطها، لقد وحّد مجموعة كبيرة من القوميين اليهود الروس الذين انخرطوا سنوات في محبي حركة صهيون، مع المتحولين الجدد الغربيين مثله. كان سبب نجاح “الدولة اليهودية” هو أنه كان أكثر من مجرد كتاب، بل كان مخططا لقضية قومية يهودية.

بحلول العام 1897 استطاع “هرتزل” تنظيم المؤتمر الصهيوني الأول في مدينة بازل والبدء بإصدار المجلة الصهيونية “دي فيت” (Die Welt)، وبذلك أصبح في فترة قصيرة من الزمن زعيما لحركة قومية يهودية عالمية واسعة النطاق، ومارس كل السبل للتأثير على الرأي العام في أوروبا الوسطى، مستغلا منصبه في صحيفة “نوي فراي برس” التي مكنته من فرص الدفاع عن فكرة دولة اليهود والصعود بها لأعلى المسؤولين في أوروبا والشرق الأوسط.

“الأرض الجديدة القديمة”.. احتلال ما بين النهرين على الطاولة

يقول كتاب ” ثيودور هرتزل والنمسا، بعد قرن لاحق” إن استراتيجية “هرتزل” الرئيسية في السنوات التالية هي “تحقيق إقامة دولة لليهود، أو كما صاغ الهدف الصهيوني الرسمي المتفق عليه في مؤتمر بازل، وطن للشعب اليهودي في فلسطين، يضمنه القانون العام من خلال المفاوضات الدبلوماسية.

أقام “هرتزل” اتصالات مع السلطان التركي، والحكومة البريطانية والحكومة القيصرية الروسية والبابا والحكومة الإيطالية، وحتى الحكومة النمساوية (مع أن ذلك لم يكن محوريا في خططه)، حتى أنه سافر إلى فلسطين في العام 1898 لمتابعة ما بدا في ذلك الوقت المخطط الأكثر جدية، وهو إقامة وطن لليهود تحت محمية الإمبراطورية الألمانية في عهد “فيلهلم الثاني”.

لكن مساعيه فشلت، وللتعويض عن عدم نجاحه، ولرفع معنويات أتباعه والمتعاطفين معه، كتب “هرتزل” في عام 1902 “الأرض الجديدة القديمة”، وهو في الحقيقة نسخة ثانية أكثر تفصيلا لرؤيته للدولة واليهود.

في عام 1903، حقق “هرتزل” نجاحا دبلوماسيا كبيرا، باعتراف الحكومة البريطانية بالحاجة إلى القيام بشيء لمساعدة الشعب اليهودي، وانتهى العرض البريطاني بتمكين اليهود من جزء من الأراضي الأوغندية التي تمثل الآن غرب كينيا، وهو ما أدى إلى إثارة أزمة داخل الحركة الصهيونية أدت إلى انقسام كبير داخلها، فقد أثار اقتراح “هرتزل” في المؤتمر الصهيوني السادس بقبول عرض أوغندا غضبا كبيرا بين الصهاينة الروس، إذ كانوا مصممين على أن يكون الوطن اليهودي في فلسطين، وليس في أي مكان آخر.

يقول “ستيفن بيلر”: لقد كانوا متشككين في فكرة أن أوغندا قد تكون ملجأ مؤقتا فحسب لجموع اليهود اليائسين الراغبين في مغادرة روسيا ورومانيا، قبل أن يصبح لهم وطن دائم في فلسطين. لقد كانوا يخشون أن يؤدي الحل المؤقت إلى إنهاء أي أمل في الحل الدائم الذي كانوا يرغبون فيه بشدة، وفي أعقاب ذلك سُحب عرض أوغندا.

سبق ذلك الطرح مشروع آخر للاستيطان في سيبيريا وفي العريش أيضا، وفشل كلاهما، فقد عرض “ثيودور هرتزل” على سكرتير المستعمرات البريطاني “جوزيف شامبرلان” مشروع إقامة دولة يهودية في قبرص أو شبه جزيرة سيناء أو العريش، لكنه قابل طلبه بالرفض قائلا: ستواجهنا صعوبات مع السكان الأصليين في مصر.

فرد عليه هرتزل لاحقا: لا، لن نذهب إلى مصر، لطالما كنا هناك.

مخطط علم دولة إسرائيل بقلم ثيودور هرتزل

ثم تحدث “هرتزل” مع اللورد “روتشيلد” لإقناعه بخططه، وقد اقترح عليه أوغندا، لكن “هرتزل” رفض قائلا: “أريد قبرص وشبه جزيرة سيناء”، حسب ما ذكره الكاتب “إسرائيل كوهين”، فقد نقل أن “هرتزل” طلب من اللورد “روتشيلد” عدم ضخ أموال للعثمانيين، وأسر له إنه خلال لقائه مع السلطان عبد الحميد عرض عليه بلاد ما بين النهرين لإنشاء دولة عليها، لكن السلطان رفض ذلك.

لقاء السلاطين والأباطرة.. ملاحقة الحلم الفلسطيني حتى اللحظات الأخيرة

نوّع “ثيودور هرتزل” القوى التي سيتوجه لها لدعم مشروعه، فكانت ألمانيا أول وجهة له لعرض مخططه عليها، واستعان بكل أصدقائه ليتوسطوا له لمقابلة القيصر “فيلهلم الثاني” حتى يعرض عليه مشروعه، واستطاع مقابلة القيصر بعد محاولات عدة، وذلك بوساطة من سفير ألمانيا بالنمسا “فيليب أويلنبورغ”.

كان “هرتزل” يسعى لمقابلة القيصر الألماني لإقناعه بطرح مشروع دولة يهودية في فلسطين على السلطان العثماني عبد الحميد، وكان لقاؤهما في الأستانة أواخر عام 1898، وعرض عليه مشروعه بإغراء كبير له بأن الدولة اليهودية في فلسطين ستكون تحت حماية ألمانيا، وأن حدود الدولة اليهودية ستكون في البداية في حدود فلسطين آنذاك، لكن السلطان عبد الحميد رفض ذلك، مع أنه حوصر بضغط كبير من ألمانيا والولايات المتحدة الأمريكية.

لذلك طلب القيصر من “هرتزل” العدول عن الفكرة تماما، وهو ما شجعه على طلب لقاء خاص مع السلطان عبد الحميد، بوساطة من السكرتير العام لمكتب الخارجية العثماني، فقد وعده بترتيب لقاء له مع السلطان، وقد استطاع لقاءه في مايو/ أيار عام 1901، لكنه فشل في نيل وعد من السلطان العثماني بتمكين اليهود من فلسطين.

ظل “هرتزل” يفتح جبهات الدعم حتى قبل أشهر من وفاته، حين قابل الإمبراطور الإيطالي “فيكتور إيمانويل الثالث” والبابا “بيوس العاشر” في يناير سنة 1904، قبل أن يتوفى في الثالث من يوليو/ تموز سنة 1904.

لقد مات “هرتزل”، لكنه زرع قبل مماته قنبلة بقيت في حالة انفجار دائم منذ ما يقارب القرن، وبقيت أشلاء أصحاب الأرض تتهاطل أمام أنظار العالم حتى يومنا هذا.