عبد الغفار خان.. قصة الرجل الذي وحد البشتون تحت لواء “خدام الله”

وثائقي يتحدث صُنّاعه -لؤي حفار وجابر بكر- عن تجربتهم الصعبة في جمع المعلومات عن رجل لم يكتب التاريخ عنه الكثير، جابوا بلدانا ومدنا والتقوا مع بعض من عاصر أو عرف بطل هذا الوثائقي ومن بينهم حفيده الذي استغرب تأخرهم في عمل هذه المادة، ويروي الكاتب حكاية الفيلم.

“إنه الأربعاء الثالث والعشرون من نيسان/أبريل عام 1930، لا تكاد خيوط الفجر الأولى تشق طريقها عبر قمم الجبال إلى شوارع مدينة بيشاور الترابية. عشرات من جنود الحكومة الهندية البريطانية يتسللون، والخوف يعتريهم، يقتحمون بيوت قادة حركة “خدّام الله” وعلى رأسهم عبد الغفار خان، يعتقلونهم سريعا ويلوذون بالفرار قبل أن تصحو المدينة.

يظن نائب المفوض بمقاطعة الحدود الشمالية للهند، وفق خريطة ذاك الزمان، السير هـ. أوبري ميتكالف، بأنها حركة استباقية ستحبط تحرك قبائل البشتون ضد الاستعمار البريطاني لشبة القارة الهندية. وفي الوقت الذي يساق فيه قادة الحركة إلى سجونهم، وقبل وصولهم إلى زنازينهم تمتلئ شوارع وساحات بيشاور بـأفراد حركة “خدّام الله”، إنه جيش أحمر، لا سلاح يحمله عدا عقيدته السلمية، ليسقط منهم العشرات برصاص القوات البريطانية في مجزرة وقعت يومها”.

قاد عبد الغفار خان أكبر تجمع سلمي لا عنفي ضد الاستعمار البريطاني في شبه القارة الهندية

هكذا كان موعدي الأول مع عبد الغفار خان وحركة خدّام الله، ويومها كنت أعمل على استكمال ملف سلسلة وثائقية بعنوان “غرب المتوسط، شرق العالم”.

مؤسس الحركة.. خيوط نادرة تقتفي رائد الاحتجاج السلمي

كلما بحثت أكثر عن ذلك اليوم وتفاصيله، وعن عبد الغفار خان وخدّام الله، أُصدم بندرة المعلومات باللغة العربية، لكنني قررت مشاركة القصة والتفاصيل المتواضعة التي جمعتها مع الصديق المنتج لؤي حفار. تذاكرنا الرجل، فهو معروف قليلا في أوساط حركات عدم العنف في العالم الإسلامي. وكنت قد سمعت به عن طريق الراحل الشيخ جودت سعيد، وهو أحد أبرز أسماء عدم العنف في سوريا، وكذلك الحال بالنسبة لصديقي لؤي حفار، فهو قد قرأ عنه منذ زمن بعيد حين كان طالبا في تخصص فضّ المنازعات بأمريكا.

ورغم قلة الموارد، فقد اتخذنا قرارا بالعمل على الحركة ومؤسسها عبد الغفار خان. فإذا بنا أمام جغرافيا ذات تعقيدات سياسية واجتماعية وقبلية واسعة، تضم الهند وباكستان وأفغانستان، بكل ما تحمل هذه الدول من ماضٍ مشترك؛ إيجابي وسلبي.

فالبشتون الذين ينتمي لهم عبد الغفار خان، هم منقسمون بين هذه البلدان الثلاث، وبالأخص بين باكستان وأفغانستان، ولم تغب عن البال الأخطار الأمنية التي تواجه فريق الإنتاج إذا ما قرر السفر إلى الحدود الباكستانية الأفغانية، حيث أكبر تجمع لبقايا الحركة، كما اكتشفنا لاحقا.

استطاعت بريطانيا وعبر شركة الهند الشرقية السيطرة على أربع بلدان كبيرة في شبه القارة الهندية

لم يمنعنا جميع ما سبق من تحديات من التوسع بالعمل، بل إننا اكتشفنا بعض المقاطع البرامجية المحلية القصيرة التي تتناول سيرة عبد الغفار خان، ولقطات من فيلم دولي وحيد عرض لمرة أو مرتين ثم اختفى كليا، حتى بتنا أمام خيار يتيم، هو بعض المراجع الأكاديمية وكتاب سيرة ذاتية لعبد الغفار خان بقلمه، وبعض كتب السيرة بأقلام آخرين. ثم تقاسمنا العمل، أما لؤي حفار فهو يقرأ ويلخص السيرة الذاتية لعبد الغفار، وأنا أتابع البحث بمجتمع خدّام الله والتاريخ الاجتماعي والسياسي لتلك المنطقة المعقدة.

“تقدموا واحدا تلو الآخر لمواجهة رصاص الجنود”

انطلقت في بحثي من يوم المجزرة التي وقعت في الثالث والعشرين من نيسان/أبريل عام 1930، وباتت تعرف لاحقا باسم “مجزرة سوق القصاصين”. ويصفها الكاتب “جين شارب” صاحب كتاب “المقاومة اللاعنفية”، فيقول: عندما سقط من يقفون في المقدمة متأثرين بجراحهم، تقدّم من يقفون خلفهم بصدور مكشوفة لتلقي النيران. كان بين القتلى من أُصيب بأكثر من عشرين رصاصة، لكن الرجال حافظوا على وقفتهم الاحتجاجية.

احتجاجات سلمية ضد الاستعمار البريطاني في 1930 أدى إلى سقوط أكثر من 250 برصاص العدو

وكتبتْ صحيفة “لاهور” (الأنجلو-هندية)، وكانت تمثل يومها وجهة النظر الرسمية لقوات الاستعمار، بأن الناس “تقدموا واحدا تلو الآخر لمواجهة رصاص الجنود، من يسقط منهم جريحا يُسحب إلى الخطوط الخلفية ليتقدم التالي”. وقد استمر إطلاق النار من الساعة الحادية عشرة صباحا حتى الخامسة مساء، حتى تجمعت جثث القتلى بالعشرات، بيدَ أن الإدارة الاستعمارية لم تعترف إلا بأربعين ضحية فقط. بينما تُقدر أعداد القتلى بأكثر من 230 قتيلا وأكثر من 500 جريح.

غلاف كتاب” حياتي وكفاحي” لعبد الغفار خان

إذن فنحن أمام حكاية كبيرة جدا، أمام شعب انتقل من ثقافة العنف والانتقام إلى ثقافة المقاومة السلمية بأقصى أشكالها، مما ولد عشرات الأسئلة خلال البحث، ربما أهمها: كيف وصل البشتون إلى هذه القناعة اللاعنفية في مواجهة النيران بصدور عارية؟ وكيف نجحت رحلة عبد الغفار خان في بناء هذه الأسطورة؟ وهل كانت زياراته لأماكن تواجد البشتون في قرى الحدود الثلاثين ألفا كافية؟

الرحلة التي دونها في مذكراته، وأخبرني عنها لؤي حفار في اجتماعاتنا التالية، عملنا من خلالها على تشكيل معالجة أولية للفيلم. في الواقع صار عبدُ الغفار وحركته شغلَنا الشاغل ونقاشنا شبه اليومي، منذ نهاية العام 2021 وحتى تسليم العمل لقناة الجزيرة الوثائقية بعد عدة أشهر.

ولد عبد الغفار خان المعروف بـ”باشا خان” في بيشاور  بباكستان سنة 1890

فكيف استطاع عبد الغفار خان إقناع البشتون باشتراطه حلّ خلافاتهم البينية للانضمام إلى حركة “خدّام الله”؟ هل فعلا استحالت المصالحات سُلّما للصعود والانتماء إلى ذلك الإطار المجتمعي الجديد الذي شكله عبد الغفار خان؟

الصلح أو القتل.. حكايات أسطورية عن عقيدة عميقة

تقول الحكاية إن أحد رجال البشتون ذهب إلى غريمه البشتوني وخصمه بعد خلاف دامي، توجه إليه حاملا بندقيته وكفنه، ليطلب منه أن يقتله أو يسامحه، فهو لا يريد أن يبقى خارج “خدّام الله”. فما كان من خصمه إلا أن انحنى على قدميه وقبّلهما وعفا عنه، وصارا معا جنديين في حركة “خدّام الله” للدفاع عن أبناء جلدتهم. إنها حكاية ساحرة عن قدرة الإيمان العميق النابع من ثقافة وعقيدة هذا الشعب، لا عن تعليمات أجنبية أو مراجعات فلسفية غربية.

استطاع عبد الغفار خان إقناع المجتمع البشتوني الصلب في أن يكون مجتمعا سلميا

كيف لمجتمع عانى من كل أشكال الإهمال السياسي والاقتصادي أن يتحول إلى حركة شديدة التنظيم؟ مجتمع كان يرى المستعمرُ الإنكليزي أن أبناءه يملكون كل أسباب ودواعي الثورة ضد المستعمر، لكنهم -أي البشتون- لا يعرفون كيف يثورون لنيل حقوقهم؟ بل إنهم لا يدركون بأنهم مستعمَرين، بحسب بعض الآراء.

كانت لمنطقة الحدود الشمالية الغربية في الهند قوانينها الخاصة التي تزيد قسوة حياة سكانها، وتعاني من الإهمال والتهميش خلافا للمناطق الهندية الداخلية. فهل كانت المصالحةُ التي دعا لها عبد الغفار خان طاقةَ البناء التي استمدت جذوتها من ثقافة الكرامة والمروءة والفروسية البشتونية التي يتميز بها هذا الشعب العريق، وشيدت هذه الطاقة تلك الأسطورة اللاعنفية؟

حركة المقاومة السلمية.. نمو متفاحش يتحدى القمع الشديد

لم يكن عبد الغفار خان –المسلم الملتزم- رجل كلام أو رسائل أو أدبيات، وإنما كان إنسانا حركيا وعمليا. يقول على لسانه “إكناث اسواران” أحد كتاب سيرته في كتابه “رجل ولا كل الرجال”: للفوز بالاستقلال، ولدت فوق أرضنا حركتان، الأولى تبنت العنف، والثانية اتخذت عدم العنف سبيلا.

بدأت الحركة العنيفة أولا ثم بعد ثلاثة أو أربعة عقود انطلقت حركة المقاومة السلمية عام 1929. وقد قضى البريطانيون على حركة المقاومة العنيفة في زمن قصير، لكن حركة عدم العنف نمت رغم القمع الشديد.

جيش “خدّام الله”.. جيش منظم بلا سلاح قوامه 250 ألف شخص

أنتجت الحركة العنيفة الخوف والجبن، فجعلت الناس ضعفاء أخلاقيا وضعاف القلوب، أما الحركة السلمية فقد أزالت الخوف من قلوب البشتون وجعلتهم شجعانا ورفعت معنوياتهم. كيف لا يكون “خدّام الله” شجعانا، وهم المنحدرون من شعب عريق ذو تاريخ نضالي طويل، شديد البأس، أبناؤه مقاتلون شرسون، ومؤمنون ملتزمون (معظمهم مسلمون).

سلاح العصيان المدني وعدم العنف.. وطنية برائحة هندوسية

يقيم البشتون بشكل أساسي في المنطقة الواقعة بين سلسلة جبال هندوكوش في شمال شرق أفغانستان والقسم الشمالي لنهر إندوس في باكستان، وأبرز صفاتهم رفضهم تدخل الآخرين في شؤون حياتهم أو التحكم بهم. وقد ضمت حركة “خدّام الله” ما يقرب من 250 ألف شخص، أغلبهم من قبائل البشتون (المتناحرة سابقا).

“الإثنية والإسلام والوطنية”، كتاب يتحدث عن فكر عبد الغفار خان في تأسيس حركة “خدام الله”

كانت إمكانياتهم البشرية وشجاعتهم تؤهلهم ليكونوا جيشا من المقاتلين، لكن الحركة اعتمدت مبدأ عدم العنف والعصيان المدني في مقاومة الظلم والاحتلال. كانوا منضبطين على نسق أنظمة الجيوش من حيث التراتبية العسكرية، واللباس المشترك، ولكن من دون قطعة سلاح واحدة. وكان هدفهم مقاومة الاحتلال البريطاني وتحقيق الاستقلال لشبه القارة الهندية بالمقاومة السلمية التي تمثلت بمقاطعة الصناعات الأجنبية، ونشر التعليم بين الناس على اختلاف مستوياتهم الاجتماعية، والتظاهر وغيرها من أدوات المقاومة السلمية.

اشتغل عبد الغفار خان جنبا إلى جنب مع غاندي لمنع تقسيم شبه القارة الهندية

لم ينل منهج الشجعان هذا قبول كل الأطراف السياسية المسلمة في ذلك الوقت. فـ”رابطة المسلمين” اعتبرت أن الحركة تحابي الهندوس بطريقة ما، سواء إن كان باللباس الأحمر، أو بطريقة المقاومة، أو بالدفاع الدائم عن الوحدة الهندية ورفض التقسيم. فهل فعلا كان عبد الغفار خان تابعا لـ”غاندي”؟ هل كانت حركة “خدّام الله” البشتونية امتدادا لتلك الحركة الهندية الهندوسية؟ خاصة وأن معظم الدراسات التاريخية المتعلقة بتلك المنطقة والمرحلة تشير إلى أن عبد الغفار خان كان لديه حلمان: “الأول، بناء هند مستقلة وذات سيادة بحيث تكون دولة علمانية ديمقراطية تعددية وموحدة. والثاني هو الحرية والاستقلال والتقدم لشعبه البشتون”، أي الحرية بطريقة الحكم الذاتي إن صح التعبير، بإعطاء الشعوب قدرة على إدارة حياتها بذاتها الفدرالية.

“لماذا جئتم اليوم لتصنعوا فيلما عن جدي؟”

وضّب الفريق في حقيبته كل تلك المعلومات والاستشارات التي شملت صحافيين عملوا في المنطقة، باكستان وأفغانستان، بعد كل هذه المقدمات النظرية عن الواقع والتجربة وما دوّنه عبد الغفار خان بقلمه، والقليل الذي كُتب عن الحركة، والأهم ما زودتنا به الأستاذة الجامعة والباحثة الهندية البريطانية “موكوليكا بانيرجي” التي أجرت أبحاثا ميدانية عن الحركة في باكستان، وقابلت في ثمانينات القرن المنصرم بعضا ممن كان منهم على قيد الحياة.

قصد أعضاء الفريق العاصمة الباكستانية إسلام أباد، وبرفقة باحث ميداني محلي انطلقوا إلى مدينة بيشاور بأرض البشتون، ولكن بعد اتخاذ بعض الإجراءات الأمنية اللازمة. وحين وصل الفريق إلى المنطقة، أول ما قابلهم سؤال حفيد عبد الغفار المستهجِن للنسيان الطويل، أو ربما المستغرِب من رغبة قناة الجزيرة الوثائقية في تصوير حكاية خدّام الله وعبد الغفار خان اليوم. فسألنا: لماذا جئتم اليوم لتصنعوا فيلما عن جدي؟

رغم معارضته الشديدة لانفصال باكستان عن الهند، أدى عبد الغفار خان قسم الولاء لباكستان

زار الفريق مقرّ حزب “عوامي” الذي يحاول الحفاظ على تراث الحركة السياسي والثقافي حاضرا، ومن ثم زار متحفا شديد التواضع عن عبد الغفار ومقتنياته وعن الحركة، وفيه بضعة أعمال باكستانية مصورة عن الحركة وعبد الغفار، ولكنها مفرطة بالمحلية.

ابتدأت الكاميرا بتسجيل السيرة الذاتية لعبد الغفار خان في رواية الحكاية التاريخية للمنطقة وتفكيك حركة “خدّام الله”، مستغرقة في رحم ذلك الشعب العريق البشتوني الذي ولدت فيه الحركة.

وقد حظي الفريق بفضل الباحث الميداني، بعدد كبير من الضيوف، من ذوي الخبرة والمعرفة العالية بهذه الحركة، وبتاريخ المنطقة السياسي والاجتماعي، وبعض أفراد أسرة عبد الغفار خان. كما حصل فريق الفيلم على لقطات أرشيفية مميزة وثّقت ما سجلته الكاميرا المعاصرة من تفاصيل الماضي.

جائزة نوبل للسلام.. ترشيحات وجوائز كبرى وأسئلة عالقة

استدعى الفيلم -الذي أخرجه شادي خدّام- واقع المنطقة المهملة تحت رحمة سؤال: كيف استطاع عبدُ الغفار خان -بالتعاون مع أبناء جلدته البشتون- إعادةَ ترميم البشتون والتحول إلى حركة شديدة التنظيم، وعالية المقاومة في وجه الجيش الملكي البريطاني؟

تكريما لهذا الرجل العملاق، أطلق اسمه على جامعة بيشاور

يمثل الفيلم اليوم سردا تاريخيا لقصة إنسانية سياسية عميقة تضيء واقعنا العربي الإسلامي المعاصر، إنها سردية تثير عشرات الأسئلة عن أدوات المقاومة المعاصرة، وسبل نجاحها أو فشلها.

وفي النهاية زال الاحتلال الإنجليزي عن شبه القارة الهندية، واتخذ قرار تقسيم الهند وباكستان، مما دفع عبد الغفار خان ورجاله إلى الرضوخ والإعلان عن ولائهم لدولة باكستان، لكن بقيت مواقف عبد الغفار خان وحركته السلمية حاضرة كفكرة ونظرية، وباتت حركة “خدّام الله” حركة محظورة، وزُج بأبنائها في الحبس وتعرض أفرادها للاعتقال والمضايقات وحتى القتل، بسبب مواقفهم المعارضة -ابتداء- لفكرة التقسيم، وبسبب مطالبتهم بحكم ذاتي لمناطق البشتون.

حين توفي عبد الغفار خان نُكّست أعلام ثلاث دول كبرى وسار في جنازته رؤساؤها تكريما له

وقد رُشح عبد الغفار خان لنيل جائزة نوبل للسلام مرتين عامي 1988-1998، كما كُرّم من قِبل منظمة العفو الدولية عام 1962 ومنظمة سجناء الضمير البريطانية، وقام “جواهر لال نهرو” أول رئيس لوزراء الهند بتكريمه عام 1967 بأعلى وسام وطني هندي.

أين هو عبد الغفار خان الآن؟ لا نعني السؤال عن جثمانه الذي يرقد اليوم في قبره بمدينة جلال آباد الأفغانية منذ العام 1988، حيث قضى أيامه الأخيرة، لكن السؤال أين هو اليوم في ثقافتنا وتاريخنا؟ ألا يحق لنا البحث عن أبناء جلدتنا والتعلم منهم ومن تجاربهم؟