“تأثير مارثا ميتشل”.. صاروخ غير موجه يسقط الرئيس الأمريكي ويهزم الإعلام

لم تكن “مارثا ميتشل” زوجة النائب العام الأمريكي مجرد امرأة عادية، بل كانت القشة التي قصمت ظهر السياسية الأمريكية، بعد أن فضحت مؤامرة الرئيس “ريتشارد نيكسون”، وكشفت الأقنعة المتعددة والفساد المستشري في البيت الأبيض. فما قصة هذه المرأة التي فضحت ألاعيبهم في الإعلام؟

“ووترغيت”.. فضيحة انتخابية أقالت الرئيس الأمريكي

يعود الفيلم الوثائقي “تأثير مارثا ميتشل” (The Martha Mitchell Effect) للمخرجين “أنا ألفيرغ” و”ديبرا مكلوتشي” لواحدة من أكثر القضايا فسادا في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية الحديث.

ويتعلق الأمر بجريمة زرع أجهزة التنصت في مكاتب الحزب الديمقراطي بمبنى “ووترغيت”، وقد تورّط الرئيس “ريتشارد نيكسون” في هذه الفضيحة المدوية، خاصة أنه كان يعاني من قلة الأصوات في عملية التجديد التي كان يبحث عنها، أمام المترشح الديمقراطي “جورج ماكغفرن”.

وقد قدّم الرئيس “نيكسون” استقالته بعد أن ثبت تورطه في هذه الفضيحة المدوية، كما أدانه القضاء، لكن خليفته الرئيس “جيرالد فورد” أصدر له عفوا رئاسيا.

“مارثا ميتشل”.. ذات الصوت المسموع في أروقة البيت الأبيض

كانت “مارثا ميتشل” (1918-1976) مثالا حيّا للمرأة الحداثية المنفتحة والشجاعة، تواجه كل حدث أو موقف بكل حزم، تقول كل ما يخطر في بالها دون تورية، لدرجة أنها باتت المرأة المحببة لدى الإعلام الأمريكي الذي بات يتبعها في كل مكان.

وقد اكتسبت هذه المرأة سلطتها من خلال زوجها النائب العام الأمريكي “جون ميتشل” (1913-1988)، الذي كان قبل هذا محامي سندات وشريكا في مكتب محاماة مع “ريتشارد نيكسون”، وقد تولى إدارة حملته الانتخابية سنة 1968، كما كان صديقه المقرب.

لهذا أصبحت “مارثا ميتشل” من نساء البيت الأبيض، لكنها لم تكن مثلهن، إذ دأبت العادة أن تجتمع النساء في إحدى القاعات، يثرثرن ويتحدثن عن الكثير من الأشياء، بينما يجتمع الرئيس وحكومته في القاعة المجاورة للحديث عن الشؤون العامة، لكن “مارثا ميتشل” كسرت هذه القاعدة، وأصبحت تجلس معهم وتخوض معهم في الشؤون السياسية، حتى أصبح صوتها مسموعا في أوساط مختلفة.

“زوجتك باتت خطرا كبيرا”.. جرأة وانتقاد للحكومة والرئيس

كانت “مارثا ميتشل” تتدخل في كل كبيرة وصغيرة، حتى أنها عُرفت في ذلك الوقت بالمكالمات الهاتفية التي تجريها في كل وقت -ولو بعد منتصف الليل- مع طاقم الحكومة وحتى مع الرئيس “نيكسون” شخصيا، فكانت توقظه وتسأله بشكل عادي، وقد أحب الإعلام الامريكي هذه المرأة لدرجة غير مسبوقة، وأصبحت صورتها على أوجه الصحافة المكتوبة.

مارثا أثناء إجرائها أحد المكالمات الهاتفية مع أحد أفراد الحكومة أو الرئيس

وكانت “مارثا” أيضا حاضرة في أستديوهات التلفزيون، لأنها تصنع الخبر بكل سهولة، كما كانت تتحدث في كل شيء ولا تخشى أحدا، وكانت توجه لـ”نيكسون” ملاحظات وتنتقده، لهذا بات يخاف منها ومن تصريحاتها، حتى أنه اتصل في أحد المرات بزوجها “جون ميتشل” وقال له “زوجتك باتت خطرا كبيرا”.

“صاروخ غير موجه”.. زوجة النائب العام الخارجة عن السيطرة

أجاب “جون ميتشل” النائب العام الأمريكي والرجل المقرب من الرئيس “نيكسون” عندما طرح عليه صحفي سؤالا عن زوجته “مارثا” كما يفعلون دائما، وهذا في أحد مؤتمراته الصحفية بأنه بوسعه السيطرة فقط على أقوالها أو أفعالها، لكنه لا يستطيع السيطرة عليهما معا.

كما وصفها بأنها “صاروخ غير موجه”، لأن لا أحد يتوقع أقوالها أو أفعالها، خاصة الرئيس شخصيا، أما هي فقد كانت لديها وجهة نظرها من خلال علاقتها بالإعلام، إذ قالت إن كل الإدارات كانت مناوئة للصحافة، وهذا ما جعلني أتقرب منها.

تروي صحفية البيت الأبيض “هيلين توماس” العاملة في صحيفة “يونايتد برس إنترناشونال” خلال مقابلة أجريت معها في هذا الفيلم؛ أنها كانت عائدة ذات مرة من كاليفورنيا على متن الطائرة الرئاسية، وكانت “مارثا” وزوجها “ميتشل” على متنها، وقد سألتها عن رأيها في لبس التنانير القصيرة.

فردت عليها بقولها “لماذا لا تسألينني عن شيء مهم؟” ثم أتبعت سؤالها بسؤال لم تتوقع الرد عليه، وهو عن رأيها في حرب فيتنام؟ فقالت “مارثا” إنها حرب قذرة، وقتها كان الصحفيون منشغلون في لعب الورق على متن الطائرة، وفور أن سمعوا هذا التصريح بدأوا في تدوين أخبارها، فمُنعت بعد ذلك من ركوب الطائرة الرئاسية.

“لقد خلقنا وحشا يشبه فرانكشتاين مع الصحافة”

عملت “مارثا” مع زوجها “ميتشل” في الحملة الانتخابية لتجديد عهدة الرئيس “نيكسون”، وفي خضم الحملة قبضت الشرطة يوم 17 يونيو/حزيران عام 1972 على خمسة أفراد كانوا يزرعون أجهزة تنصت في مقر الحزب الجمهوري.

مارثا ميتشل على طاولة عشاء في البيت الأبيض مع الرئيس رتشارد نيكسون قبل أن ينقلب عليها

وقد ساد الظن وقتها أنها مجرد عملية سرقة، لكن تبين فيما بعد أنها مؤامرة سياسية، خاصة أن أحد حراس “مارثا” تورط في القضية، وهو “جيمس ماكورد”، لكن جرى التستر على القضية، كما أرغمت “مارثا” على السفر إلى كاليفورنيا، وهناك حُبست في غرفتها بأحد الفنادق، وعندما بدأت في الصراخ حُقنت بمهدئ.

وقد حثّ وقتها الرئيس “نيكسون” مستشاره ومدير حملته الانتخابية “جون ميتشل” على الاستقالة، وسُربت مكالمة هاتفية جرت بينهما يوم 30 يونيو/ حزيران عام 1972 قال له فيها إن “مارثا” تجاوزت الحد هذه المرة “لقد خلقنا وحشا يشبه فرانكشتاين مع الصحافة”، وقد استقال بعدها.

وأما “مارثا” فقد صرحت مرات كثيرة بأنها هي وزوجها بريئان من هذه الفعلة، وقد تركها زوجها، خاصة أنها بدأت في مواجهة مباشرة مع الرئيس “نيكسون” وطالبته بالاستقالة، وقالت إنها كانت سجينة سياسية في فندق بكاليفورنيا، كما أدخلت للمصحة النفسية، وقد نظمت حملة إعلامية لوصفها بالمجنونة، لكنها رغم كل هذا بقت صلبة.

مؤامرة الرئيس.. تسجيلات تكشف المدان وتبرئ الضحية

حين كانت “مارثا” تقول للإعلام إن زوجها كبش فداء للرئيس “نيكسون” لم يصدقها أحد، خاصة الحزب الديمقراطي، لكن عندما صرح المتهم باقتحام الحزب “جيمس ماكورد” بقوله إن “جون ميتشل” كان يعرف بعملية “ووترغيت” مسبقا انقلبت الموازين، وأصبح الكل يعرف بأن هذه المؤامرة الكبيرة يقف خلفها الرئيس “نيكسون” شخصيا الذي أطلق خلال حمله الانتخابية وعودا بضرورة إعادة إحلال القانون والنظام، وقد توصلت التحقيقات إلى المكالمات الهاتفية التي سجلها الرئيس “نيكسون” سرا بين عامي 1971-1973 في البيت الأبيض والمكاتب التنفيذية.

وقد ذُكر اسم “مارثا ميتشل” في تلك الشرائط أكثر من مئة مرة، وعندما كُشف عن هذا أمام الرأي العام انخفضت شعبيته، وقرر الكونغرس توجيه اتهامات رسمية له، لهذا سارع الرئيس “نيكسون” لتقديم استقالته سنة 1974، وقد أدين بجريمة التنصت، لكن الرئيس الذي جاء بعده أصدر في حقه عفوا رئاسيا.

وبعد ذلك عرف العالم الحقيقية، وهي عدم صلة “مارثا ميتشل” بهذه المؤامرة الدنيئة، لتجد بعدها المسكينة نفسها وحيدة بدون أي دخل مادي، إلى توفيت سنة 1976، بعد أن حاصرتها الأمراض، كما حُكم على زوجها “جون ميتشل” بالسجن.

باقة ورد أرسلها مجهول يوم وفاة مارثا وكتب عليها “مارثا لها الحق”

سنة 1988 صاغ أستاذ علم النفس من جامعة هارفرد “بريندان ماهر” مصطلح “تأثير مارثا ميتشل”، وهو مصطلح يصف حالة تُصنف فيها معتقدات المرء على أنها توهيمية في البداية، لكن يتبين لاحقا أنها حقيقية.

سقوط الأقنعة.. تهافت ادعاءات مصدر الديمقراطية في العالم

استطاعت المخرجتان “آنا ألفيرغ” و”ديبرا مكلوتشي” تقديم فيلم رزين وقوي، أسقطتا من خلاله الأقنعة المتعددة التي ترتديها الولايات المتحدة في عدد من المناسبات، بحكم أنها مصدر الديمقراطية في العالم، بل إنها تقدم الدروس لعدد من البلدان في هذا المجال وتعاقب أخرى، في حين أن قضية “ووترغيت” التي أثارت عاصفة سياسية في العالم لا تزال معالمها السوداء واضحة إلى غاية اليوم، وما خفي من المؤامرات أعظم.

وقد صاغت المخرجتان هذه المنطلقات من خلال “مارثا ميتشل” التي حاول الإعلام شيطنتها لأنها قالت الحقيقية، بتحريض واضح من رجال السياسية وأصحاب المصالح والرئيس نفسه، حتى أنهم فكروا في تصفيتها جسديا، بعد اتهامها بالجنون والمرض النفسي.

وهي نفس المعطيات والمؤامرات التي حيكت في أمريكا وعدد من دول العالم من طرف أمريكا نفسها، مثل ما حدث مع الرئيس “جون كيندي” الذي صُفّي هو الآخر، ولغاية اللحظة لا تعرف الحقيقة الجازمة لهذه الجريمة.

أرشيف الحادثة.. وثيقة سمعية بصرية تقف في وجه الزمن

عكس فيلم “تأثير مارثا ميتشل” القيمة الكبيرة للأرشيف السمعي البصري في توثيق الأحداث المهمة، وقد أحسنت المخرجتان في استعمال هذا الإرث بطريقة ذكية جدا، فصنعتا به فيلما سينمائيا وثائقيا في غاية الأهمية، لأنه كشف عددا من الحقائق التي كانت مغيّبة عن الشعب الأمريكي والرأي العام العالمي، كل هذا من منطلق التنسيق الجيد الذي قامتا به.

مارثا ميتشل مع زوجها النائب العام الأمريكي جون ميتشل

وقد ساهم المونتاج -الذي تحول إلى عنصر محوري- في خلق الإيقاع الدرامي وفق سياق تاريخي مضبوط بعناية فائقة، كما قدّم الفيلم عددا من المعلومات بشكل موضوعي، من دون الميل إلى جهة على حساب أخرى.

من هنا تكمل قوة الفيلم وسحره الخاص، وهي الروح المطلوبة لصناعة فيلم وثائقي مقنع ذي محمول معرفي ومرجعية ثقافية كحال هذا العمل.