“لوي آرمسترونغ”.. عازف الجاز الأسود الذي قهر العنصرية بأنغامه وحروفه

“حين كنت شابا عزفت في 99 مليون فندق، لكنني لم أستطع أن أبيت فيها، عانيت الكثير عندما كنت موسيقيا صاعدا بصفتي رجلا أسود، وحين كنا على الطريق في جولاتنا الفنية، كان من الصعب أن نجد مطعما نأكل فيه، أو مرحاضا يقضي فيه المرء حاجته، لا لشيء سوى أن حافلتنا مليئة بالسود”. “لوي آرمسترونغ” 1968.

فيلم “لوي آرمسترونغ.. أسود وبلوز” (Louis Armstrong’s Black & Blues)، من بين الأفلام الوثائقية المهمة التي صدرت مؤخرا (2022)، وهو من إخراج “ساشا جنكينز”، وقد أنتجته منصة “آبل تيفي”، وشارك في عدة مهرجانات سينمائية مهمة.

“لوي آرمسترونغ”.. قصة نجاح تكسر قوانين العنصرية

لم تستطع السينما الأمريكية رغم قوتها وتاريخها وغزارة إنتاجها استيعاب قضايا الظلم والقهر والاستعباد والعنصرية التي مسّت السود عبر تاريخهم الطويل والعريض، لكثرتها وتشعبها وإفرازاتها غير المنتهية، إذ يملك كل رجل أمريكي أسود قصة أو آلاف القصص عن مظاهر العنصرية، سواء تلك التي عاشها بنفسه، أو سمعها عن والده أو جده أو أحد من أسلافه القدامى، خاصة من النخب والفنانين والأدباء وأصحاب العقل الراجح من الذين عرفوا كيف يعكسون آلامهم وأوجاعهم في شيء ما، حتى يُعبروا عنها بطريقة مختلفة، لتشكل في مجملها ذاكرة جماعية يلتف حولها السود، يتشاركون فيها ويهتمون بها.

ومن بين تلك الأشياء الموسيقى التي برعوا فيها، حتى أنهم صنعوا فيها ألوانا كثيرة، ولم تنحصر تأثيراتها على عرقهم فقط، بل وصل حتى إلى البيض في أمريكا وفي العالم أجمع، من بينهم وربما يكون من أهمهم المغني وعازف الجاز “لوي آرمسترونغ” (1901-1971)، فقد صنع قاعدة جماهرية رهيبة جمعت كل الأعراق، رغم العنصرية والقهر الذي تعرض له طوال مساره الطويل والحافل.

“ساشا جنكينز”.. مخرج مهموم بأنين القضايا السوداء

التزم المخرج الأمريكي ذو الأصول الأفريقية “ساشا جنكينز” (52 سنة) في أفلامه الوثائقية بقضايا السود، وتطرق في كثير منها إلى مشاكلهم ومساراتهم والمطبات التي واجهتهم، حتى القضايا العصرية التي يعانون منها حاليا، من بينها فيلم “احترق يا سافل، احترق” (Burn Motherfucker, Burn) الذي صدر سنة 2017، وقد ذهب فيه صوب جذور الاضطرابات المدنية في كاليفورنيا، مع تحليل العلاقة بين الأمريكيين السود وشرطة لوس أنجلوس.

وكذلك فعل في الفيلم الوثائقي “ارتُديَ حديثا” (Fresh Dressed) الذي أُنتج عام 2015، إضافة إلى عدد من الأعمال الأخرى، ليواصل “ساشا جنكينز” السير على درب الالتزام بقضايا أبناء عرقه، وهو يسلط أضواءه السينمائية هذه المرة على المغني وعازف الجاز الأشهر في أمريكا “لوي آرمسترونغ”، وهو أحدث أفلامه الوثائقية الموسيقية، وقد عُرض نهاية سنة 2022 تحت عنوان “لوي آرمسترونغ.. أسود وبلوز” (Louis Armstrong’s Black & Blues).

ويُعد “آرمسترونغ” الأب المؤسس لموسيقى الجاز ونجم البوب الأول في أمريكا والعالم، والسفير الثقافي الذي سافر لكل الدول والقارات، حاملا في يده البوق الذي لا يفارقه، وفي اليد الأخرى ثقافة السود وعاداتهم وتقاليدهم الموسيقية.

“ساتشمو”.. قيمة إنسانية مدوّنة بين ثنايا الدفاتر

من بين المعطيات المحورية التي أعطت للفيلم الوثائقي “لوي آرمسترونغ.. أسود وبلوز” قيمته الجمالية وأهميته الوثائقية هي وصول المخرج “ساشا جنكينز” إلى الأرشيف الشخصي لـ”آرمسترونغ”، خاصة أنه كان يعرف جيدا بأنه سيتحول مع الوقت إلى نجم كبير، وحتى يقطع كل التأويلات الخاطئة عن مساره وحياته؛ فقد دوّن كثيرا من الأشياء عنه، فقام بتسجيلها وكتابتها في دفاتر، لهذا لا يمكن لأي فرد أن يُحرّف أو يضيف شيئا على ما هو موجود.

لوي آرمسترونغ يحمل في يده البوق وأمامه آلة تسجيل

لهذا استغلها المخرج أحسن استغلال، وبالتالي أعطى لفيلمه بُعدا توثيقيا ومعرفيا في الوقت نفسه، لأنه لم يُظهر القيمة الموسيقية لـ”آرمسترونغ” المعروف بتسمية “ساتشمو” فقط، بل تعداها إلى قيم إنسانية أخرى، من خلال إظهاره لعلاقاته مع محيطه وزوجته ووطنه والقضايا الكبرى، وبالتالي أسقط المخرج كل التأويلات الخاطئة التي كانت رائجة، كما أظهر بشكل جلي الألم الذي كان يعصر قلبه من خلال التمييز العنصري الذي كان يعيشه.

وقد دوّن تلك الآهات في دفتره الذي نقلنا جزءا منه أعلاه، وقد كتب هذا سنة 1968، وهي معانٍ ممزوجة بالألم والحسرة وقمة القهر، خاصة أنه كان مشهورا في ذلك الوقت، إذ من الغريب أن يمنع من المبيت في الفنادق التي كان يُحيي فيها الحفلات.

لهذا يقول في نفس تلك الوثيقة متحدثا عن العنصرية التي تواجهه مع فرقته: عندما يروننا في محطات الاستراحة، يسارعون لإغلاق المراحيض، مرة في دالاس بتكساس أوقفني موظف ومنعني من دخول الفندق الذي كنت سأعزف فيه، أخبرني بأنه يجب أن أدخل من الباب الخلفي.

أفلام السينما.. ممثل مُرتجل يغزو الشاشة الصغيرة

استغلت شركات الإنتاج الكبرى في هوليود سطوع نجم “آرمسترونغ” في أمريكا والعالم، لهذا تعاقدت معه، فشارك في 30 فيلما، ومن الأشياء التي تدعو للإعجاب -حسب رواية “آرمسترونغ” نفسه- أن أدواره السينمائية في تلك الأفلام لم تكن مكتوبة، بل تركوه على طبيعته يرتجل ويطلق الحوار الذي يراه مناسبا، وقد نجح معظم تلك الأدوار التي أداها، ومعظمها كانت له علاقة بالموسيقى، لهذا استحسنها وأعجب بها لأنه تعكس اهتمامه وموهبته.

ومن بين أهم الأعمال السينمائية التي شارك فيها فيلم “مرحبا دولي” (Hello, Dolly!) الذي أخرجه “جين كيلي” (1969)، وقد ترشح الفيلم لعدد من الجوائز، أهمها جوائز الأوسكار، كما لعبت فيه النجمة “باربرا سترايساند” دور البطولة.

وقد شارك أيضا في أفلام أخرى، من بينها فيلم “اللهب سابقا” (Ex-Flame) عام 1931، وفيلم “بنسات من الجنة” (Pennies from Heaven) 1931، وفيلم “القطاع” (The Strip) عام 1951، و”المجتمع الراقي” (High Society) عام 1956، و”الملاليم الخمسة” (The Five Pennies) عام 1959، وفيلم “بلوز باريس” (Paris Blues) عام 1961، إضافة إلى عدد من الأفلام الأخرى.

ملك الأنغام الرحالة.. موسيقى عالمية ألهبت الجماهير

انتشر عدد من أغاني “لوي أرمسترونغ” في معظم دول العالم، وأصبح من خلالها النجم الذي لا يأفل أبدا، ومن بين تلك الأغاني “جسد وروح” (1930)، و”عندما يحين وقت النوم في الجنوب” (1931)، و”هذا هو منزلي” (1932)، و”هوبو لا يمكنك ركوب هذا القطار” (1933)، و”أنا في حالة مزاجية للحب” (1935)، و”اللحن رقم واحد” (1937)، و”عندما يذهب القديسون” (1939).

كما كرّس وقته ومسار حياته للموسيقى ولا شيء سوى الموسيقى، حتى أنه لم يفكر في شراء بيت ليستقر فيه، لأنه كان كثير الترحال، لكن زوجته رفضت هذا واشترت بيتا دون علمه، لتضعه في الأمر الواقع فيما بعد.

وقد فعل “آرمسترونغ” هذا لأنه كثير الترحال من مدينة إلى أخرى، ومن دولة إلى دولة، يُحيي الحفلات والمناسبات، ويعزف موسيقاه التي ألهمت وألهبت الجماهير، كما قام بجولة مهمة في عدد من الدول الأفريقية، وقد استُقبل فيها استقبالا أسطوريا، خاصة في دولة غانا التي أحيا فيها حفلا حضره أكثر من 100 ألف شخص، كما كرمته عدة قبائل أفريقية، ومن بين طرائف تلك الجولة أن حضور “آرمسترونغ” أوقف إحدى المواجهات الدامية بين فريقين مسلحين ليوم واحد، من أجل حضور الحفلة.

“أعظم موسيقي في تاريخ الجاز الأمريكي”

رغم السمعة العالمية التي اكتسبها أسطورة الجاز والموسيقى “ساتشمو” طوال مساره، فإن جراح العنصرية لم تغادر قلبه العليل الذي أنهكته الأمراض، إذ أنه بمجرد أن يجلس في مكتبه الذي كان عبارة عن متحف، يستذكر آلام العنصرية وأوجاعها، خاصة تلك اللافتات التي كتب عليها “ممنوع على السود”، أو “مرحاض خاص بالبيض”، أو “مدخل ممنوع على الملونين”، وغيرها من اللافتات العنصرية.

لوي كان يُدوّن أهم الأشياء التي مر بها، من أجل قطع الطريق أمام أي تزوير في مساره

كما كان يعاني من الاستغلال البشع على يد البيض، خاصة أن الصناعة الموسيقية كانت كلها في يد البيض، لهذا تلاعب معظمهم بالسود من أصحاب المواهب، فمنهم من داس على الشوك واستمر مثل “آرمسترونغ”، ومنهم من يملك القدرة على المواصلة في ظل تلك المعطيات القاسية.

ومن بين المفارقات العجيبة لهذا النجم الأسطوري أنه كان يعتبر نفسه سعيد الحظ بقضائه 18 شهرا في ملجأ الأيتام السود بالمدينة التي وُلد فيها في نيو أورلينز في طفولته، لأنه في هذا الملجأ تعلّم العزف على بعض الآلات الموسيقية المهمة، وهي التي غذت موهبته وفطرته الموسيقية.

ولقد أشادت أسماء عالمية بارزة بعلو كعبه في الموسيقى، سواء في حياته أو بعد موته، ومن بينهم المخرج الكبير “أورسون ويلز” الذي قال عنه إنه “أعظم موسيقي في تاريخ الجاز الأمريكي”. وقال عنه مؤرخ الجاز “دان مورغنستيرن” إنه “أول فنان أسود يفتح ملهى وصالة رقص وإذاعة”، كما استطاع أن يسقط عددا من جدران العنصرية العالية، من خلال فرض شروطه على كل من يريد إحياء حفلة.

تقنية القصاصات.. لمسة جمالية ووفاء لهواية البطل

ذهب المخرج “ساشا جنكينز” في فيلمه “لوي آرمسترونغ.. أسود وبلوز” في جميع اتجاهات الوعي، وقدّم قراءة مهمة لمسار هذا الموسيقي المهم، بل إنه استطاع أن يؤثث جميع فصول الفيلم بالمعارف الفنية والموضوعية، وكأنه بذلك يستبق أسئلة المتلقي، إذ استطاع أن يختصر مسار “لوي آرمسترونغ” في بضع محطات، رغم الزمن الدرامي المحصور نسبيا (زمن الفيلم 106 دقائق)، ورغم البناء الدرامي المحكم الذي شكّل الفيلم وقيمة المعلومات التي ساقها فيه.

لوي آرمسترونغ في أحد حفلاته في أفريقيا الذي حضرها أكثر من 100 الف شخص

ومع ذلك فإنه لم يهمل الجانب الجمالي التي يعطي للعمل سينمائيته، من بينها اعتماده على مبدأ القص واللصق في إعطاء بعض المعلومات المهمة، وهي اللازمة التي اعتمد عليها في فيلمه، ويعود لها من حين لآخر، حتى يكسر بها خط الفيلم، وفي الوقت نفسه يُعطي نفَسا جديدا للمتلقي حتى يحافظ عليه للوقوف على كل تفاصيل العمل.

وقد اعتمد المخرج على هذه التقنية الفنية كعملية إسقاط على إحدى هوايات “لوي آرمسترونغ”، فقد كان يُحب عملية القص واللصق من المجلات والجرائد، ويربطها ببعضها ويحتفظ بها، لهذا ربط المخرج هذه الخاصية واعتمدها في فيلمه، لتزيد من جمالياته من جهة، ومن جهة ثانية حتى يقدم عربون وفاء لهواية هذا الفنان العظيم.