عياض بن موسى اليحصبي.. بحر فياض بالعلم والعدل والثورة والمحبة النبوية

لا يعرف في المنكب المغربي من العالم الإسلامي إمام برع في علم المحبة وشوارق أنوار الشغف المحمدي مثل الإمام أبي الفضل عياض بن موسى اليحصبي، وقد صار اسمه علما للمحبين إليه ينتهي سيرهم، وإليه تأوي سوانح هذا الفقه الجليل من معارف وأشواق المسلمين.

وإذا كانت المحبة النبوية قد ارتبطت بالشيخ القاضي عياض، فقد كان بين بدايته المتوهجة، ومسيرته العطرة، ونهايته المؤلمة بون شاسع، نقله من كراسي العلم ومنابر الإفتاء إلى نطع السياف فقضي عليه ذبحا وألقي في قبر مجهول مطمس المعالم، سعيا إلى إخماد ذكره الذي كان يضج صارخا في كبد التاريخ، كلما ماد رجال الأشواق المحمدية، أو تليت صفحات كتابه الشفاء الذي اتخذه المغاربة وردا خاصا في شهر ربيع النبوي.

اليحصبي الذي قاد الإصلاح في المغرب الأقصى

تضوعت نفحات الحياة أمام ناظري شيخ المغرب عياض بن موسى بن عياض اليحصبي أحد أيام سبتة الأسيرة منتصف شعبان من عام 476 هجرية، وكان أحد أفراد الجيل الثالث من أسرته الذي هاجروا إليها من الأندلس بعد أن توزعها ومزقها ملوك الطوائف.

في مدينة سبتة، ولد القاضي عياض، فكانت نقطة عبوره بين المشرق والمغرب

وقد عاش السبتي اليحصبي عقدين من عمره فتى مرفها مائسا بين ضفاف سبته، غير مشتغل بالعلم، قبل أن يصدح في ضميره الحاضر نداء المعارف، فانطلق في العشرين من عمره، يهتصر غصون المعارف الواسعة في بلاده، ثم رحل إلى الأندلس متعلما ذا همة عالية وذكاء وهاج، ويقال إن أول سماعه وطلبه للعلم بإجازة من العالم المغربي الحافظ أبي علي الغساني.

ثم يمم نحو الأندلس في العام 507 فأدرك بقية من أجلاء علمائها، ونهل منها صاديا من نمير علم زلال، ويذكر تلميذه الحافظ خلف بن بَشْكُوَال في كتابه “الصلة” أن القاضي أخذ على عدد من العلماء الأندلسيين الأجلاء “وأظنه سمع عن أبى زيد، وقد اجتمع له من الشيوخ بين من سمع منه وبين من أجاز له مائة شيخ وذكر ولده محمد منهم: أَحْمَدُ بن بَقِيٍّ، وأحمد بن محمد بن محمد ابن مكحول، وأبو الطاهر أحمد بن محمد السلفي، والحسن بن محمد بن سكره، والقاضي أبو بكر بن العربي، والحسن بن علي بن طريف، وخلف بْنِ إبْرَاهِيمَ بْنِ النحاس، ومحمد بن أحمد بن الحاج القرطبي، وعبد الله بن محمد الخشني وغيرهم ممن يطول ذكرهم”.

قاضي المغرب والأندلس

عاد القاضي عياض إلى أرضه في جمادى الآخرة من عام 508 هجرية، وجلس في سبته -وهو ثلاثيني يرنو إلى عقده الرابع- للتدريس والإفتاء والمناظرة، فانهلّت من علمه الباهر وورعه المؤثر وعزيمته الصارمة بوادر الزعامة والقيادة الدينية، فصار إمام سبته بلا منازع وشيخها العالي الكعب في مختلف معارف الشريعة، وعالمها المهيب الذي يرنو إليه الناس بعين الإكبار والتقدير.

وكان توليه القضاء في سبتة سنة 515 هـ على حين ضعف من الدولة المرابطية، وتناهش سهام الخور لجسدها المرهق بآثار السنين ووهن الحكم وانتشار مظاهر الفساد في المجتمع والإدارة، فأعاد الرجل إلى ذلك الجسم السياسي المنهك بعض قوة العدالة ورونق الصدق، فسارت بمكانته وعدله ونزاهة ضميره القصص والركبان، وكان حازما صادما في تطبيق الحدود ونفاذ الأحكام وحسن تحريرها، فكان قاضي المدينة، ومفتيها ومربيها، وكان لا يصدر الناس إلا عن رأيه وينقطع الخصام عند نفاذ قضائه.

ولما بلغت شهرته الآفاق، وتأكد لدى ملوك المرابطين أنه أقام المعوج من حياة سبتة وفرض فيها قوة القانون الشرعي وهيبة السلطة، وقمع فساقها عن الفساد في الأرض، استدعاه أمير المسلمين علي بن يوسف بن تاشفين وولاه قضاء غرناطة سنة 531، فسار فيها سيرته في سبتة عدالة وصرامة وحزما وتربية وتدريسا.

حرم جامعة القاضي عياض بمراكش

وقد كانت غرناطة أشد مراسا وأقوى مقاومة من سبتة، فدخل القاضي في صراع مرير مع دوائر النفوذ وأصحاب المكانات العالية، فكان يقتص بأحكام من سلطتهم، ويهز عروش كبريائهم في قلوب الجماهير، وقد تغلغلت أحكام القاضي في نسيج الإدارة الغرناطية عزلا وإبعادا لكثير من الموظفين والعمال الذين ساروا في عملهم بالغش أو إرهاب الناس أو الرشوة، وكان والي الأندلس الأمير تاشفين بن علي بن يوسف بن تاشفين، أبرز المتضررين من تلك الأحكام والسيرة العياضية، إذ عزل القاضي كثيرا من أعوان الأمير المذكور، الذي ضاق بالأمر ذرعا ووشى بالقاضي عند والده أمير المسلمين علي بن يوسف بن تاشفين.

وقد تهيأت لعزل القاضي عن قضاء غرناطة تلك الأسباب المتعددة، والتي زاد منها صرامة اليحصبي ورفضه التدخل في أحكامه تحت أي ذريعة أو من أي جهة، وانتهى الأمر إلى إعفائه من منصبه سنة 532 هجرية، فشد الرحال عائدا إلى أرضه سبتة، مقيما فيها ما اعوج من أمر الديانة، قبل أن يعاد تكليفه بالقضاء مرة أخرى، حيث لجأ إليه أمير المسلمين تاشفين بن علي مرة أخرى – بعد أن كان الساعي في عزله عن قضاء غرناطة- فولاه قضاء سبته، سنة 539، في زمن مضطرب وفتنة قاضية، عصفت بمُلك المرابطين وأنهت حكمهم وفتحت الباب واسعا أمام جيوش الموحدين الذين لم يكونوا مجرد نظام سياسي جديد، بل كانوا دولة بمضمون إيديولوجي فرضته بقوة الرماح، وجرفت التراث والحكم المرابطي بسيول الدم وأشلاء القتلى المذبوحين بسيوف حقد فكري عنيف.

مؤلف “الشفاء”.. ثناء عطر من العلماء والمؤرخين

تواترت كلمات العلماء والمؤرخين على فضل القاضي عياض وعلو مكانته العلمية، وممن أثنى عليه الإمام الذهبي حيث يقول “استبحر مِنَ العُلُوْم، وَجَمَعَ وَأَلَّفَ، وَسَارَتْ بِتَصَانِيفِهِ الرُّكبَانُ، وَاشْتُهِرَ اسْمُهُ فِي الآفَاق”.

أما تلميذه خلف بن بشكوال فيقول عنه: “هو من أهل العلم والتفنن والذكاء والفهم، اسْتُقضِي بسبتة مدة طويلة حمدت سيرته فيها، ثم نقل عنها إلى قضاء غرناطة، فلم يُطَوِّلْ بها، وقدم علينا قرطبة، فأخذنا عنه”.

ولي القاضي عياض القضاء وهو ابن خمس وثلاثين، فكان صلبا في الحق هينا من غير ضعف

وينقل السيوطي وابن فرحون وابن خلكان وغيرهم في ترجمته ثناء الفقيه السبتني محمد بن حماده على القاضي عياض حيث يقول “جلس لِلمُنَاظَرَةِ وَلَهُ نَحْوٌ مِنْ ثَمَانٍ وَعِشْرِيْنَ سَنَةً، وَوَلِيَ القَضَاءَ وَلَهُ خَمْس وَثَلاَثُوْنَ سَنَةً، كَانَ هَيِّناً مِنْ غَيْرِ ضَعفٍ، صَلِيْباً فِي الحَقِّ، تَفَقَّهَ عَلَى أَبِي عَبْدِ اللهِ التَّمِيْمِيِّ، وَصَحِبَ أَبَا إِسْحَاقَ بنَ جَعْفَرٍ الفَقِيْه، وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ بِسَبْتَةَ فِي عصرٍ أكثر توالف مِنْ تَوَالِيْفِهِ، وَحَاز مِنَ الرِّئَاسَة فِي بلدِه وَالرّفعَة مَا لَمْ يَصل إِلَيْهِ أَحَد قَطُّ مِنْ أَهْلِ بَلَده، وَمَا زَاده ذَلِكَ إلَّا تَوَاضعاً وَخَشْيَة للهِ -تَعَالَى- وَلَهُ مِنَ المُؤلفَات الصّغَار أَشيَاءُ لَمْ نَذكرهَا.

وقال عنه الفقيه محمد بن حماده السَّبْتِيُّ: “جلس القَاضِي لِلمُنَاظَرَةِ وَلَهُ نَحْوٌ مِنْ ثَمَانٍ وَعِشْرِيْنَ سَنَةً، وَوَلِيَ القَضَاءَ وَلَهُ خَمْس وَثَلاَثُوْنَ سَنَةً، كَانَ هَيِّناً مِنْ غَيْرِ ضَعفٍ، صَلِيْباً فِي الحَقِّ، وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ بِسَبْتَةَ فِي عصرٍ أَكْثَرَ تَوَالِيفَ مِنْ تَوَالِيْفِهِ (…) وَحَاز مِنَ الرِّئَاسَة فِي بلدِه وَالرّفعَة مَا لَمْ يَصل إِلَيْهِ أَحَد قَطُّ مِنْ أَهْلِ بلده، وَمَا زَاده ذَلِكَ إِلاَّ تَوَاضعاً وَخَشْيَة للهِ تَعَالَى”.

ويصفه قاضي القُضاة شمس الدين بن خلكان بقوله “هو إمام الحديث في وقته، وأعرف الناس بعلومه، وبالنحو واللغة وكلام العرب وأيامهم وأنسابهم”.

مؤلفات عياض.. دائرة معارف متنوعة

ترك القاضي مؤلفات جليلة وكثيرة، ومنها ما ذاع صيته وانتشر في الآفاق مثل كتابه “الشفاء في التعريف بحقوق المصطفى” صلى الله عليه وسلم، ومنها كتاب “إكمال المعلم بفوائد مسلم”.

” مؤلفات القاضي عياض.. دائرة معارف متنوعة

وإلى جانب هذين الكتابين اشتهر من مصنفاته أيضا: ترتيب المدارك وتقريب المسالك في ذكر فقهاء مذهب مالك، وكتاب العقيدة، وبغية الرائد فيما في حديث أم زرع من الفوائد، ومشارق الأنوار في اقتفاء صحيح الآثار، وجامع التاريخ، وكتاب “الغنيمة” في شيوخه.. الخ.

ويضاف إلى هذا أٌقضيته وفتاواه وخطبه التي كان ينشئها بقلمه ويهز بها المنابر والقلوب.

على أسنة الرماح.. تضحية بالنفس لحماية الشريعة

كان العقد الأخير من عمر القاضي عياض حافلا بالأزمات والتقلبات، بعد أن عصفت سيوف الموحدين بجذوع الدولة المرابطية، وقضت على ساستها وفكرها، فدخل المغرب والأندلس منعطفا داميا.

كان الإمام عياض ينظر بتحفظ شديد إلى الموحدين، فدخل في طاعتهم مخافة أن تجرفه وقومه سيوف ابن تومرت الذي لقب نفسه بالمهدي، ونظر إليه أنصاره بالتقديس ورفعوه إلى مقام العصمة.

في طاعة دولة الموحدين دخل القاضي عياض مخافة أن تجرفه وقومه سيوف ابن تومرت الذي لقب نفسه بالمهدي

وقد عرض الموحدون الناس على السيف، فقتلوا من لم يقر برأيهم في العقيدة، ومن لم يقتنع بما جاء في كتاب ابن تومرت الذي سماه “العقيدة المرشدة”.

وقد كانت المجزرة التي تفيد بعض الروايات أن سكان مدينة سلا تعرضوا لها على أيدي الموحدين، رادعا للقاضي ومن شايعه عن مقاومة جيوش ابن تومرت فدخلوا في طاعتهم مداراة وخوفا، وقبل الموحدون ذلك من القاضي عياض، وولوه قضاء سبتة.

بيد أن حصار مدينة مراكش وما وقع فيها من تصفيات وقتل جعل القاضي عياض يتوقع أن تكون مدينته سبتة الهدف الموالي للموحدين، فشرع في إعداد المقاومة وتنسيق الجهود، واتصل بالوالي المرابطي يحيى بن غانية الذي كان مسيطرا يومها على بعض الثغور الأندلسية، ومنحه بيعة أهل سبتة ودعاه إلى دخولها ومدها بوسائل المقاومة، وبإبرام هذا التحالف خلع القاضي عياض وأهل سبتة بيعة الموحدين سنة 543 هجرية لكن الوالي المرابطي تراخى في إسنادهم، وتركهم يواجهون مصيرهم بعد أن حاصرهم الموحدون، فألزم القاضي عياض نفسه بتحمل المسؤولية، وخرج إلى الموحدين متحملا للمسؤولية، فاديا بدمه أرواح السبتيين.

نقل الموحدون القاضي عياض إلى أميرهم عبد المؤمن بن علي الكومي، فاعترف أمامه بمسؤوليته وتحمل “جرم” معارضتهم والخروج عليهم عن بقية السبتيين، فعفا عنه وعنهم عبد المؤمن.

وهنا تتناقض الروايات التاريخية بشأن مصيره، ففي حين تتحدث بعضها عن ملازمته لأمير الموحدين حتى موته ميتة طبيعية،

هل مات القاضي عياض ميتة طبيعية أم قتلته سيوف الموحدين؟

تتحدث أخرى أن الموحدين قتلوه، وأن أميرهم اشترط لنفاذ العفو عنه أن يقر القاضي بمكانة ابن تومرت وفضله وأن يعلن التزامه بما يراه الموحدون من عصمة ومهدية لابن تومرت. وقد مادت الأرض بالرجل اليحصبي، وأصبح بين أسنة الرماح، فاختار -وفقا لهذه الرواية- الموت عن أن يكون إقراره معبرا لنشر وترسخ ما يرى أنه ضلالات الموحدين.

وكان رد الموحدين سريعا -وفقا لهذه الرواية- فتناهشته أسنة الرماح تاسع جمادي الثانية سنة 544 ومزقته جسده العابد إربا، وألقي في قبر مجهول، دون صلاة ولا جنازة، سعيا إلى إخماد ذكر الرجل الذي ملأ دنيا المغاربة علما ومحبة ونضالا وتضحية.

غير أن القبر انتفض بهيبة ساكنه بعد ثلاثة قرون، في عهد الدولة المرينية، حينما عثر على قبر عياض، وانتقض المغاربة من أجله وأمر القاضي أبو إسحاق بن الصباغ بتسوية ما حول القبر والصلاة عليه، فتجمعت حوله آلاف القلوب المفعمة بحبه وضج الأفق بالتهليل والتكبير، وختم القرآن عند قبره مرارا وتكرارا، وتحول الضريح إلى مزار عظيم محفوف بقلوب المحبين الباحثين عن الذكر الخالد والنفحات العطرة من سر مؤلف “الشفاء” وإمام المحبة النبوية في الغرب الإسلامي.