“إبراهيم طوقان”.. شاعر حارب المحتل وتغنت له الشعوب العربية

لم يكن إبراهيم طوقان شاعرا كغيره من الشعراء؛ فقد ظل ابنُ مدينة جبل النار نابلس ملءَ سمع فلسطين وبصرها خلال رحلة حياته القصيرة (36 عاما)، فتردد صدى شعره الوطني الثائر في أرجاء العالم العربي من محيطه إلى خليجه، وتغنّت بشعره الحناجر العربية الثائرة على الاحتلال والظلم جيلا بعد جيل، كيف لا وهو من نظم قصيدتين من أشهر قصائد المقاومة العربية، رغم مضي عدة عقود عليهما، وهما قصيدتا موطني، والفدائي.

يُصوّر فيلم “إبراهيم طوقان” -الذي أنتجته الجزيرة الوثائقية- حياة أحد أقطاب الشعر العربي الحديث، عبر متابعة فكرة يقوم عليها الملحن الفلسطيني إياد ستيتي الذي يسعى لتلحين إحدى قصائده، تزامنا مع رحلة الشاعر الفلسطيني المتوكل طه الذي أمضى سنوات يجمع إرث طوقان، وتكلل عمله بإصدار موسوعة سماها “حدائق إبراهيم”.

الشاعر الفلسطيني المتوكل طه يجمع أعمال إبراهيم طوقان في موسوعة أسماها “حدائق إبراهيم”

وفي الفيلم، يتحدث ثلّة من رموز الأدب والثقافة الفلسطينية عن إبراهيم طوقان، وعن أسلوبه في تناول الحالة الوطنية الفلسطينية والعربية، كما عرض بعضا من ألوان شعره المتباينة.

“ما لم يُعرَف عن إبراهيم طوقان”.. ديوان متأخر

يقول د. المتوكل طه، وهو شاعر وكاتب فلسطيني من نابلس: كانت علاقتي عميقة ومتواصلة مع الشاعرة فدوى طوقان، والدتي الروحية، وعندما فكرت في رسالة الماجستير، استشرتها في أن تكون عن إبراهيم طوقان؛ حياته وشعره، فأحضرت لي حقيبة جلدية وُضع فيها كل ما كان على مكتبه وقت وفاته، وبعد 42 عاما كنتُ أنا أول من فتح هذه الحقيبة.

الشاعر المتوكل طه إلى جانب الشاعرة الفلسطينية فدوى طوقان شقيقة الشاعر والأديب إبراهيم طوقان

حين بدأ د. المتوكل البحث في الحقيبة وجد كنوزا لم تخرج إلى النور من قبل، وأعمالا لم تنشر في الديوان الرسمي. يقول: كان خطه جميلا جدا، ووجدتُ بين أوراقه 32 قصيدة جديدة لم تُنشر في ديوانه، ومسرحية مترجمة غيرَ مشهورةٍ لـ”شكسبير” واسمها “قصة الشتاء”، فجمعتُ كل ذلك في كتابي “ما لم يُعرَف عن إبراهيم طوقان”.

أما الملحن الموسيقي إياد ستيتي فيسعى لتلحين قصائد من شعر طوقان، ويقول إن د. المتوكل طه أشار عليه أن يُلحّن قصيدة “الفدائي”؛ تلك القصيدة الرائعة التي وردت في مقدمة مسلسل “التغريبة الفلسطينية”. ويصف سعيه لذلك بالتحدي الكبير، لكونها اشتهرت على أَلْسُن الناس بلحن المسلسل، ولكن د. طه “شجّعني بشدة على إعادة تلحينها”.

إبراهيم طوقان ينشر قصيدته “الفدائي” في جريدة “فلسطين” في 1935

لا تسَلْ عن سلامتهْ .. رُوحه فوق راحتهْ
بدّلته همومُه .. كفنا من وسادتهْ

هو بالباب واقفُ .. والردى منه خائفُ
فاهدئي يا عواصفُ .. خجلا من جراءتهْ

بيت الأغا طوقان.. نشأة بين حدائق العلم والأدب والثقافة

كان إبراهيم طوقان سابقا عصره، وكان شاعرا لاذعا في نقده للواقع الذي عاشه، وهو واقع يشبه واقعَنا المتردي إلى حد كبير. يقول الروائي والناقد د. أحمد رفيق عوض: طوقان شاعر مميز، تُستعاد ذكراه بعد أكثر من 80 سنة من موته، وهو من أهم الأشخاص الذين بلوروا مفهوم الهوية الوطنية الفلسطينية، ويمكننا القول إنه أبو الوطنية الفلسطينية.

يا سَراة البلاد يكفي البلادا .. ما يُذيبُ القلوب والأكبادا

انتدابٌ أحدُّ من شفرة السيـ .. ـفِ وأورى من المنايا زنادا

وعدُ بلفورَ دكّها فلماذا .. تجعلون الأنقاض منها رمادا؟

وتروي ابنة أخته الأديبة ريما زيد الكيلاني جانبا من حياة إبراهيم طوقان؛ فهو الثاني بين عشرة من الإخوة والأخوات، ونشأ صغيرا في أحد بيوت نابلس العريقة، في جوٍ يغلب عليه الأدب والعلم والثقافة، لافتة إلى حبه الكبير لإلقاء الأهازيج الشعبية.

أوراق وقصاصات لم تر النور تركها الأديب الفلسطيني إبراهيم طوقان من بينها مسرحية مترجمة لشكسبير

ويذكر عادل أبو عمشة البروفيسور في جامعة النجاح، أن طوقان من مواليد 1905 في مدينة نابلس، وقد كان مسقط رأسه في بيت الأغا طوقان العريق، ولأنه عانى من بعض المشكلات الصحية بعد ولادته، فقد وجد اهتماما خاصا من كل مَن حوله من أسرته.

وعن عائلة طوقان، يقول الباحث في المركز العربي بلال محمد شلش إنها من أكثر عائلات نابلس نفوذا، وقد استثمرت بشكل أساسي في تعليم أبنائها، ولديها رأس مال مادي حقيقي انعكس فعليا على رأس مالها الرمزي والثقافي، فأخوه أحمد قد توجه للدراسة الأكاديمية في القدس ثم بيروت، وكذلك كان الحال بالنسبة لإبراهيم وفدوى.

“موطني”.. ترنيمة الكفاح على امتداد الوطن العربي

درس إبراهيم طوقان مدة سنتين في مدرسة المطران في القدس، ثم توجه إلى الجامعة الأمريكية في بيروت، وهناك أنشأ جماعة أدبية في بيروت من سوريين ولبنانيين وفلسطينيين، أخذت على عاتقها تجديد الثقافة والأدب العربي بشعره ونثره، وهكذا أهدى الفلسطينيون إلى العالم العربي شاعرا مرهف الحس جميلا وعميقا هو الشاعر إبراهيم طوقان.

خلّفتُ قلبي فوق سَفح الكرملِ .. حيرانَ يسألُ عنكِ أهلَ المنزلِ

خلّفتُهُ يهوي على غرف الهوى .. في شكل طيرٍ بينهم متنقّلِ

لم يعلموا ما سرّه فإذا بكى .. حسِبوه يضحكُ للربيع المُقبلِ

يتجلّى حضور الشاعر إبراهيم طوقان على الساحة العربية من خلال قصيدته الأسطورية “موطني”، فلا يكاد يوجد عربيٌّ على امتداد الوطن العربي لم يتغنَّ بها، فكانت نشيدا وطنيا لفلسطين ولكثير من الدول العربية.

كما يتجلى حضوره فلسطينيا في قصيدة “الفدائي” التي تغنّى بها الفلسطينيون وكثير من العرب، خصوصا بعد أن اتخذت مقدمة لمسلسل “التغريبة الفلسطينية”.

قصيدة الشاعر الفلسطيني إبراهيم طوقان هي النشيد الرسمي للجمهورية العراقية

موطني، الجلال والجمال والسناء والبهاء في رباك

والحياة والنجاة والهناء والرجاء في هواك

هل أراك سالما منعّما وغانما مكرّما

هل أراك في عُلاك تبلغ السِّماك

الشباب لن يكِلَّ همُّه أن تستقلّ أو يبيد

نستقي من الردى ولن نكون للعِدا كالعبيد

وهنا يقول الملحن الموسيقي إياد ستيتي إن أي فلسطيني أو عربي يفهم ما يقصده طوقان في شعره، ويجد فيه تعبيرا عنه.

الثلاثاء الحمراء.. قصيدة تمنح الشهداء عمرا خالدا

يتميز شعر إبراهيم طوقان بالوضوح والمباشَرة، ويبتعد عن التجريد والرمزية، بحيث يفهمه المواطن العربي أنّى كان، ويتغنّى به ويحسّ أنه يخاطبه به تحديدا. ويحضر شعره في كل لحظةٍ ثورية على الساحة الفلسطينية، وربما تكون قصيدته “الثلاثاء الحمراء” أصدق تعبير عن تفاعله مع هموم وطنه في وجه المحتل البريطاني.

شهداء ثورة البراق الثلاث محمد جمجوم وفؤادي حجازي وعطا الزير الذين أعدمتهم بريطانيا سنة 1930

وكانت “ثورة البراق” عام 1929 من الأحداث الكبرى التي واكبها الشاعر إبراهيم طوقان؛ فقد صوّر إعدام سلطات الانتداب للشهداء الثلاثة: فؤاد حجازي ومحمد أبو جمجوم وعطا الزير، بعد أن أدانهم الاحتلال البريطاني بقتل عدد من الصهاينة في مدينة الخليل، وقد خلّد في قصيدته هؤلاء الأبطال وجعلهم أيقونات في الذهنية الفلسطينية على مرّ الزمان:

لمّا تَعَرَّضَ نَجْمُك المنحوسُ .. وترنَّحت بِعُرى الحِبالِ رؤوسُ

ناح الأذانُ وأعولَ الناقوسُ .. فالليل أكدرُ والنَّهارُ عَبوسُ

طَفِقَتْ تثورُ عواصفُ وعواطفُ .. والموت حينا طائف أو خاطفُ

والمعْولُ الأَبديّ يُمْعِن في الثرى .. لِيردَّهمْ في قلبِها المتحجِّرِ

* * *

يومٌ أطلَّ على العصور الخاليَهْ .. ودعا “أمرَّ على الورى أمثاليَهْ؟”

فأجاَبهُ يومٌ أجلْ أنا راويهْ .. لمحاكم التَّفتيش تلكَ الباغِيَهْ

ولقد شهدت عجائبا وغرائبا .. لكنَّ فيك مصائبا ونوائبا

لم ألق أشباها لها في جورها .. فاسأل سواي، وكم بها من منكر

وهنا يقول الباحث في المركز العربي بلال محمد شلش إن قصائد طوقان تُستعاد سريعا مع كل حادث مقاوم استثنائي؛ فمثلا عند استشهاد مقاومين تُستحضر قصيدة “الشهيد”، وعند وقوع عملية فدائية مؤثرة تُستحضر قصيدة “الفدائي”.

الإنجليز سماسمرة فلسطين الذين انتقدهم الشاعر إبراهيم طوقان وشنّع علهم

وقد أسهب طوقان في نقد الصراعات السياسية بين النخب الفلسطينية، وخصوصا في مدينة القدس، فكان موقفه حاسما وحادا ضد السماسرة الذين يتماهون مع سياسة سلطات الانتداب البريطاني، ومنحازا تماما للشعب الفلسطيني وثوراته وهبّاته المتعددة ضد الاحتلال والتهويد:

أما سماسرةُ البلاد فعُصبةٌ .. عارٌ على أهل البلاد بقاؤها

إبليسُ أعلن صاغرا إفلاسَهُ .. لَمّا تحقق عنده إغراؤها

أيام الإذاعة.. كلمات ثورية من داخل قلاع المحتل

بدأ إبراهيم طوقان صراعه مع الإنجليز منذ وقت مبكر، فعلى الرغم من عمله في إذاعةٍ يشرف عليها الإنجليز فقد ظلّ وفيا لمبادئه الوطنية والقومية، وكانت كلماته الثورية في الإذاعة سببا مباشرا لطرده منها، فقد كان حريصا أن يقول ما يعتقد أنه حقّ، وإنْ بطريق التورية، كأن يذكر آية قرآنية أو حديثا نبويا يربط فيه بين التاريخ والواقع الذي يعيشه الفلسطيني.

ضريح الشاعرين الفلسطينيين الكبيرين إبراهيم طوقان وشقيقته فدوى طوقان

كما أن وقوفه العنيد في وجه التيار الذي كان ينادي باستخدام اللهجة العامية في الخطاب الإذاعي، بدلا من استخدام العربية الفصيحة، جرّ عليه المتاعب أيضا، وحرّض عليه الإنجليز وأتباعهم من بني جلدته. وكان لهذا الموقف الصلب في صف الفصحى أثره الواضح على الإعلام العربي المسموع والمرئي حتى يومنا هذا.

لنا البُراق والحَرَمْ .. لنا الحِمى، لنا العلَمْ

أرواحُنا، أموالُنا .. فِدا البراق والحرم

نحن الشباب المسلِمُ .. واللهِ لا نُسَلِّمُ

نموت أو نُكَرَّمُ .. فِدا البُراق والحرَمْ

شبابَنا سدّوا الصفوفْ .. قوموا عليهم بالألوفْ

الله ما أحلى الحُتوفْ .. فدا البُراق والحرَمْ

ما بعد المهجر.. يد المنون تختطف شاعر فلسطين

كانت تجربة الأدباء والكتّاب الفلسطينيين مريرة في مواجهة الاحتلال البريطاني في العشرينيات والثلاثينيات، فمنهم من قتل ومنهم من سجن أو طرد ونفي، وكان حظ إبراهيم طوقان أن ضاق ذرعا بهذا الحال، فسافر إلى العراق في محاولة لكسب رزقه هناك، ولكنه عانى من المرض مبكرا، مما اضطره للعودة إلى فلسطين، حيث قضى نحبه هناك.

وقد توفي رحمه الله في عام 1941 وهو ابن 36 عاما، وعاجله الموت قبل أن يجمع ما كتب في ديوان أو كتاب، فانبرى أخوه أحمد لهذا العمل، وجمع نحو 120 قصيدة في ديوان أسماه “ديوان إبراهيم طوقان”.

في مرض وفاته بالمستشفى، نظم إبراهيم طوقان قصيدته الشهيرة “ملائكة الرحمة” في صالح الممرضات

أما د. المتوكل طه فقد جمع أحاديثه الإذاعية ورسائله إلى أخته وذويه وأصدقائه، وترجماتٍ لقصائد لم تنشر، كُتبت بلغات أخرى كالإنجليزية والفرنسية والإسبانية، ثم نشرها في كتاب “حدائق إبراهيم”.

وطبيبٍ رأى صحيفةَ وَجهي .. شاحبا لَونُها وعُودي نحيفا

قال لا بُدَّ من دمٍ لكَ نُعطيـ .. ـهِ نقيا مِلْءَ العروق عنيفا

لك ما شئتَ يا طبيبُ، ولكنْ .. أعطِني من دمٍ يكون خفيفا