ياقوت الحموي.. أسير روماني خدم التاريخ وأسس جغرافية الإسلام

بعد كد وبحث طويل، استطاع ياقوت أن يثبت ضبط بلدة “حُباشة” بضم حائها، وكان قد تصدى له أحد المحدثين وزعم أنها بفتح الحاء، لتكون حباشة (بلدة بين مكة واليمن) الرنة الأولى في ذهن ذلك الفتى الرومي -الذي طوحت به الأقدار والأسفار- لضبط أسماء الأماكن وأعلام الديار والقرى، في موسوعة هي الأولى من نوعها في تاريخ المسلمين، وهي الأهم لحد الآن فيما كتب في أدب الجغرافيا ومسارب القرى والأمصار.

وإذ ضبطت بيد ياقوت الحموي ومداد أسفاره أسماء آلاف القرى والمدن والحواضر والأنهار، فإن اسمه ونسبته، وأين ولد ومن أين جاء، ظلا في أستار النسيان، منذ أن اختطفته يد غاز أو أسَرته يد فاتح، فبيع في سوق النخاسة طفلا روميا يحمل صفرة الخوف والجزع على وجنتيه الورديتين، ثم ألقت به عاصفات الأيام بين يد تاجر رحيم، فاختار له اسما لم يختره والداه اللذان لم يرهما منذ أُسر، وربما لم يتذكر منهما إلا مقدار ما يكتحل به الصبي في إغفاءة الحلم أو لحظة الذكرى المؤرقة.

في سوق النخاسة عرض الفتى الرومي المشرد فاشتراه تاجر رحيم من حماة واختار له اسم ياقوت

وأصبح اسم هذا الفتى الرومي “ياقوت”، ثم ألحق بعبد الله في عادة ملاك العبيد في التسمية ونسبة المجهول إلى عبد من عبيد الله، ثم سمى نفسه عبد الرحمن.

حرية السندباد.. بداية الرحلة في آفاق المعارف

يرجع بعض من ترجموا لياقوت الحموي أنه وُلد في عام 574 في بلاد الروم (الأناضول)، وأنه وصل بغداد وهو ابن خمس أو ست سنين، غض الإهاب نضير الغصن مقصوص الجناح، فكان الذي اشتراه من بغداد تاجرا حمويا ثريا يدعى عسكر بن أبي نصر بن إبراهيم الحموي، ومنه أخذ ياقوت نسبته الحموية.

ولعل من بوارق الحظ التي لمعت أمام عيون ياقوت أن كان سيده “عسكر” أُميا لا يكتب ولا يقرأ، فأرسل ياقوت إلى الكُتّاب، ونبغ الطفل بسرعة، وأحال إليه سيده كثيرا من ملفاته المحاسبية، ومن وثائقه ورسائله، أو بعبارة أخرى أراده سكرتيرا ومدقق حسابات، غير أن القدر اختط طريقا آخر لياقوت، فأكب على العلم والمعرفة، ورزق نهما في المطالعة وشغفا بالكتب، حتى حدث عن نفسه أنه ما خلت يده من كتاب مُطالعا أو مستنسخا منذ أن بلغ 7 سنين.

ياقوت الحموي يستنسخ الكتب ويقرأ ما وقع بين يديه منها

ألِف ياقوت الحموي الأسفار، وطوحت به الدنيا في مشارق الأمصار ومغارب الأقطار، وكان في كل ذلك مشغوفا بالاطلاع على الجديد والغوص في المعارف، وأخذت جغرافية البلدان وضبط أسمائها حيزا من اهتمامه، وكان له بذلك السبق الذي خلد به اسمه في تاريخ المؤلفين والبلدان.

ومع العشرين من عمره بدأ سندباد الأقطار والبحار جولاته التي انتظمت أجزاء واسعة من العالم الإسلامي يومها، فرأى من عجائب البلدان والناس ما أوقد في ذهنه شعلة البحث العلمي والتأليف، وزاد شغفه أنه حصل على حريته وهو في بداية العشرين من عمره (في حدود عام 596هـ/1200م)، حين قطع سيده السابق العلائق بينهما، فامتهن ياقوت استنساخ الكتب، حتى كتب بيده خلال سبع سنوات أكثر من 300 مجلد.

أواصر الكتب.. صداقة العلماء والأدباء والوراقين

عقدت الكتب بين ياقوت الحموي وكبار الأدباء وأصحاب المكتبات علاقة راسخة وصلة قرابة معرفية، فكان صديقا للأديب أبي سعد بن أبي المعالي الحسن بن محمد بن حمدون، وكان من كبار أصحاب المكتبات، وقد نكبته الأيام بعد عز، فاضطر إلى بيع بعض كتبه أو أغلبها.

وقد شهد ياقوت بحسرة تلك المأساة الدامعة، فكتب عنها في أحد كتبه قائلا عنه: كان من الأدباءِ العلماء الذين شاهدناهم، زكيَّ النفس، طاهرَ الأخلاق، عاليَ الهمَّة، حسَنَ الصورة، مليحَ الشَّيبة، طويلَ القامة، نظيفَ اللبسة، ظريف الشَّكل، وكان من المحبِّين للكتب واقتنائها، والمبالغين في تحصيلها وشرائها، وحصل له من أصولها المتقَنة، وأمهاتها المعينة، ما لم يحصل لكثير أحد.

ياقوت الحموي يعشق الترحال ويألف الأسفار فيجول في مشارق الأمصار ومغارب الأقطار

ثمَّ تقاعد به الدَّهرُ وبطل عن العملِ، فرأيتُه يُخرجها ويبيعها وعيناه تَذرِفان بالدموع كالمفارِق لأهله الأعزَّاء، والمفجوع بأحبابه الأودَّاء، فقلت له: هوِّن عليك -أدام اللهُ أيامك- فإن الدهرَ ذو دُوَل، وقد يسعف الزمان ويساعِد، وترجعُ دولة العزِّ وتعاود، فتستخلف ما هو أحسن منها وأَجْوَد، فقال: حسبك يا بني؛ هذه نتيجة خمسين سنةً من العمرِ أنفقتُها في تحصيلها، وهَبْ أن المالَ يتيسر، والأجَل يتأخَّر -وهيهات- فحينئذٍ لا أَحْصل من جمعِها بعد ذلك إلاَّ على الفراق، الذي ليس بعده تلاقٍ، وأنشد بلسان الحال:

 

هَبِ الدَّهرَ أرضاني وأعتب صرفه
وأعقب بالحسنى وفكَّ من الأسر

فمن لي بأيام الشباب التي مضت
ومن لي بما قد مرَّ في البؤس من عمري؟

كما ربطت آصرة الكتب بين ياقوت وعدد آخر من أدباء الشام، خصوصا بعد أن أصبحت الكتب جزءا أساسيا من التجارة التي درّت على الفتى الرومي أرزاقا معتبرة.

ويذكر بعض محققي كتب ياقوت أنه حمل ذات مرة نسخة رائقة من كتاب “صور الأقاليم” للبلخي، ومنّى نفسه أن يبيعها لملك عظيم أو تاجر ثري، فيمنحه في هذه النسخة الفريدة ثمنا كبيرا دون مساومة ولا حساب، لكن الأمور جرت بعكس ما تمنى ولم يربح في الكتاب ما توقع، بعد أن اشتراها منه الملك الظاهر الغازي بن صلاح الدين حاكم حلب، وإلى تلك القصة يشير ياقوت حين يقول: وجرت لي فيها قصة طريفة أنزّه هذا السلطان عن ذكرها، فإنه وإن كان الحظ حرمني جود كفّه فإنه جواد عند غيري.

أيام مرو.. سنوات ثرية في معين معرفي لا ينضب

وقد تجول الرجل في مدائن عدة، فزار حلب ثلاث مرات، وتجول في مصر ودمشق وبغداد، ثم رمت به رواحل السير إلى أربيل، ومختلف مدائن الرّي العراقية والخراسانية، ثم انتقل مشرقا في آسيا ليصل إلى مدينة الشاذياخ، ثم ذهب إلى نيسابور، ومنها إلى مرو فأقام فيها ثلاث سنوات في حدود 614-616هـ، وقد وجد فيها ضالة الأديب وبغية الباحث، حين كانت عامرة بالخزائن الكتبية العالية، ويذكر أن فيها أكثر من عشر مكتبات عامرة، تجمع مئات الآلاف من المجلدات العظام، فعاش فيها سابحا بين أنهار المعرفة وبساتين المداد ونفحات اليراع.

في مدينة مرو، نال ياقوت الحموي روائع مصادره العلمية واستطاع بها تكوين مكتبه الخاصة

ولم ينل ياقوت في مدينة مرو روائع مصادره العلمية فحسب، بل استطاع تكوين مكتبه الخاصة، حيث كان يؤلف وينسخ وينسج العلاقات والأواصر المعرفية مع علماء مرو وعظمائها، وكان ينوي أن يجعلها دار الإقامة ومثوى الضريح على حد ما يصرح به في كتابه معجم البلدان، إذ يقول: “وتركت مرو في سنة 616 هـ على أحسن ما يكون، وأقمت بها ثلاثة أعوام فلم أجد بها عيبا، ولولا ما عَرَا من ورود التتر إلى تلك البلاد وخرابها، لما فارقتها إلى الممات، لما في أهلها من الرفد ولين الجانب وحسن العشرة وكثرة كتب الأصول المتقنة بها، فإني فارقتها وفيها عشر خزائن للوقف، لم أر في الدنيا مثلها كثرة وجودة، منها خزانتان في الجامع، إحداهما يقال لها “العزيزية”، وكان فيها 12 ألف مجلد أو ما يقاربها، والأخرى يقال لها “الكمالية”، وكانت سهلة التناول لا يفارق منزلي منها مئتا مجلد وأكثر بغير رهن، تكون قيمتها مئتي دينار. فكنت أرتع فيها وأقتبس من فوائدها، وأنساني حبها كل بلد، وألهاني عن الأهل والولد. وأكثر فوائد هذا الكتاب (أي معجم البلدان) وغيره مما جمعته، فهو من تلك الخزائن”.

لكن يد الدهر تناولت الرجل بعسراء، فانتقل إلى خوارزم، فرأى فيها روعة العمران واتساع الحدائق واتساق الفن، غير أنها لم تكن له مثل مرو، فقد كانت أكثر ثلجا وأقل احتضانا للروح العلمية التي ترف بين جوانح الحموي، ثم وجد نفسه بعد ذلك في مرمى كارثة التتار، فأزمع الرحيل عائدا إلى الموصل، ومنها انتقل إلى الشام ومصر، ثم عاد مرة أخرى إلى حلب فأقام فيها ردحا من عمره، حتى توفي وحيدا في بيته سنة 626 هـ تاركا خلفه بنات أفكاره، وخلاصة رحلاته التي استمرت 16 سنة، وجعلته أحد كبار المؤرخين والجغرافيين المسلمين.

معجم البلدان.. أول وأكبر موسوعة جغرافية إسلامية

لا يختلف المؤرخون القدماء ولا المعاصرون في أولية وسبق ياقوت في كتابه “معجم البلدان” ولا في مركزية هذا الكتاب في فنه، ويحتوي أكثر من 15 ألف مادة جغرافية، موزعة وفق حروف المعجم، ويضم الكتاب ترجمة لقرابة 12 ألف علم، يظللها ثراء أدبي بأكثر من 14 ألف بيت من الشعر.

“معجم البلدان” و”معجم الأدباء” موسوعتان اختطهما ياقوت الحموي بقلمه بعد أن جال في الأمصار وعاشر الأدباء 

وقد اعتنى ياقوت بضبط الأعلام ونقش أصلها اللغوي، وتحديد الموقع بشكل تقريبي أو بما يجاوره، كما حضرت الإنتربولوجيا في كتابه بشكل كبير، من خلال تحليل طبائع الشعوب وتوجهاتهم وتبيين السائد والمختلف من قيمهم، وزاد من قيمته كونه أول معجم شامل، جعل الإسلام هوية جغرافية، فجمع الأندلس إلى شرق آسيا إلى مصر والشام وغيرها من بلدان المسلمين.

وقد طبع هذا العمل الجبار لأول مرة بتحقيق من المستشرق الألماني “هنري فرديناند فوستنفلد”، ابتداء من عام 1866، ثم تواصلت طبعاته بعد ذلك، فجاءت طبعة مصر سنة 1907 بتحقيق محمد أمين الخانجي، بتصحيح من الأديب أحمد بن الأمين الشنقيطي، ثم صدرت طبعات متعددة بعد ذلك، ابتداء من منتصف الخمسينيات.

معجم البلدان ومعجم الأدباء الموسوعتان اللتان اشتهر بهما ياقوت الحموي 

ولم يكن “معجم البلدان” الكتاب الوحيد الذي حبّره يراع ياقوت الحموي، بل إنه ألف كتبا جزيلة أخرى منها “معجم الأدباء، وإرشاد الأريب إلى معرفة الأديب”، وقد شغف فؤاد مؤلفه حتى قال فيه:

فكم قد حوى من فصل قول مُحبّر
ومن نثر مصقاع ومن نظم ذي فَهمِ

ومن خبرٍ حُلوٍ ظريفٍ جمعتُه
على قَدمِ الأيام للعُرب والعُجْمِ

تَرنَّحُ أعطافي إذا ما قرأتُهُ
كما رَنَّحت شُرابها إبنة الكَرْمِ

ولو أنني أنصفتُهُ في محبتي
لجلَّدتُه جِلدي وصندَقتُه عظمي

عزيز على فضلي بأن لا أطيعه
على بذله للطائفين على العلم

ولو أنني أسطيعُ من فرط حبه
لما زال من كفي ولا غاب عن كمي