عبد الحميد السراج.. رجل الرعب الصامت الذي حكم سوريا بالحديد والنار

نسج خيوط دولته في الظل، وأخفى في سراديبها أسرار حقبة بأكملها. حكم سوريا دون أن يكون رئيسها وغرس فيها بذور العنف والخوف، فآتت ثمارَها بعد حين.

إنه عبد الحميد السَرّاج، رجل الرعب الذي كان ماهرا في صناعة الحدث، بقدر ما كان ماهرا أيضا في البقاء متخفّيا خلف الستار، فقد اتخذ الصمت مذهبا له طيلة حياته، حتى آلَ به إلى صمت القبور.

وقد أنتجت عنه الجزيرة الوثائقية فيلما استقصائيا مهما، وعرضته على شاشتها بعنوان “العقيد السَرّاج.. رجل الرعب”، فتحدث فيه الذين التقوه عن سمات شخصيته الغامضة، وعن فترة سطوع نجمه إبان الوحدة بين مصر وسوريا، وعن الأدوار التي لعبها في قمع معارضيه وملاحقة مناوئي سياسات عبد الناصر، حتى ضاق به ذرعا، وغيّبه عن المشهد السياسي بقية حياته.

سوريا الخمسينيات.. صراعات في أجواء الانقلابات العسكرية

كل من التقى عبد الحميد السراج يصفه بأنه ذو هيبة ونظرة نافذة، طويل الصمت قليل الكلام، ذو شخصية استثنائية. وقد حكم سوريا ومارس فيها العنف والتعذيب، وضرب بيد من حديد كلّ من عارضه، وكان يعمد إلى تصفية خصومه جسديا دون أن يتوقع حسابا من أحد، وماتت أسرار الجرائم والاغتيالات مع الضحايا دون أن يعلم بها أحد، أو يجرؤ على السؤال عنها.

يقول د. كمال الطويل، وهو الصحفي الذي أجرى آخر لقاء مع السَرّاج: قابلته في يونيو/ حزيران 2002، وكذلك في يونيو/ حزيران 2005، وسألته هل لديه كلمة ليقولها في الذكرى الـ50 لثورة يوليو، “ثورة عبد الناصر”، فقال لي: لا أريد أن أتحدث في هذا الأمر، فقد أتسبب بالضرر لشخص قيمته أكبر بكثير من مثالبه، رجل لم يجُد الزمان بمثله للعرب، وليته كان استمع لبعض نصائحي.

العقيد عبد الحميد السَرّاج.. حكم سوريا ومارس فيها العنف والتعذيب، وضرب بيد من حديد كلّ من عارضه

كانت سوريا قد شهدت في مطلع الخمسينيات عدة انقلابات جلبت على إثرها شكري القوَّتلي رئيسا لسوريا، وبقي الصراع المحموم على السلطة الفعلية محصورا داخل المؤسسة العسكرية فقط، وبين ثلاثة أجنحة من الضباط؛ من القوميين والشيوعيين والبعثيين.

وعن تلك الفترة، تحدث د. رضوان زيادة، مدير مركز الدراسات السياسية والأكاديمية في واشنطن قائلا: سوريا من أوائل الدول العربية التي حصلت على استقلالها السياسي عن المحتل الفرنسي، وذلك في عام 1946، وكان البناء الهيكلي للدولة ديمقراطيا، فهناك السلطات المستقلة الثلاث، والصحافة الحرة، لدرجة أن ثلاثة انقلابات عسكرية في 1949 لم تؤثر على البناء الديمقراطي للدولة.

عبد الحميد السرّاج.. الصامتُ الذي أسكت أصوات معارضيه

مثّل العام 1955 بداية صعود نجم الضابط الشاب عبد الحميد السَرّاج، وكان ابن 25 عاما حينها، ولفتَ الانتباه بوصفه شخصية أمنية عميقة يكتنفها الغموض، لذا فقد أوكلت إليه مسؤولية إدارة الاستخبارات العسكرية، التي تُسمى “المكتب الثاني”، نواة جهاز المخابرات السورية.

الدكتور كمال الطويل آخر صحفي يقابل عبد الحميد السراج ويجري معه حوارا

وكان المكتب متواضع الإمكانات، بعيدا عن التأثير في الحياة السياسية السورية، ولكنه أصبح على يد السَرّاج محورا أساسيا، توغلت من خلاله الأجهزة الأمنية في حياة السوريين بشكل مباشر، وصنع السَرّاج من خلاله دولته الخاصة دون حسيب ولا رقيب.

يقول اللواء سامي الخطيب، وزير الداخلية اللبناني السابق: أعطى السرّاج المخابرات دورا أكبر من دورها وحجما أكبر من حجمها، واعتمدها مصدرا رئيسيا للمعلومات من أجل صياغة سمة الحكم الذي أدار به سوريا، بحيث أصبح له ولجهازه أهمية لا يستغني عنها صانع القرار في دمشق.

فرض النظام.. ذريعة ولادة الدولة الأمنية في سوريا

كان اغتيال العقيد عدنان المالكي نائب رئيس أركان الجيش، والمحسوب على حزب البعث أولَ محك صعب واجهه السَرّاج، ولكنه استغله أحسن استغلال لبسط نفوذه. وبحجة فرض النظام وحماية الدولة، شنّ السَرّاج حملة أمنية واسعة، فامتلأت السجون وصودرت الحريات، ولوحق المعارضون من مختلف الأطياف، وجعل تلك الحادثة ذريعة لتفتيت الديمقراطية.

حملة أمنية واسعة شنها عبد الحميد السَرّاج وملأ بها السجون وصادر الحريات ولاحق المعارضين

يقول اللواء سامي الخطيب: أجّج مقتل المالكي الصراع بين القوميين والبعثيين، وهو ما أطلق اليد الأمنية للسرّاج للتدخل في شؤون السوريين كافة، بل في شؤون الدول المجاورة.

هكذا وُلد في عهد السَرّاج الحكم الأمني الذي سيتكرس لعقود داخل سوريا، وكان من أهم من تعرض للسجن في تلك الفترة الأديب السوري محمد الماغوط، وقد كتب عن تلك الفترة في مذكراته: في السجن، انهارت كل الأشياء الجميلة أمامي، ولم يبق إلا الرعب، وبدلا من أن أرى السماء رأيت الحذاء، حذاء السَرّاج، وهذا ما أثّر عليّ بقية حياتي.

“أول من خلط رائحة الدم بالسياسة”

يقول وليد السقّا، وهو ضابط سابق في الجيش السوري: كان السَرّاج أول من خلط رائحة الدم بالسياسة، فعلى الرغم من وجود انقلابات كثيرة سابقة، فإنها لم تكن دموية، ولم يتعرض فيها المغلوبون أو المواطنون للتعذيب. أما في عهد السَرّاج فقد تغير كل شيء، وتعرض الضباط المعارضون والمدنيون لألوان من الرعب والقهر لم تعهدها سوريا من قبل.

عبد الحميد السراج يزج بالأديب السوري محمد الماغوط في السجن

وعلى إثر هذه الحملة الأمنية توطدت علاقة السَرّاج بحزب البعث وأصبح محسوبا على قياداته لفترة طويلة، وكان حزب البعث قد تأسس على يد ميشيل عفلق وصلاح البيطار في نيسان/أبريل 1947، وحصد الكثير من ولاءات الجيش السوري، وكرس جهوده من أول يوم لاختراق المؤسسة العسكرية والسيطرة على الحكم، وغدا- خلال فترة وجيزة- من أهم الأحزاب السورية وأوسعها نفوذا.

وازداد نفوذ السَرّاج في سوريا، وأصبح مكتبه الثاني حجر الزاوية في رسم المشهد السياسي السوري، وأطبق الخناق على كثير من السياسيين والمواطنين وحتى ضباط الجيش، فأضحوا جميعا تحت مراقبته وعرضة لاتهاماته.

العدوان الثلاثي.. غرفة سرية سورية لدعم عبد الناصر

في تلك الفترة كان نجم عبد الناصر في مصر يسطع أكثر فأكثر، ومثّلت كلماته وخطاباته أحلام جيل من الشباب العربي، وكان دائم الحديث عن الوحدة العربية والتحرير، حتى رأى فيه السَرّاج رجل المرحلة، فراح يدفع باتجاه الوحدة مع مصر، بحجة الوقوف في وجه المخططات الصهيونية والإمبريالية.

وفي أكتوبر/ تشرين الأول 1956 شنت بريطانيا وفرنسا مع الاحتلال الإسرائيلي عدوانا ثلاثيا على مصر، بهدف تحجيم دور عبد الناصر في المشرق العربي. وبدون تردد اتخذ السَرّاج قراره بالتدخل لصالح عبد الناصر، فشكّل غرفة عمليات سرية في سوريا، لا يُعرف على وجه الدقة إن كان هنالك تنسيق مع الجيش المصري، وأمر مجموعة من الضباط بضرب خطوط النفط العراقية القادمة من العراق عبر الأراضي السورية.

في أكتوبر/تشرين أول 1956 شنت بريطانيا وفرنسا و”إسرائيل” عدوانا ثلاثيا على مصر

بداية علاقة السرّاج مع مصر، التي استمرت فترة طويلة. يقول د. كمال الطويل: سرعان ما أصبح السَرّاج رجلَ عبد الناصر في سوريا، وكان الضابط الأهم في المجلس العسكري الذي يحكم سوريا.

ويقول د. إبراهيم غليون، أستاذ علم الاجتماع السياسي بجامعة السوربون: كان عبد الناصر قوة شعبية، يمكنه تحريك الجماهير، وكان ذلك يشكل خطرا على المصالح الغربية في بلاد العرب، فكان لا بد من محاربته، فجاء العدوان الثلاثي الذي خرج منه عبد الناصر شبه منتصر، شعبيا وسياسيا على الأقل.

انتصار عبد الناصر.. موجة تدفع في سبيل الوحدة العربية

بعد العدوان تغلغل الفكر الناصري في صفوف الشباب العرب، وبدأت سوريا تسير نحو الوحدة مع مصر، وشهد عام 1957 صراعا شديدا داخل مؤسسة الجيش السوري، وأصبحت التجاذبات السياسية بين ضباطه تهدد تماسك الدولة السورية، ورأى السَرّاج حينها أن الوحدة مع مصر باتت ضرورية لإنقاذ الدولة.

نذير رشيد.. مدير المخابرات الأردنية في عهد السراج

فأوعز إلى الصحف والإذاعة أن تكرس حديثها عن الوحدة وأهميتها، حتى أضحت الوحدة مع مصر حديث الشارع السوري. يقول الحقوقي السوري هيثم المالح: خُوّف الناس من مآلات الأوضاع في سوريا نتيجة صراع العسكر، وتزيين الوحدة مع مصر، ولكن ولادة هذه الوحدة لم تكن طبيعية.

وكان حزب البعث من أكثر الدافعين نحو الوحدة، وذلك من أجل إحكام سيطرته على مفاصل السلطة، فاجتمع السَرّاج مع أكرم الحوراني، وهو أحد أهم قادة حزب البعث، وبحث الطرفان سبل تحقيق الوحدة، ولكن ظهر جليًّا التباينُ في وجهات النظر بين الرجلين، واتهم الحوارني السَرّاجَ بالضغط على قادة الجيش من أجل إتمام الوحدة بأسرع وقت، وخوّفهم من نوايا حزب البعث بالانقضاض على السلطة.

تأسيس حزب البعث على يد ميشيل عفلق وصلاح البيطار في نيسان/أبريل 1947

وعن تلك الفترة يقول كريم مروة، نائب الأمين العام للحزب الشيوعي اللبناني سابقا: وجد بعض القوميين العرب واليساريين من حزب البعث وغيره أن هذه هي فرصتهم التاريخية للاستجابة لنداء الوحدة مع مصر.

ميلاد الجمهورية العربية المتحدة.. وحدة تحكم قبضة السراج

في فبراير/شباط 1958 أُعلنت الوحدة بين مصر وسوريا، وتنازل شكري القوتلي عن منصب الرئاسة لصالح الوحدة، واختير عبد الناصر رئيسا للجمهورية العربية المتحدة، واشترط حل الأحزاب السورية التي استجابت على مضض، وكان السَرّاج حينها الفاعل الحقيقي في سوريا، فعيَّنه عبد الناصر وزيرا للداخلية في الإقليم الشمالي من الجمهورية الجديدة، ثم ما لبث أن جعله نائبا له في سوريا.

وبضوء أخضر من عبد الناصر ازدادت القبضة الأمنية السَرّاجية على سوريا، وتمكن الرجل المرعب من مفاصل الدولة جميعها دون أن يجرؤ أحد على الوقوف في وجهه، وتبددت صورة الوحدة البهية في عيون الشعب بعد أن بدا لهم أن البلاد لا تتسع لغير السَرّاج، وبعد فرض حالة الطوارئ في الجمهورية كُمّمت الأفواه، وصودرت الحريات، وامتلأت السجون بالمعارضين.

الرئيس السوري شكري القوتلي يتنازل سنة 1958 عن منصب الرئاسة لصالح الوحدة

وقد امتدت يد السَرّاج القوية لتصل إلى لبنان، فاستغل الاحتجاجات ضد الرئيس كميل شمعون الذي كان معارضا للجمهورية المتحدة، فعمل السَرّاج على إمداد معارضي شمعون بالمال والسلاح للإطاحة به. وفي ذلك يقول نذير رشيد، مدير المخابرات الأردنية السابق: لم يرض السَرّاج أن يكون هنالك سياسيون لبنانيون يعارضون التوجه الوحدوي مع مصر، فخلق من الظروف في لبنان ما أدى لاقتلاع هؤلاء، أمثال كميل شمعون.

وعن العلاقة بين سوريا ولبنان يقول الدكتور كمال الطويل: سوريا التي لا تؤثر في لبنان ولا تتدخل بشؤونه غيرُ موجودة على الخريطة مطلقا.

السراج يطيح بالرئيس اللبناني كميل شمعون الذي كان معارضا للجمهورية المتحدة

وفي يوليو/ تموز 1958 نجح انقلاب عبد الكريم قاسم في العراق، بدعم من الحزب الشيوعي، لكنه لم يكن على وفاق مع عبد الناصر والسَرّاج في مصر وسوريا، فما لبث عبد الناصر أن أعلن حربا شعواء على قاسم والشيوعيين في العراق، وذلك بسبب موقفهم من الوحدة، وعلى إثر ذلك أصبح أعضاء الحزب الشيوعي في مصر وسوريا والمتعاطفون معهم مطلوبين أمنيا.

فرج الله الحلو.. الضربة التي قصمت ظهر البعير

كانت الحادثة الأفجع في معارك السرّاج والشيوعيين هي تصفية فرج الله الحلو نائب الأمين العام للحزب الشيوعي في سوريا ولبنان بطريقة وحشية في سجون السَرّاج، وقد قال عنها السَرّاج في لقائه الصحفي الأخير: لم نكن ننوي قتله، ولكن الخشونة المعتادة في السجن وحالته القلبية المتدهورة أدت إلى وفاته، فارتبكت “شلة الأغبياء” التي عندي، وبدل أن يعيدوا جثمانه إلى عتبة منزله، فقد أخفوا الجثة وقرائن الحادث.

وعلى إثر هذه الحادثة تعرض عبد الناصر لانتقادات دولية عنيفة، وتلقى اتصالات من الزعيم السوفياتي “خروتشوف” وكذلك “نهرو” و”تيتو” وباقي قادة دول عدم الانحياز، فطلب من السَرّاج التكتم على الأمر ونفي نبأ اعتقال الحلو، فلجأ المسؤولون الأمنيون إلى التخلص من الجثة عن طريق إذابتها بالحمض الحارق، لكن الأمر افتضح لاحقا، ولم ينف السَرّاج مسؤوليته عن الحادث بالإجمال.

عبد الناصر يحجم صلاحيات السَرّاج وينقلها تدريجيا إلى المشير عبد الحكيم عامر

وقد تركت هذه الحادثة حالة من الهلع والخوف، مصحوبة بنوع من التذمر والرفض للحالة الأمنية التي وصلت إليها البلاد تحت حكم السَرّاج، وبظهور حالات أخرى مماثلة في عدة مدن سورية تساءل الناس عن أعداد الجثث التي لم يُفصَح عنها في أقبية السَرّاج.

تقليم أظافر السراج.. إزاحة السد الأخير الذي يحفظ الوحدة

بعد أن ضاق الضباط السوريون ذرعا بالملاحقات الأمنية التي يشنها السَرّاج ضدهم، وكذلك بالطريقة الاستعلائية التي يتعامل بها الضباط المصريون معهم، وسياسة التنقلات التي طالت كل من يعارض، أو يُشَكَّك في ولائه للوحدة وقادتها، أوعز عبد الناصر للسراج بتخفيف الوطأة على الجيش والمدنيين.

عبد الكريم النحلاوي ينقلب على الوحدة وينهي دور جمال عبد الناصر وعبد الحميد السراج في سوريا

ثم بدأ ناصر بتحجيم صلاحيات السَرّاج ونقلها تدريجيا إلى المشير عبد الحكيم عامر، ولم تكن علاقته بالسَرّاج جيدة، وكان الصراع بينهما محتدما على النفوذ في سوريا، فتحدث عبد الناصر إلى السَرّاج في اجتماع مغلق، وأبدى امتعاضه من العداء الدولي الذي سببته تصرفاته، وأخبره بتفويض عامر للوساطة مع الدول وكسب ودها، وطلب منه الانتظار لما ستسفر عنه وساطة عامر.

أدرك السَرّاج مغزى رسائل عبد الناصر، وعلم أنه أصبح خارج دائرة اهتماماته، فقدّم استقالته في سبتمبر/ أيلول 1961، أي قبل أيام من انهيار الوحدة، وأخذ يراقب الأحداث عن بُعْد، في حين كان الضابط عبد الكريم النحلاوي مدير مكتب المشير عامر في دمشق، يخطط للانقلاب على عبد الناصر وإسقاط الوحدة بين البلدين.

عبد الناصر يستقبل السراج في القاهرة بعد تهريبه من السجن في سوريا

وقد أخبر السَرّاج المشير عامر بما يدَبَّر له بالخفاء من قبل بعض الضباط السوريين، ولكنه كذَّبه وحمى ضباطه السوريين، وفي 27 سبتمبر/ أيلول 1961 استيقظت دمشق على أصوات الرصاص، وتلا النحلاوي “البيان العاشر” الذي أنهى قصة الجمهورية العربية المتحدة.

رحلة الهروب.. بداية الصمت الطويل في المنفى المصري

كانت ممارسات السَرّاج القمعية، والنظرة الفوقية من قبل المصريين لنظرائهم السوريين هي المسامير الأولى التي دقت في نعش الجمهورية المتحدة التي ولدت ميتة إلى حد ما. وكان من أوائل ما قام به القادة الجدد لسوريا اعتقال السَرّاج، وإيداعه في سجن المزة الذي كان مقبرة للمعارضين في عهده.

عبد الناصر يضع خطة لتهريب السَرّاج من دمشق عبر الرئيس اللبناني فؤاد شهاب

وقد وضع عبد الناصر خطة محكمة لتهريب السَرّاج إلى القاهرة، وطلب من الرئيس اللبناني فؤاد شهاب التعاون مع المخابرات المصرية لتأمين هروب السَرّاج، وبالتنسيق مع الضابط الأردني نذير رشيد المحسوب على حركة الضباط الأحرار، وسامي الخطيب من المخابرات اللبنانية، وقد هرّب السراج أولا إلى لبنان في جيب عسكري، متنكرا في زي ضابط صف سوري، ثم من لبنان إلى القاهرة بالطائرة.

وفي اليوم التالي استقبله عبد الناصر في مراسم استقبال رسمية في قصر الضيافة، وشكّل فراره صفعة قاسية للنظام الجديد في سوريا، وبهذا انتهت مسيرة السَرّاج سياسيا وأمنيا، ومنذ العام 1968 اختفى تماما عن المشهد السياسي. يقول اللواء سامي الخطيب في حقه: يمكن أن يُتَّهمَ السَرّاج بأي تهمة إلا في عروبته، فقد كانت ثقيلة وصادقة.

ويقول كريم مروة: مقولة إن الإنسان العربي غير مهيأ للتجربة الديمقراطية هي حجة واهية، تشبثت بها الأنظمة العسكرية القمعية من أجل البقاء في السلطة، وإحكام السيطرة على مفاصل البلاد وأعناق العباد، وقد أثبتت هذه الأنظمة فشلها المتوالي على كل الصعد؛ سياسيا وأمنيا واجتماعيا واقتصاديا، وجرت البلاد من كارثة إلى أخرى، وحتى يومنا هذا.

نهاية صامتة لعبد الحميد السراج في القاهرة سنة 2013 

وفي 22 سبتمبر/أيلول 2013 توفي عبد الحميد السَرّاج في القاهرة، ورحل رجل الرعب الذي أسَّس لدولة الخوف في سوريا، وبقيت كوابيسه المخيفة جاثمة على صدور السوريين لعقود بعده، فقد رحل الذي حوَّل أقبية السجون إلى مقابر، في الوقت الذي كان فيه السوريون يخوضون ثورة أخرى ضد دولة أمنية جديدة، تحمل الإرث الذي خلّفه السراج وراءه، وترعى البذور التي زرعها.