أسماء المدير.. مخرجة تحمل الوثائقي العربي إلى خشبة الأوسكار

لطالما كانت السينما العربية تستصعب الصعود على عتبة منصة الأوسكار، مع أن لها محاولات عدة كسرت هيبة أشهر جوائز السينما في العالم، وصنعت في بعض الأحيان مكانا لنفسها في القائمة المصغرة للأوسكار.

والمتمعن في تاريخ السينما العربية يجد أن هذه الرهبة من الأوسكار، قد بدأت تتلاشى مع المخرجين الشبان، وموجة التحدي الجديدة في طرح المواضيع، والاختلاف مع كلاسيكيات الدراما العربية، والقطع معها في أحيان كثيرة، وهو التعبير الأوضح الذي جاء على لسان المخرجة المغربية أسماء المدير بعد فوزها بجائزة أفضل إخراج في مهرجان “كان”، حين قالت “أنا مخرجة اليوم”.

كانت المخرجة أسماء المدير من الذين كسروا هذا الحاجز، وهي لم تتجاوز منتصف عقدها الثالث، وأعادت الأمل في فوز دولة عربية بالأوسكار، ويبدو أن هذا ما جعل كبار الداعمين والمانحين للسينما، يؤمنون بتوجه أسماء الفني، ويساهمون في دعمه وإنتاجه، مثل الجزيرة الوثائقية و”نتفليكس” والصندوق العربي للثقافة والفنون ومهرجان البحر الأحمر.

“تيقّنت أنّ الأبطال الحقيقيين أبطال الحياة”.. شغف الصدفة

تقول فدوى طوقان في واحدة من أجمل قصائدها:

لقاءنا محض صدفة

دخلتها في غفوة حلوةٍ

من غفوات الزمان

وامتدّ طريقي هناك

ودار في خطفه

يبحث عن عينين

ضحّاكتين

لقاءنا محض صدفة

هل كان صدفة؟

المخرجة المغربية أسماء المدير خلال تصوير أحد أفلامها

الصدفة التي شغفت فدوى طوقان هي نفسها التي جرّت أسماء المدير إلى رحاب السينما الوثائقية، فوقوعها على صورة قديمة بالصدفة صنعت حكاية أسماء المدير مع السينما الوثائقية.

تقول أسماء حين سئلت عن سبب توجهها إلى السينما الوثائقية: حدثت معي قصة قبل سنوات، حين كنت في رحلة إلى الجنوب المغربي، كنت قد التقطت صورة عادية من ضمن الصور لرجل مسنّ بقرية في الجنوب المغربي.

بعد بضعة أشهر كنتُ أقلّب دفاتري، فوجدت تلك الصورة صدفة، فأعجبت كثيرا بجماليتها، وأحسست أن فعل الزمن قد زادها جمالية، أو ربّما بفعل إعادة التأمّل.

استوقفتني هذه الحادثة، وتيقّنت حينها أنّ الأبطال الحقيقيين هم أبطال الحياة، هم أبطال الحقيقة، لأنّ ملامحهم صادقة في الواقع، خامرني حينها معنى الوثيقة، فأيقنت أنّ التوثيق هو رصد لصور من هو صادق في الحياة، فإن عاشوا فقد عاشوا بصدق، وإن ماتوا فإنّهم ماتوا بصدق، فلا يعودون لتحيّة الجمهور بعد “جنيريك” النهاية أبدًا.

“جمعة مباركة”.. فيلم التخرج الذي أطلق شعلة البداية

انطلقت أسماء في عالم الفيلم الوثائقي، بعد تخرجها من المعهد المختص للسينما في الرباط، ثم المدرسة العليا لمهن الصورة والصوت في باريس، وكان عنوان فيلم تخرجها “جمعة مباركة”، وحصد عشرات الجوائز في مختلف أقطار العالم، وهو فيلم وثائقي روائي ذو بُعد فكري، ويدور حول التناقضات الفكرية داخل العائلة، بين الخال مرزوق اليساري التوجه وبين أخيه المتدين.

تقول أسماء حول هذا الفيلم: “جمعة مباركة” فيلم يجمع بين الوثائقي والروائي، وقد نال أكثر من 16 جائزة في عدد من المهرجانات الدولية، من جيبوتي إلى البرازيل. تفاجأت بتجاوب الجمهور مع قصة بسيطة لم تكلفني إنتاجيًا غير بضع دولارات استعنت بها لشراء الدمى الروسية التي اعتمدتها شخصيات للفيلم.

سخّرت كلّ طاقتي للكتابة، وبدأت حينها أعي اتجاه اختيار الشخصيات، الفرق بين شخصيات تؤجّرها للتمثيل، وأخرى واقعية تسرد الواقع بإحساس دون انتظار مقابل، وهذا هو الفرق الجميل الذي يصنعه الفيلم الوثائقي، إذ تصبح الكواليس في بعض الأحيان هي الفيلم نفسه.

“دوار السوليما”.. سحر الواقعية الإيطالية بعيون مغربية

أخرجت أسماء المدير أيضا فيلما آخر متميزا بعنوان “دوار السوليما”، ويتحدث عن عارض أفلام يدعى العربي، يعمل في قاعة سينما بسيطة ومعزولة في أقاصي الريف، لم يبقَ من روادها إلا البعض القليل.

هناك تطرح أسماء أزمة السينما في المغرب، فقد أصبحت القاعات مهجورة بعد أن كانت تعج في عصرها الذهبي بالصغار والكبار، وترمي في ذلك النفق المظلم قبس نور يحمله حفيد العربي الذي لم يتجاوز 12 ربيعا، لكي ينبت حلم عودة قاعة السينما إلى مجدها من جديد.

في هذا الفيلم نستطيع أن نلتمس المستوى الفني والإخراجي الذي وصلت له أسماء المدير، من ناحية القدرة على إدارة الشخصيات الحقيقية في بيئتها الأصلية، وكأننا نرى سينما واقعية إيطالية بعيون مغربية.

وفي ذلك تقول أسماء: اخترت أن يكون أبطال فيلمي هذا من أطفال البادية القاطنين بمكان التصوير، محاولة في الآن ذاته أن يكون الفيلم مرآة لفئة مهمّشة تعكس الواقع المكتوب في السيناريو، ولذلك راهنت على أطفال هواة، بل إنّ هذه الشخصيات التي بحثت عنها في المغرب العميق لم تكن تعلم يوما مفهوم الصورة. أطفال لا يعرفون عن السينما غير اسمها الذي ينطقونه بطريقتهم الخاصّة (السوليما).

كانت لأسماء المدير تجربتان لفيلمين روائيين أيضا، هما “الرصاصة الأخيرة” (2010)، وتلاه فيلم ألوان الصمت الذي حصد الجائزة الأولى في المهرجان الدولي لسينما الطفل بغزة، وفازت بطلة الفيلم بجائزة أفضل ممثلة عن دور سعيدة، وهي طفلة ذات 7 سنوات من بيئة فقيرة غير قادرة على السمع أو الكلام، ولا تستطيع التعبير إلا بالرسم، ويتحدث الفيلم عن تعلقها بهوايتها وعلاقتها مع والدها الصياد المعدم الذي لا يقدر أن يوفر لها علبة الألوان.

“في زاوية أمي”.. قصة حميمية تنافس في المهرجانات الكبرى

كان فيلم “في زاوية أمي” انطلاقا حقيقيا لأسماء المدير، لوضع اسمها على طاولة أكبر نقاد السينما، ولائحة الأفلام المرشحة لكبريات الجوائز. ويمكن القول إن الفيلم رحلة خاصة وحكاية ذاتية وبحث داخلي وتنقيب في أوراق الماضي من درج غرفة أسماء المدير، ومن العنوان نفسه نستطيع اكتشاف حميمية الموضوع وشخصية الطرح في حكاية عن أم المخرجة.

ولكن الزاوية الموجودة في عنوان الفيلم ليست بمعنى المكان أو الجهة أو حتى زاوية من زوايا التصوف المنتشرة في كل ربوع المغرب، بل هي القرية نفسها قرية “زاوية” الموجودة في شمال المغرب بإقليم أزيلال، وقد هجرها أغلب سكانها إلا القلة الزائرة لولي القرية أو بعض البربر وأمازيغ “آيت عطا”، لتبقى القرية بسيطة هادئة بريئة من برودة أسفلت المدينة.

تعود الصدفة، لتجد أسماء صورة قديمة بين أمتعة أمها، فتصبح الصورة عود الكبريت الذي أشعل التساؤل والحنين والفضول لتبدأ بعد ذلك رحلة التقصي في جنبات ماضي القرية وماضي والدتها التي غادرت مسقط رأسها مخلفة تاريخ أجدادها هناك.

تقول أسماء: منذ الطفولة وأنا أرى صورة محددة بين أمتعة أمّي، هي صورة قديمة عبارة عن بطاقة بريدية، وبعد مرور السنين صارت تلك الصورة بين كتبنا، فقد كنت أضعها بين أوراق القصص التي أقرؤها حيث توقفت، وبينما كنت أبحث فيما بعد عن وثائق بين أمتعة أمي وجدتها بين هذه الأمتعة، ثم سألت أمي عنها، فأجابت بأنها صورة القرية التي ولدتْ فيها، وقد غادرَتها طفلة صغيرة ولم تعد إليها أبدا.

صورة جامدة تفتح آفاقا حيوية كبرى.. قصة الفيلم

كانت تلك الصورة الجامدة لحظة الصفر التي تفصل الماضي بكل تراكماته الثقافية والتاريخية والعائلية، وبين الحاضر التي تمثله رحلة أسماء في البحث عن كل ما سبق، وأن تعيش وتعايش القرية من جديد، ولكن تلك اللحظة الصفر صنعت أيضا جدلية زمانية بين الماضي والحاضر.

فبينما نرى أسماء في لقطات عدة في الفيلم ونستشعر حضورها، نجد أيضا شخصية أم العيد، التي تمثل الأم، وتعيد تمثيل أو ترتيب كل أوراق الماضي في زمن الحاضر.

قرية زاوية مسقط رأس والدة المخرجة أسماء المدير

تقول عنها أسماء: قابلتُ شخصية أم العيد، كانت بجواري في الوادي، والمسافة بيننا تقترب دائما أكثر فأكثر، إلى أن التقينا، وأصبحتْ بجواري تماما. بدأنا نتحدّث، فحكَتْ لي قصّتها، وهنا شعرتُ أنّ قصّتها أهم كثيرا من حكايتنا، شخصية أم العيد مُعاكسة تماما للصورة النمطية. كانت تدرس وتُحبّ الحياة، وتتطلّع إلى المستقبل.

هذا التداخل الزماني يعود ويمتزج مجددا مع المكان والشخصيات، ليصبح ذلك الخيط الفاصل خيطا رابطا مجددا، وصراحة القول إن الجانب الفني والإخراجي كان متمكنا جدا، لدرجة أننا لا نحس بالكاميرا ولا القطع المشهدي أو الصوتي أو حتى التنقل بين الشخصيات.

ومن أبرز نقاط القوة في الفيلم هذه التلقائية المبهرة في تحركات الشخصيات وحركاتهم وقدرتهم على إلغاء وجود الكاميرا والشعور بها.

كل هذا الشغف الذي أخرجته لنا أسماء من ثنايا الفيلم جعله منذ خروجه للنور منافسا قويا في المهرجانات العالمية، وحصل على جوائز هامة جدا، مثل جائزة أفضل فيلم وثائقي طويل في مسابقة جوائز برلين للأفلام، كما حصد جائزة أفضل فيلم وثائقي في مهرجان “تورنتو”، ورُشح لجوائز مركز السينما العربية في مهرجان “كان”.

“كذب أبيض”.. وثائقي عربي ينافس على جائزة الأوسكار

استغرق تنفيذ فيلم “كذب أبيض” 10 سنوات تقريبا، ومن الواضح أن كل تلك السنوات آتت أكلها، فصنعت فيلما عالميا على مقاس جائزة الأوسكار. تقول مخرجته أسماء المدير: كنت مهووسة بفيلمي مدة 10 سنوات، لذا فحينما وقفت لأقدمه في مهرجان “كان” وجدت أنني أؤمن أنه ليس هناك فرق بيننا وبينهم، بالعكس نحن مُطَّلعون على فنهم وثقافتهم ونتكلم لغاتهم إضافة إلى لغتنا، بينما هم لا يعرفون عنّا الكثير.

هذا الفيلم هو أحدث إنتاجات أسماء المدير وأكثرها براعة وتميزا، مما جعله يرتقي على سلم الجوائز من المحلية إلى الإقليمية ثم العالمية، فقد فاز الفيلم بالجائزة الكبرى لمهرجان مراكش الدولي، كما حصد جائزتين في مهرجان “كان” السينمائي ضمن فئة “نظرة ما”، وهما جائزة أفضل إخراج وجائزة العين الذهبية، وتوّج أيضا بالجائزة الكبرى لمهرجان “سيدني”، ثم رُشح لتمثيل المغرب في مسابقة الأوسكار.

تقول أسماء: لكي نصل إلى العالمية يجب أن نبدأ من الجذور، ومن الهوية. إن فيلمي المتوج “كذب أبيض” هو الوثائقي الوحيد الذي نافس على الجائزة ضمن مسابقة قسم “نظرة ما”، بجانب 15 فيلما روائيا، واشتغلتُ عليه مدة 10 سنوات، بشخصيات من العائلة، أبرزها الجدة.

تعود أسماء المدير في هذا الفيلم إلى نفسها مرة أخرى وتصنع فيلما عنها، ربما يمثل امتدادا لفيلمها السابق “في زاوية أمي”، لكن لا شك أن “كذب أبيض” أكثر نضجا وفنية وتميزا في الكتابة والإضاءة والديكور والشخصيات، وكذلك الطرح. وفي هذا الفيلم أيضا، كان الماضي يلاحق المخرجة من خلال الصور، لتطرح أسئلة أكثر عمقا بشجاعة أكبر.

طفلة الزاوية.. صورة تفتح باب التاريخ العائلي والوطني

في “كذب أبيض” تعود أسماء لبيت والديها في الدار البيضاء، لمساعدتهما على الانتقال لبيت آخر، وفي خضم ذلك، تجد صورة لمجموعة من الأطفال، وفي زاوية الصورة طفلة صغيرة تنظر للكاميرا بخجل. فمن تلك الطفلة؟ هل هي أسماء كما قيل لها؟ لماذا تلك هي الصورة الوحيدة لها؟ إنها الجدة الزهراء، المرأة التقليدية الصارمة التي رفضت الصور في البيت، لأنها حرام، في حين توشّح صورة الملك الحسن الثاني جدار إحدى الغرف.

ومن هناك تفتح المخرج بابا على نفسها وعائلتها وتاريخ وطنها، وعلى حدث بعينه، وهو انتفاضة الخبز بالمغرب في 20 يوليو/ حزيران 1981.

يقول المخرج والناقد عبد الإله الجوهري: واقع أسرة آل المدير لا ينأى أو يتميز في شيء عن الماضي العام لمجتمع مغربي، عانى بشكل رهيب من ويلات سنوات الرصاص والتقتيل الجماعي في يوم أسود بمدينة الدار البيضاء، أو ما يسمى في الذاكرة الجمعية المغربية وتاريخ المغرب انتفاضة 20 يونيو من سنة 1981.

صورة جدة المخرجة أسماء المدير في فيلم “كذب أبيض”

ويستعرض الجوهري بداية الحكاية قائلا: لنبدأ من البداية، ونحاول رصد البنية المبنية إبداعيا بشكل سليم، داخل شريط يقف منتصبا على الحدود الفاصلة بين الوثائقي والروائي، أي بين الأرشيف الخاص والشهادات العامة، والمخيلة الخصبة المتكئة على تراث سينمائي عالمي.

توليفة الوثائقي والروائي.. وصفة التميز الفني في الفيلم

يقول المخرج والناقد عبد الإله الجوهري: مع تعدد الأصوات المتباينة، وتقاطعات وجهات النظر ومنطق الحكي، فإن صوت الساردة -أي المخرجة- يظل طاغيا موجها للأحداث، نعيش معها مرارة البحث عن صورة لها، مجرد صورة لطفولة منسية، وجدة صارمة ترفض رفضا قاطعا دخول الصور لفضاء البيت المتواضع، الذي تقطنه أسرة تعيش على الكفاف والعفاف والغنى عن كثير من القيل والقال، اللهم إلا صورة ملك البلاد آنذاك الحسن الثاني، الذي يحضر وتحضر معه هيبته.

وقد أجمع النقاد على أن هذه التوليفة بين الوثائقي والروائي وما تبعها من نضج سردي وبنائي، والجدلية بين الشخوص الحقيقية والدمى الخشبية الجامدة المستعملة في الفيلم، جعلت “كذب أبيض” فيلما عالميا يستحق أن يكون في القائمة المصغرة لجوائز الأوسكار، وربما يعود أيضا ليبيت قريرا في المغرب.

في انتظار أن يفتح الظرف الفائز في مسابقة الأوسكار، ويقرأ حامل الظرف قائلا: والفائز بأوسكار أفضل فيلم أجنبي يعود لفيلم “كذب أبيض” من المغرب.