“شكيب أرسلان أمير البيان”.. رحلة قائد الجهاد ضد المستعمر وحليف العثمانيين في لبنان

أثقل الأعباء التي يمكن للمرء أن يحملها، هي عبء وطن كسير جريح. وهل هناك ما هو أقدر من جروح الوطن العربي على كسر الكواهل؟

كان ذلك قدر المفكر اللبناني شكيب أرسلان (1869-1946) الذي جعل قضية الوطن العربي المستعمر والممزّق همّه الأول، وراهن على السلطنة العثمانية لصهر شتاته وتوحيده، لكنها لم تقو على الصّمود فسقطت الخلافة، ممّا جعله يدفع غاليا ثمن رهانه الخاسر، فواجه محنة النفي وذلّ الغربة، وكان مسار حياته الثري جديرا بأن يُحكى.

وقد استلهمت ذلك المخرجة سيمون الهبر في الفيلم الوثائقي “شكيب أرسلان.. أمير البيان” الذي أنتجته الجزيرة الوثائقية (2020).

“أثقل الأعباء التي يمكن للمرء أن يحملها، هي عبء وطن كسير جريح”

شكيب أرسلان

ومع أنها عوّلت كثيرا على صوتٍ سارد من خارج الإطار يقرأ مقاطع من سيرته الذاتية، فإن هاجس الفيلم لم يكن ذاتيا، ولم يرسم صورة مفردة لشكيب أرسلان، بقدر ما عرض السياق التاريخي الذي نشأ فيه وأبرز وجوه تفاعله معه فكان الفيلم -على فقره البصري واعتماده وجهة النّظر الواحدة- أقرب إلى التأريخ منه إلى السّيرة.

ابن العائلة الأميرية.. نشأة في قصبة الشويفات بجبل لبنان

يعرض الفيلم معلومات عن حياة شكيب أرسلان المبكرة في قصبة الشويفات من جبل لبنان، وعن تدرّجه في المعرفة والمناصب، حتى كان ذلك الأديب والمفكر العربي الذي عمل على دفع العرب إلى الانخراط في النهضة.

تفتتح المخرجة الفيلم بما استهل به شكيب أرسلان نفسه في الصفحات الأولى من “سيرة ذاتية”، فتعوّل على صوت السارد الذي يصلنا من خارج الإطار، وهو يقرأ على لسان الأديب قوله المغرق في الفخر بالمجد الأسري: وإن تاريخ يوم ولادتي مقيّد بخطّ المرحوم والدي الأمير حمّود بن الأمير حسن بن الأمير يونس بن الأمير فخر الدين الأرسلاني.

الأمير شكيب أرسلان

ولن نفهم هذا التسلسل الأميري ما لم ننزّل حياة شكيب أرسلان في سياقها المحلّي، فقد كانت الخلافة العثمانية تبسط نفوذها على بلدان الشام عبر الجيوش والدواوين والإدارات والإقطاعيات المحلية، وتدرج العائلات الكبيرة في منظومة الحكم المحلي، وبالمقابل تلزم الأهالي بدفع الضرائب بصفتها حامية للمنطقة، وكانت عائلة أرسلان من بين هذه العائلات المعتَمدة في ترسيخ الوجود العثماني في جبل لبنان.

وقد بدأ رحلة المسؤوليات والمناصب في سنّ مبكّرة، فبعد مرحلة الدراسة في منزل العائلة، ثم في مدرسة الحكمة التي ألحقتها السلطات العثمانية بالمدارس الأميرية، عُيّن مديرا للشويفات ولم يتجاوز 22 عاما بعد.

ثم دفعه طموح الشّاب الجارف إلى ترك المنصب والانتقال إلى إسطنبول، وبعدها عيّن متصرفا في العام 1902 بالجبل، وعمل على تدعيم سلطة الدولة بين الدروز، ولكنّ مواقفه المحرّضة ضد الاستعمار الفرنسي والبريطاني جلبت له كيد الكائدين، وفق المؤرخ محمد خوجة، فأعفي من الخدمة بعد تقارير مضللة.

نصرة الخلافة العثمانية.. ولاء لدولة تعصف بها الفتن والصراعات

خلال إقامته في إسطنبول ودمشق وأسفاره المختلفة، التقى بعدد من المثقفين العرب والمسلمين، ولكنّه تأثر خاصّة بمحمد عبده الإصلاحي وكان من أهم أعلام النهضة العربية الإسلامية، وجمال الدين الأفغاني الذي كان أميل إلى الفكر الثّوري، فظل على مدار حياته مترددا بين تبني الفكر الإصلاحي والفكر الثّوري.

سلطان الدولة العثمانية الممتد عبر العالم

ظل شكيب أرسلان مواليا للسلطنة العثمانية، آملا في أن تجمع كلمة العرب والمسلمين، وبسبب هذا التّداخل في حياته بين الهموم الشخصية والالتزام بنصرة الدولة العثمانية، ينزاح الفيلم وهو يبسط صلته بالأستانة، من عرض سيرة الفكر إلى التأريخ لبدايات انهيار الخلافة وما كانت تعانيه من التّخبط.

ففي خلافة السلطان عبد الحميد، ساءت أحوال السلطنة وكثرت الفتن، ومما زاد إضعاف الحكم انتشار الجواسيس واقتحامهم لحياة الناس، أما النّخب فكانت تمتعض من تخلف الدولة عن الركب العالمي، فضلا عن انقلاب عبد الحميد على الدستور العثماني الذي كان قد أصدره، فحلّ البرلمان وفرض حكما فرديا مطلقا.

تمرد الجيش.. بداية تأرجح السلطان عن عرشه

في هذا السياق الذي يرشح فتنة وقمعا وقلاقل، ظهرت أصوات معارضة، فبُعثت جمعية الاتحاد والترقي عام 1906، وهي وريثة حركة تركيا الفتاة، فكانت تجمّعا لكيانات عدة تدعو إلى إصلاح الإدارة في الدولة العثمانية ويناهض السلطة المطلقة للسلطان عبد الحميد الثاني.

ثم حصل تمرّد في الجيش أجبر السلطان عبد الحميد على إعادة العمل بالدستور، ولكن ذلك لم يمنع من الانقلاب عليه وخلعه، فقد انضم حرس القصر الذي يبلغ قوامه 7 آلاف عسكري إلى شوكت باشا قائد

شكيب أرسلان ظل محافظا على ولائه للدولة العثمانية تحت حكم السلطان عبد الحميد الثاني

ثم حصل تمرّد في الجيش أجبر السلطان عبد الحميد على إعادة العمل بالدستور، ولكن ذلك لم يمنع من الانقلاب عليه وخلعه، فقد انضم حرس القصر الذي يبلغ قوامه 7 آلاف عسكري إلى شوكت باشا قائد التمرّد، وبعد أن استتب له الأمر، قرر مجلس الأمة عزل السلطان في 26 أبريل/ نيسان 1909، لينصّب أخاه محمد الخامس خليفة.

ومع أن المثقفين الشاميين المدفوعين بانتمائهم القومي كانوا يعملون على الانفصال عن السلطنة، تأثرا بهذه التحولات الكبرى، فإن شكيب أرسلان ظل على وفائه للعثمانيين، وربّما كان للعرى الوثيقة بين أسرته وحكم الأستانة صلة بذلك، أمّا هو فكان يبرّر ولاءه بإيمانه بقدرة أجهزتها على لمّ شمل العرب والمسلمين.

احتلال ليبيا.. حملة لصد الإيطاليين في الجبل الأخضر

يعرض الفيلم دور شكيب أرسلان في دعم المقاومة الليبية إثر الغزو الإيطالي، فقد هاجمت القوات الإيطالية في 1911 طرابلس الغرب، ومع أنّ ساستها ردّوا هذا الغزو إلى ثورة الاتحاد والترقي سنة 1908 على السلطان العثماني، فإن الوقائع تثبت بأنّ روما كانت تناور للإقدام على هذه الخطوة، منذ أن احتلت فرنسا تونس بتأييد بريطاني.

وقد أنزلت روما قواتها على سواحل الولاية سنة 1904 لاستكشاف المنطقة، ثم جعلت مصرف روما أداتها الاستعمارية، لتمويل عمليات لشراء الأراضي من المواطنين الليبيين، حتى تكون لاحقا موطئ القدم لهذا الاحتلال ومبرّره.

جمعية الهلال الأحمر ترسل حمولة 600 جمل من المأكل والملبس للمجاهدين في ليبيا

وكان لشكيب أرسلان دور في محاولة التصدّي لهذا الغزو وفي تنظيم المقاومة الليبية. فقد خاطب ناظر الحربية شوكت باشا (وزير الدّفاع) في الأستانة لإغاثتها، وطلب منه إرسال ضباط متنكرين من طريق تونس ومصر، ودعمها بالمال والسلاح.

“إن لم ندافع عن صحاري طرابلس الغرب، فلن نحفظ جنائن طرابلس الشام”

جاء العثمانيون بأنور باشا، وكان ملحقهم العسكري في برلين، وأرسلوه إلى بنغازي متنكرا، ليؤسس تشكيلات استخباراتية، وأرسلوا عساكر أتراكا، وكان من بينهم مصطفى كمال (الذي سيحكم تركيا لاحقا ويلقب “أتاتورك” لاحقا).

ثم انضم إلى هؤلاء الأتراك شكيب من غزة، وقاد 500 مجاهد من قرى جبل لبنان بأسلحتهم وعتادهم، فتولى استنهاض الهمم وتنظيم المقاومة، وأرسلت معه جمعية الهلال الأحمر حمولة 600 جمل للمجاهدين من المأكل والملبس، وخصّته هو بثلاثين غيرها، ويذكر أنه وزعها كلّها ولم يترك لنفسه شيئا.

ويستدعي الفيلم قول شكيب أرسلان في سيرته: ولو كان عند العرب أسلحة وذخيرة بمثل عددها لطردتهم من مدّة، فلقد شاهدت الحالة بعيني، وأنا الآن أكتب وأصوات المدافع بأذني. نعم. وأسأل الله تعالى أن يردهم خائبين، وأن يعزّ هذه الأمة العثمانية ويلهمها معنى الوطنية، ويلهمها رشدها واتحادها، وينهضها من ذل الطاعة للأجنبي.

بعد عزل السطان عبد الحميد الثاني تولى أخوه السلطان محمد الخامس الحكم

وتكشف رحلة شكيب أرسلان من جبل لبنان إلى الجبل الأخضر أنه مثقف ملتزم بقضايا البلاد العربية، منخرط ميدانيا في النضال لتحريرها، وأنه عقل استراتيجي، يدرك أنّ المواجهة مع الإيطاليين ستكون مطوّلة، فصرف جهده إلى إقناع المقاومة برسم أهداف طويلة المدى، تمنع المحتل من بسط نفوذه على البلاد، بعد أن كان يقدّر أنه سيخضعها في غضون ثلاثة أشهر.

ويفسّر انخراطه في هذه الحرب التحريرية بأن المعركة العربية واحدة، فنحن “إن لم نستطع الدّفاع عن صحاري طرابلس الغرب، فلن نتمكن من حفظ جنائن طرابلس الشام”.

الحرب العالمية.. سيل جارف أغرق الخلافة في الوحل

يذكر شكيب أرسلان أنه كتب في جريدة “الشعب” المصرية -قبل الحرب العالمية الأولى ضمن مقالة بعنوان “نار أوروبا من شرارة البلقان”- أنّ حربا عمومية ستنشب بين الدّول العظمى، وأنّ شرارتها الأولى ستكون بين النمسا وصربيا، وهذا ما حدث.

ثم تبرز بعض كواليس نشوبها بانضمام الدولة العثمانية إلى التحالف مع ألمانيا، ممّا لا تورده الوثائق التّاريخية. فبحكم انخراط أسلان ضمن لجنة التواد الروسي العثماني، يقدّم شهادته على تشجيع روسيا للعثمانيين، حتى يحافظوا على حيادهم في هذه الحرب، مبرزا أنهم كانوا يرفضون التحالف معهم.

صورة لفريق من الضباط والمجاهدين في معسكر درز طرابلس الغرب في ليبيا

والأمر نفسه كان يحدث مع فرنسا وبريطانيا، ويفسّر المؤرخون ذلك بعوامل موضوعية، فبين الدّولتين اتفاق سري عُقد منذ 1912 يقضي بتقسيم سوريا وفلسطين، وسيحول التحالف مع الدولة العثمانية دون ذلك بلا شك.

ومع أن شكيب أرسلان كان قد حذّر من عواقب التحالف مع الألمان، فإنّ السلطنة دفعت إلى الحرب معها دفعا، وفي هذه الأثناء طلب منه جمال باشا قائد الجيش الرابع للإمبراطورية العثمانية والحاكم العسكري للولايات السورية -ولم يكن يطمئن له ولا يوقّره إلاّ خضوعا لأوامر عليا من أنور باشا- تجهيز كتيبة لبنانية من 1500 رجل تكون جاهزة للطوارئ، فما لبث خلال شهر ونصف أن وجد في سجلاته أسماء تسعة آلاف متطوع.

ولكنّ نتائج الانخراط في تلك الحرب كانت كارثية، فقد تمزقت أواصر الدولة لعجزها عن المواجهة، فحالة الانقسام التي تعيشها البلاد وعدم استعدادها لمثل هذه الحرب، جعل “الأعداء يميتون العسكر جوعا”، فكانت الدولة العثمانية “الأمة التي تخرب بيتها بيدها”.

مجاعة لبنان.. جراد فتاك وحصار من الحليف والعدو

لم تكن الحرب العالمية هيّنة على لبنان، فقد شهدت مجاعة كبرى (1915-1918) قضى خلالها ما بين 120-200 ألف لبناني.

فقد تحالفت عناصر عدة للمشاركة في هذه الكارثة، فلم تكن المحاصيل الزراعية تفي بحاجة الأهالي، وفاقمت جحافل الجراد التي غزت البلاد العام 1915 الوضع، بعد أن دمّرت معظمها، ثم صادر جمال باشا ما بقي منها لاستهلاك جنوده، وفرض حصارا يمنع دخول الأغذية إلى جبل لبنان من المناطق السورية المجاورة، وجعل تزويد الجنود العثمانيين المشاركين في الحرب بها أولويته.

كما ضرب الحلفاء حصارا منع دخول السلع القادمة من مصر أو المساعدات الغذائية الأمريكية من الجهة البحرية، وكانت حجتهم أنهم يخشون وقوعها في أيدي القوات العثمانية أو الألمانية.

إعدام أعضاء المنتدى الأدبي.. سياسات تؤجج الثورة

في هذه الفترة، اكتشفت المخابرات العثمانية تواصل بعض أعضاء المنتدى الأدبي في دمشق وبيروت مع الفرنسيين والإنجليز، فعُدّ ذلك خيانة توجب الإعدام، ومع أن أرسلان توسط لدى جمال باشا ليعالج الأمر بالاعتقال أو النفي، فإن 21 فردا أُعدموا في الساحات العامة.

بعد استلامه الحكم، الغى أتاتورك الكتابة بالحروف العربية ومنع كذلك الأذان بالعربية

وقد فاقم ذلك الغضب الشعبي، في سياق تضخّمت فيه نزعة الأتراك القومية، وجعلتهم يتعاملون مع بقية القوميات بالاحتقار والازدراء، فقامت الثورة العربية الكبرى التي لم تخدم الطرفين وفق شكيب أرسلان، بل اتّهم سياسة جمال باشا في سوريا بتأجيجها.

وكان شكيب أرسلان نفسه من ضحاياها، فقد دفع ثمن رهانه الخاسر على الجواد العثماني، فاتُّهم بالتحريض على الحصار والمشاركة في تعميق المجاعة، ولم تنقذه إلا شهادات من بعض الموارنة المستهدفين من قبل جمال باشا، فقد شهدوا أنه ساعدهم في محنتهم أو إنقاذ حياتهم.

“أوصيكم بفلسطين”.. وصية العائد من المنفى الأوروبي

اتهمت دول التحالف شكيب أرسلان بموالاة المحور، بسبب زيارته برلين وروما والتقائه بـ”موسيليني” لإعادة 80 ألف ليبي منفي إلى ديارهم، فنُفي عن لبنان وعاش مغتربا في المدن الأوروبية، وهناك كان له نشاط سياسي حثيث، فمثّل الثورة السورية الكبرى في عصبة الأمم في جنيف من عام 1925 حتى 1927، وتراسل مع الشباب المغربي للتعريف بالقضية المغربية، وكانت له صلات بالوطنيين التونسيين.

“أوصيكم بالقدس”.. آخر وصايا شكيب أرسلان للعرب

“أوصيكم بفلسطين”

ومع سقوط الخلافة وعلمنة الدولة، أصبح أميل إلى الدّفاع عن القضايا العربية، فاتخذ موقفا سلبيا من مصطفى كمال أتاتورك، وظل يحارب العصبيات التي تفصل القومية عن الدين، ويتبنى تصوّرا يرى في الإسلام الإطار العام الذي يصهر كلّ القوميات في كيان أشمل، وحذّر من تفكك الدول العربية وانهيارها بانهيار الرابط الديني.

وبعد عودته من المنفى سنة 1946 مريضا، كانت آخر تدويناته “أوصيكم بفلسطين”. فقد كان يدرك أن احتلالها سيكون أشد أنواع الاحتلال الذي أصيبت به البلدان العربية تعقيدا، وأكثرها بشاعة.