باسم يوسف.. كوميدي ساخر يصبح صوتا عالميا للقضية الفلسطينية

قبل السابع عشر من أكتوبر/ تشرين الأول من عام 2023، كانت شعبية باسم يوسف مقتصرة على جمهوره المصري، وبعض المتابعين له من الوطن العربي، وعدد قليل ممن تابعوه في عروضه التي يقدمها بالإنجليزية في الولايات المتحدة الأمريكية.

كان باسم جراح قلب، ثم دخل عالم السخرية عقب ثورة 25 يناير/ كانون الثاني 2011، فجمع شعبية هائلة، ووصل لملايين المصريين في سنين ما بعد الثورة، لكن اختلف تقييم المصريين لموقفه في 2013، ثم ما لبث أن رحل من مصر واستقر في أمريكا.

منذ بداية الحرب الإسرائيلية على غزة في أكتوبر 2023، وإسرائيل تقصف غزة وأهلها يوميا، وكان المجال الإعلامي العالمي في البداية -ولا سيما الناطق بالإنجليزية- متبنيا للرواية الإسرائيلية، ولم يكن ينطق بها المتحدثون باسم الاحتلال وجيشه فحسب، بل أيضا الإعلاميون الأمريكيون والبريطانيون الغارقون في مستنقع الدعاية الإسرائيلية.

وقد تزعزعت تلك الرواية بشكل كبير، بسبب تصاعد الأصوات القليلة العربية والغربية المدافعة عن الفلسطينيين، بعد أن سمح لها تدريجيا بالظهور، مع ازدياد أعداد الضحايا في غزة، ولا سيما من النساء والأطفال، وكان من أبرز هذه الأصوات باسم يوسف.

“بيرس مورغان”.. محاصر العرب الذي سُقط في يده!

بعد مرور ١٠ أيام على السابع من أكتوبر، استضاف الإعلامي البريطاني الشهير “بيرس مورغان” باسم يوسف في برنامجه الحواري، وقد اعتمد “مورغان” على محاصرة ضيوفه العرب باتهامات دعم الإرهاب، وإجبارهم على الحديث بشكل دفاعي، لكن إستراتيجية باسم يوسف كانت مختلفة تماما.

فقد اعتمد السخرية أسلوبا دفاعيا، مما جعل عدد مشاهدات هذه الحلقة يتخطى ٢٢ مليون مشاهدة حتى لحظة كتابة هذا المقال، وذلك على منصة اليوتيوب فقط، ناهيك عن ملايين المشاهدات الأخرى في التليفزيون والمنصات الأخرى.

فكيف استخدم باسم يوسف السخرية للدفاع عن القضية الفلسطينية؟ وكيف ازداد ظهوره الإعلامي العالمي حتى مع مهاجمته الشديدة لإسرائيل؟ بل كيف أصبحت جولتُه العالمية في عروضه الساخرة فعاليةً تجمع عشرات الآلاف من المتضامنين مع القضية الفلسطينية من قلب العواصم الأوروبية؟

“إنه مدمر، إنه جميل”.. سخرية لاذعة يثقلها الوجع

“أنا لم أشاهد قط ضحية تضع مضطهدها في حصار، وتفجره مدة ٢٤ ساعة على مدار الأسبوع، العلاقة مع إسرائيل تشبه علاقةً مع شخص نرجسي مختل، يدمرك ثم يدّعي أنك المخطئ، لقد أرسلت لي زوجتي صورة منزل عائلتها في غزة، إنه مدمر، إنه جميل”.

بهذه الكلمات الساخرة، كان باسم يوسف يرد على أسئلة “بيرس مورغان” في حواره معه في أكتوبر ٢٠٢٣، فلم يلجأ لدلائل جدية لمحاجاة محاوره، بل اكتفى بالسخرية مما يردده المدافعون عن العدوان الإسرائيلي والقتل الذي لا يتوقف بحق الفلسطينيين، فكان يكرر ما يقوله الطرف الآخر ولكن بشكل كاريكاتوري، ليظهر للمستمعين مدى حماقة ما تردده الدعاية المساندة للحرب.

تجمد “بيرس مورغان” ولم يستطع مجاراة باسم في سخريته، وقد شاهد اللقاء -ولم تتجاوز مدته 30 دقيقة- ملايين المشاهدين، أغلبهم من غير العرب، واقتنع كثير منهم بما يطرحه باسم، فشعروا بحزنه الذي عبّر عنه بصورة ساخرة مما يتعرض له أهل غزة.

باسم يوسف في لقاء صحفي مع بيير مورغان

لقاء الساعتين.. جلسة مطولة تشرح تاريخ الصراع

شعر “بيرس مورغان” بعد اللقاء بضرورة صنع حلقة خاصة أخرى مع باسم، لأن لقاءهما الأول كان أكثر حلقات برنامجه مشاهدةً على يوتيوب، وقد التقى الطرفان في لقاء آخر مطول امتد ساعتين، شرح فيه باسم كثيرا عن تاريخ الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.

تحدث باسم في اللقاء عن مجازر الاحتلال بحق الفلسطينيين منذ زمن النكبة، ومنها مجزرة الطنطورة، ثم تحدث أيضا عما يحدث في الضفة الغربية من استيلاء على الأراضي واعتقالات وقتل لأهل فلسطين، ثم امتد حديثه ليتحدث عن العنصرية داخل المجتمع الإسرائيلي.

نجحت خطة باسم يوسف إذن في إجبار واحد من أشهر الإعلاميين في العالم على منحه المساحة أمام الملايين من جماهيره ليحدثهم بطريقته الساخرة عن القضية الفلسطينية.

“سلاح من لا يملك القوة في وجه من يملك السلطة”

قبيل أكتوبر ٢٠٢٣ ولقاءات باسم يوسف مع “بيرس مورغان”، كانت شعبيته معتمدة على إرث برنامجه الساخر “البرنامج” الذي كان يقدمه في مصر، ومع أن كثيرين يتخوفون عادة من الدفاع عن القضية الفلسطينية في الإعلام العالمي، بسبب حملات الإلغاء والوصم المستمر لمنتقدي إسرائيل بمعاداة السامية، فإن باسم قد استفاد من موقفه هذا بشكل ما، فالمتابع له سيجد أن شعبيته قد زادت دون شك.

فقد استُضيف باسم خلال الأشهر الستة الماضية لكثير من البرامج التلفزيونية والإذاعية الغربية للحديث عن فلسطين، وترجمت لقاءاته الساخرة للفرنسية والألمانية، وأصبح حاضرا في النقاشات في دول لا تتحدث الإنجليزية والعربية، واجتذب عشرات الآلاف من المتعاطفين مع فلسطين لعروضه الكوميدية في أمريكا وأوروبا.

تقول الكاتبة الأمريكية “مولي إبفانز” إن “السخرية عادة هي سلاح من لا يملك القوة في وجه من يملك السلطة”، ويمكن عكس هذه المقولة على ما نشهده الآن في عروض باسم يوسف الساخرة بأوروبا، وهو يقدم الآن عرض “الوحش الأوسط” (The Middle Beast Tour)، وهو اسم يحمل تلاعبا لفظيا ساخرا من مصطلح “الشرق الأوسط”، وينتقل فيه باسم من مدينة أوروبية إلى أخرى، من أوسلو إلى زيورخ إلى أوتريخت.

“الوحش الأوسط”.. عروض تتجاوز المحظور في أوروبا

في 18 أبريل/ نيسان المنصرم، وصل باسم يوسف لمسرح “تيمبدروم” الكبير في برلين، ضمن جولة “الوحش الأوسط”، فتجمع له في قاعة العرض ما يزيد عن ٣ آلاف من الحضور، وكانت الأجواء أشبه بتظاهرة من أجل فلسطين، كوفيات فلسطينية وأعلام، العنصر الوحيد المختلف عن باقي تظاهرات دعم فلسطين من داخل برلين أن هذا الجمع لم تكن تحاصره الشرطة.

امتلأ المسرح عن آخره، وتعالت الهتافات سريعا “الحرية لفلسطين” (Free Palestine)، وهو هتاف قد يتسبب باعتقالك في برلين، ارتفعت الأعلام الفلسطينية داخل الصالة، وعندما صعد “باسم يوسف” على المسرح تحدث في عرضه عن ما تفعله إسرائيل، من خلال ذكر مصطلحات يصعب ذكرها في ألمانيا، منها وصفه لإسرائيل بدولة الفصل العنصري، ووصفه لحربها على غزة بأنها “إبادة”.

ولم يخلُ الأمر من السخرية اللاذعة، فوصف باسم إسرائيل بأنها “قطعة من القذارة”، وقال إنه يستطيع التعبير بحرية وإطلاق هذا الوصف على أمريكا التي يحمل جنسيتها الآن، وعلى أي دولة يريد انتقادها في العالم، بل حتى على ألمانيا نفسها، إذن فلماذا لا يستطيع إطلاق نفس الوصف على إسرائيل؟!

تلك الكلمات والمصطلحات التي أطلقها باسم يوسف في عرضه تتخطى كافة الخطوط الحمراء التي قيدت بها السلطات الألمانية حق التعبير، فالمدافعون عن حقوق الفلسطينيين على تعدد مشاربهم، بل حتى اليهود الداعون للسلام، ينكل بهم ويعتقلون ويمارس ضدهم العنف، خلال الفعاليات والمظاهرات التي شهدتها برلين في الشهور الماضية.

يوصم الجميع -حتى النشطاء اليهود من أجل السلام- بتهمة معاداة السامية، بمجرد انتقاد الحكومة الإسرائيلية والقتل المستمر في غزة، فماذا ستفعل السلطات الألمانية إذا ما قرر باسم يوسف العودة مرة أخرى بأحد عروضه الكوميدية إلى أراضيها؟

الأهم من كل ذلك أن عروض باسم يوسف توفر مساحة تجمع آلاف المتضامنين مع فلسطين وأهلها، وأحاديثه وعروضه بالإنجليزية تصل لجمهور جديد من أوروبا وأمريكا، وتصل معه حقائق ما كانت لتصل إلا بالكوميديا، ومن خلال خطاب يعتمد بالأساس على مخاطبة هذا الجمهور بلغته ومن داخل ثقافته. تصبح أهمية هذا الحراك أكثر قيمة من الاتفاق أو الاختلاف على باسم يوسف نفسه.