“شرطي كراتشي القوي”.. حرب ضد الظلام في مدينة الأضواء

حسن العدم

كراتشي العاصمة الاقتصادية لباكستان وميناؤها الرئيسي وأكبر مدنها من حيث عدد السكان.

كانت تسمى مدينة الأضواء، أما اليوم فهي تقف على حافة الظلمات، حتى أصبحت أشبه بمدينة أشباح، يصارع بعض أهلها من أجل عقيدته الدينية، وبعضهم من أجل الحصول على لقمة العيش، أما معظمهم فيصارع من أجل البقاء.

يعتبر التنوع العرقي والقومي والثقافي والديني العنوان الأبرز لهذه المدينة، وإلى جانب ذلك فهي تختزل فسيفساء السياسة الباكستانية بأحزابها المتعددة في لوحة تستغرق أبعادها الجغرافية.

غير أن هذا التنوع السياسي يجلب للمدينة في غالب الأحيان ويلات التطرف في شتى الاتجاهات، وما يتبعها من قتل وتخريب وفوضى، مما يخلق تحديا كبيرا للعميد “شاهد حياة خان”، مدير شرطة كراتشي، وبطل هذه الحلقة من سلسلة “عالم الجزيرة” التي عرضتها قناة الجزيرة عام 2014 بعنوان “شرطي كراتشي القوي”.

 

“عملية كراتشي”.. مجابهة القوة بالقوة

في عام 2013 كان عدد ضحايا العنف في كراتشي وحدها يتجاوز 2700 شخص، وهذا الرقم لا يفرق بين رجال الشرطة أو المدنيين أو رجال العصابات المسلحة والمتطرفين، فهي حرب مستمرة تدور رحاها بين العصابات المسلحة المرتبطة بأحزاب سياسية معينة، أو الجماعات الإرهابية المنبثقة عن المتدينين من شتى الطوائف، بما فيها حركة طالبان (طلبة المدارس الدينية في باكستان).

في سبتمبر/أيلول من عام 2013 قاد العميد “شاهد حياة خان” عملية قوية في كراتشي كان عنوانها “ردع القوة بالقوة”، أما المستهدفون فهم المتطرفون السياسيون والدينيون على حد سواء، وهو يعترف بالوضع الأمني المعقد في كراتشي “مدينة المتناقضات” على حد تعبيره، وهو كذلك لا يخفي أسفه على الضحايا من أفراد الشرطة الذين قضوا في هذه الحملات الأمنية، إذ زاد عددهم عن 200 شخص في عام 2013، ومن بينهم صديقه “إسلام شودري” الذي كان يعتبر السد المنيع أمام هجمات “طالبان” على كراتشي.

لا تضارب بين عملية كراتشي والواجبات الأمنية الأخرى الملقاة على عاتق “شاهد حياة خان” وفريقه، فقد تعامل لتوه مع رسائل ابتزاز مالي، كان ضحاياها عشرات الأطباء من القطاعين العام والخاص، فقد وصلتهم رسائل تهديد على هواتفهم المحمولة تطالبهم بدفع مبالغ مالية مقابل حياتهم.

لكن التحدي الأكبر الذي يواجه رئيس الشرطة هو الامتدادات المسلحة للأحزاب السياسية، وخصوصا تلك الأحزاب التي لها عداء تقليدي مع الشرطة منذ زمن.

"شاهد حياة خان" مدير شرطة كراتشي
“شاهد حياة خان” مدير شرطة كراتشي

 

الحركة القومية المتحدة.. ثأر تاريخي مع الشرطة

الحركة القومية المتحدة تعد واحدة من أكبر القوى السياسية في كراتشي، ولها ثارات قديمة مع الشرطة، وكانت تتحضر وقتها للقيام بإضراب هذه الأيام بزعم أن الشرطة تعتقل العشرات من كوادرها، وقتلت آخرين في وقت سابق على حد تصريح أحد قادتها لقناة تلفزيونية محلية. غير أن العميد “شاهد حياة خان” ينفي أن الشرطة قتلت أحدا منهم، ويقول إنه ما زال يحقق في مقتل أحدهم وجدت جثته مُلقاة في أحد أحياء كراتشي.

ليست الإضرابات والاحتجاجات غريبة على العميد “خان”، فقد عايش موجاتٍ منها في هذه المدينة بالذات، وما زال يذكر أنه تعرض لإطلاق النار أكثر من ثلاث مرات في 1992، ونجا من الموت بأعجوبة في تلك الاحتجاجات التي راح ضحيتها المئات من زملائه رجال الشرطة.

تلقى “شاهد” لتوه مكالمة هاتفية تفيد بأن الحركة القومية ستنظم الإضراب غدا، وهو لا يبدي قلقه لذلك، ويمارس نشاطاته الاعتيادية، ويستعد لتخريج عدد من الضباط الليلة، كما أنه -كقائد مُحنَّك- يستغل مثل هذه المناسبات لرفع معنويات جنوده، والتأكد من جاهزيتهم القصوى للعمل، ولا يخفي إعجابه بمدى انضباط شرطة كراتشي وعزيمتهم القوية، ويقول إنه خدم في عدة أقاليم ولكنه لم يعهد مثل هذه البسالة التي عليها أفراد شرطة كراتشي.

يشل الإضراب الحركة التجارية في قلب كراتشي، مما يعني أن 20% من اقتصاد باكستان سوف يتأثر، وسيستمر الإضراب لمدة نصف يوم فقط.

يقول حيدر رزقي أحد قيادات الحركة القومية: الشرطة تستهدفنا، وطالبان كذلك، لقد فقدنا المئات من كوادرنا، الشرطة تساهم في قتلنا بدل أن تحمينا من طالبان، نحن حزب سياسي ولا نملك السلاح للدفاع عن أنفسنا، إنها مهمة الشرطة.

في عام 2013 كان عدد ضحايا العنف في كراتشي وحدها يتجاوز 2700 شخص
في عام 2013 كان عدد ضحايا العنف في كراتشي وحدها يتجاوز 2700 شخص

 

كراتشي.. اقتسام الكعكة بالسلاح

“ماهين ماهر” محرِّرة صحفية في إكسبرس تريبيون، تقول إن كراتشي مقسمة بين الأحزاب المتصارعة، وهناك مناطق نزاع متعددة، جميع الأحزاب على صلة بمجموعات مسلحة، وهي تستخدمها لإقصاء الأحزاب المنافسة، وتحصل على التمويل من خلال الابتزاز والسطو.

وتضيف ماهين: أصبحنا نميز بين الجماعات المسلحة من خلال طريقة القتل، والسلاح المستخدم في الجريمة، فكل فصيل له طريقته الخاصة في التخلص من خصومه، والنتيجة مزيد من الجثث الملقاة في الشوارع في أكياس من الخيش.

تتمركز حركة طالبان في مناطق محددة من كراتشي، وهي تستخدم هذه المدينة للحصول على المال من خلال الجريمة، حيث يُستخدم لتمويل عملياتها العسكرية في شمال باكستان، وهي تُعتبر الخطر الأكبر على الجماعات العرقية والدينية الأخرى، وخصوصا الشيعة وأصحاب الطرق الصوفية.

ويعترف العميد “خان” أن الإمكانيات المحدودة لرجاله وكذلك الطبيعة المعقدة للأحياء السكنية التي تتمركز فيها العصابات، يجعل التحكم في سير المعارك وحسم نتائجها لصالحه أمرا صعبا.

ويعتقد جازما أن 6000 رجل شرطة و1200 كاميرا مراقبة تنتشر في أنحاء المدينة الشاسعة؛ لن تكون كافية بأي حال للقضاء على المجرمين.

الإمكانيات المحدودة للشرطة، تجعل التحكم في سير المعارك وحسم نتائجها لصالحها أمرا صعبا
الإمكانيات المحدودة للشرطة، تجعل التحكم في سير المعارك وحسم نتائجها لصالحها أمرا صعبا

 

الرسم على الماء.. بين العمليات الترقيعية والحلول الإستراتيجية

على الرغم من الإمكانيات المحدودة لرجال الشرطة، فإن عمليات الدهم الأمنية تتواصل، والقبض على الخارجين عن القانون مستمر، فقد تم حتى تاريخ تصوير الفيلم تنفيذ أكثر من عشرة آلاف عملية دهم، تم خلالها مصادرة 4500 قطعة سلاح، ولكن التحدي الأكبر الآن هو في إثبات تهم الجريمة ضدهم، فالشهود دائما ما يغيرون أقوالهم أمام المحكمة، لأنهم يتلقون تهديدات بالقتل من بقية أفراد العصابة الذين أفلتوا من المطاردة.

غير أن رئيس شرطة كراتشي السابق “سليم فاهدي” يشكك في نجاعة هذه العمليات التكتيكية، ويقول إن أثرها مباشر قريب المدى، أما اجتثاث الجريمة كليا فيحتاج إلى حلول إستراتيجية. ويعترف أن باكستان ليس لديها هذه الحلول في المستقبل المنظور.

ويشير فاهدي -وهو يعمل الآن في منظمة أممية لحماية الشهود- إلى ثقافة بلاده التي تحول دون إتمام المحاكمات بشكلها الأمثل، ويقول إن نسبة الاتهام على المشتبه بهم في المحاكم الباكستانية 0.5%، وتعتبر متدنية جدا إذا ما قورنت بالدول الأخرى.

ولا تنتهي التحديات في وجه هذا الشرطي القوي “شاهد خان”، فأثناء تصوير هذه الحلقة كان هناك تفجير قوي استهدف إحدى الحافلات أمام أكاديمية تدريب الشرطة، وكانت النتيجة مروعة، فقد قُتل 12 شرطيا وأصيب نحو 33، ودُمرت الحافلة بالكامل بعد اصطدامها بسيارة مفخخة، في إشارة إلى أن حركة طالبان تقف وراء التفجير، وبالفعل تبنت الحركة العملية.

التحدي الأكبر الذي يواجه رئيس الشرطة في كراتشي هو الامتدادات المسلحة للأحزاب السياسية
التحدي الأكبر الذي يواجه رئيس الشرطة في كراتشي هو الامتدادات المسلحة للأحزاب السياسية

 

كي لا تقتلكم طالبان.. أوقدوا شمعة

لا يخفي حياة خان أسفه وحزنه على الضحايا من زملائه الشرطة، ويقول لو أن هذا العدد سقط في دولة أخرى لأعلنت الحداد العام، ولكن هنا للأسف يتكرر مشهد القتل يوميا حتى أصبح أمرا اعتياديا لا يقف عنده أحد.

يتابع العميد وهو يقوم بتوديع ضابط الطب الشرعي “أفتاب قيومي” الذي قضى نَحبَه نتيجة عيار ناري أثناء قيامه بواجبه: إنه أمر محزن للغاية أن نفقد العشرات من أمثال هذا الرجل الرائع كل يوم، انظر إلى أطفاله، لقد تركهم صغارا، انظر إلى الحزن الذي يلف وجوههم.

ويستمر العميد في زيارة ذوي الضحايا في منازلهم، ويقدم لهم العزاء، وشهادات تعهد لأبنائهم بالحصول على وظيفة في الشرطة عندما يبلغون أشدهم.

في مدينة الأضواء، وحده “شاهد حياة خان” يقاتل من أجلها، وهو لا يتصور أن يخسر معركته مع الإرهاب، ويوجه رسالته الحاسمة للأحزاب: ما لم تتخلصوا من عصاباتكم المسلحة فلن تنعم هذه المدينة بالأمن، وما لم تحلوا خلافاتكم السياسية بعيدا عن التصفيات الجسدية؛ فلن تمتنع طالبان عن قتلكم جميعا، أرجوكم أوقدوا شمعة في هذه المدينة من جديد.