الأزهر… منبع الإصلاحيين وموطن الأحرار والثوار

تفتح الوثائقية ملف الجامع الأزهر بعد أكثر من ألف عام على بنائه في سلسلة من أربعة أفلام أنتجتها الجزيرة الوثائقية تحكي قصة هذا الصرح الأشم منذ تشييده على يد الفاطميين وحتى أيامنا هذه، وفي الحلقة الثالثة من هذه السلسلة المعنونة “الإصلاحيون والثوار” نسلط الضوء على سيرة الثوار والإصلاحيين الذين خرجوا من رحم مؤسسة الأزهر الشريف وقاموا بدور وطني لحماية مصر وكانت لهم أفكارهم لتطوير المؤسسة ومناهجها وطرق التعليم بها.

حسن العدم

نقف في هذه الحلقة من سلسلة الأزهر الذهبية عند بعض الأعلام والشخصيات والأحداث التي أثرت وتأثرت بالأزهر الشريف، وصنعت تاريخه، وتركت آثارها محفورة في الذاكرة الجمعية المصرية، ومن هؤلاء الأعلام:

حسن العطار.. شيخ الإصلاحيين

وهو من أوائل الإصلاحيين في الأزهر، بل من كبارهم، عاصر حملة نابليون وأفاد من بعض علومهم التجريبية في الطب والهندسة، كان كثير الأسفار قبل أن يتولى مشيخة الأزهر في عهد محمد علي، فقد سافر إلى الشام وتركيا وألبانيا والحجاز، ولعل هذا ما ساهم في صقل عقليته الإصلاحية.

عمل العطار على إصلاح التعليم في الأزهر والمعاهد الأخرى، وإذ لم تنجح جميع خططه، فلقد ربّى تلاميذ نجباء حملوا راية التنوير من بعده، أمثال رفاعة الطهطاوي ومحمد عباد الطنطاوي.

ويعزى عدم نجاحه في تنفيذ ما كان يطمح إليه في تطوير المناهج وأساليب الدراسة في الأزهر إلى عدم اهتمام محمد علي بهذا الجانب من التعليم، فلقد كان كل همه منصرفاً إلى تأسيس مدارس التعليم المدني والعلوم التجريبية والإدارية والعسكرية، مع إهمالٍ متعمد للدراسات الدينية، وخصوصاً في الأزهر.

الشيخ محمد عبده واحد من أهم رموز التجديد في الفقه الديني، والفكر الإسلامي عموما
الشيخ محمد عبده واحد من أهم رموز التجديد في الفقه الديني، والفكر الإسلامي عموما

محمد عبده.. الشيخ المثير للجدل

واحد من أهم رموز التجديد في الفقه الديني، والفكر الإسلامي عموما، ثار على عملية التدريس التقليدية في الأزهر مذ كان طالبا فيه، وكان يميل إلى المدرسة العقلية، والعلوم الطبيعية في الفلك والرياضة والكيمياء، وكان رائده في هذا التوجه هو الشيخ حسن الطويل، وهذا الأخير هو الذي قاده إلى شيخه الروحي جمال الدين الأفغاني.

والأفغاني هو أمير عالم ورحالة، ينتسب إلى زين العابدين بن الحسين، ولذا كان يلقب بالسيد، ألقى عصا ترحاله في مصر، والتف حوله التلاميذ والمريدون، ينهلون من علمه، ويتعلمون من سعة أفقه، وينجذبون إلى طريقته في الأداء، وينبهرون بما لديه من دراية في الفلسفة والمنطق وعلم الكلام، وهي العلوم التى كان الأزهر يحاربها ويتهم أهلها بالزندقة.

ويبدو أن الشيخ محمد عبده وجد ضالته عند الأفغاني فلازمه كظله، ونهل من علومه المختلفة، وصار يلقي ما يتعلم منه على أقرانه في الأزهر، حتى صاروا يعلقونها على سواري المسجد، مما أثار حفيظة بعض العلماء المحافظين، حتى إن الشيخ عليش لما سمع أنه يتحدث عن العقائد النسفية ويذكر الأشاعرة والمعتزلة أخذ “الشومة” (عصا غليظة) وراح يبحث عن محمد عبده ليكسرها على رأسه.

يذهب بعض المفكرين المعاصرين، ومنهم الدكتور محمد عمارة، إلى إحسان الظن بالفريقين من أهل الأزهر، فالمحافظون يخشون على الذات والهوية الأزهرية من التغريب والانحراف، والمجددون يخافون الجمود والتخلف على عقليات تلاميذ الأزهر إذا هم لم يلحقوا بركب العلوم الحديثة والأساليب الجديدة التي بلغت بالغرب هذا العلو السامق من التقدم.

وزادت الهوة اتساعا بين المجتمع والأزهر في عهد الخديوي إسماعيل، فهو أيضا قد تمادى في الفصل بين الأزهر والمدارس المدنية وزاد على سلفه محمد علي في ذلك، وتوسع في البعثات إلى أوروبا، وفتح مدارس البنات والمدارس الداخلية مما زاد في عزلة الأزهر، بل إن افتتاح قناة السويس الذي استجلب عددا كبيرا من الفرنسيين والأوروبيين عموما أدى إلى ما يشبه الخلخلة في المجتمع المصري، خصوصا في المناطق التي سكنها هؤلاء، مثل مدينة الإسماعيلية مثلا.

كان أحمد عرابي ممثلا عن الجانب العسكري ومجموعة من نواب البرلمان كجناح مدني للثورة ضد الخديوي إسماعيل
كان أحمد عرابي ممثلا عن الجانب العسكري ومجموعة من نواب البرلمان كجناح مدني للثورة ضد الخديوي إسماعيل

ثورة عرابي.. ثورة النخبة

تململ المصريون من ممارسات الخديوي إسماعيل، فولوغه في الترف والبذخ وإغراق مصر بالديون كانت محفزات قوية على الثورة، حتى إن استبداله بابنه محمد توفيق لم يغير من الأمر شيئا، فظهر جناحا الثورة ممثَّليْن بأحمد عرابي عن الجانب العسكري ومجموعة من نواب البرلمان كجناح مدني للثورة. والسؤال المنطقي: أين الأزهر من هذا؟

قد يكون من غير المتوقع أن تجد أن معظم المحافظين كانوا أنصارا للثورة، مثل الشيخ عليش والشيخ العدوي، وأن كثيرا من المحسوبين على فريق المجددين كانوا ضد الثورة، وكان منهم الشيخ محمد عبده، ومبرره في ذلك أن الثورة قد تستثير الإنجليز لاحتلال مصر بالكامل، ولكن عندما رأى المدافع تقصف الإسكندرية تحوّل عن رأيه ومال إلى الثورة وأهلها.

تبادل الفريقان استصدار الفتاوى المؤيدة لرأي كل منهما، فأصدر الشيخ عليش فتوى بوجوب الخروج على الحاكم الظالم الذي مهد للإنجليز التحكم في خيرات البلاد وأهلها، وشايعه على هذه الفتوى صفوة علماء الأزهر وشيوخ الأقاليم حتى باتت تحظى بما يشبه الإجماع الشعبي. وفي المقابل استصدر الخديوي محمد توفيق فتوى من بعض شيوخ الأزهر تحرم الخروج على الحاكم، وهنا رأى عرابي أنه حصل على تفويض شرعي وشعبي للمضي قدما في الثورة، ولكن المعارك الحديثة لا تحسمها الفتاوى وحدها، فتلقّى هزيمة موجعة في معركة التل الكبير عام 1882.

قُبض على زعماء الثورة وحوكموا وزجوا في السجون، ودفنت الثورة في مهدها، وتقدم الإنجليز إلى القاهرة، ولم يثبت أكثر الثوار، فقد تراجعوا عن مواقفهم، وبعضهم تبرأ من الثورة، إلا قليل منهم أمثال الشيخ حسن العدوي. وأصابت المجتمع المصري نكسة جديدة، بات على أثرها تائها لا يعرف مرجعيته الصحيحة ولا انتماءه الأصيل، وتغلغلت المناهج الدراسية الحديثة التي جلبها الإنجليز لتغريب المجتمع وإبعاده عن قيمه. أما الشيخ محمد عبده فتقرر نفيه إلى خارج مصر.

عاد محمد عبده من المنفى بغير الوجه الذي ذهب به، هدأت ثورته وتغيرت أفكاره وتبدلت مراجعه، فحلَّ اللورد كرومر مكان الأفغاني، وصارت مهادنة الخديوي عباس وملاطفة الإنجليز بدل الثورة عليهم وقتالهم، وسيطر عليه اليأس من الإصلاح، وطلَّق السياسة ثلاثا، ولعن الفعل ساس يسوس وما اشتُق منه، لقد أصابته نكسة قومه أيضا. فأنعم عليه الخديوي بأن عينه مفتيا للديار المصرية، وقد كان هذا المنصب ملازما لشيخ الأزهر من قبل، وكان في هذا القرار ضربة مزدوجة للأزهر والمحافظين فيه.

تململ المصريون من ممارسات الخديوي إسماعيل، فولوغه في الترف والبذخ وإغراق مصر بالديون كانت محفزات قوية على الثورة
تململ المصريون من ممارسات الخديوي إسماعيل، فولوغه في الترف والبذخ وإغراق مصر بالديون كانت محفزات قوية على الثورة

ثورة سعد زغلول.. ثورة كل المصريين

انتهت معارك الإصلاح وهدأت ثورة الشيخ محمد عبده إلى الأبد، لتبدأ حرب جديدة استوعبت العالم كله. كانت نذر الحرب العالمية على الأبواب، وقد احتاط الإنجليز في مصر لذلك، فحاولوا تكميم أفواه الأزهريين، واستصدروا قرار 1911 القاضي بعدم اشتغال الأزهر بالسياسة، وفصلوا الكثير من تلاميذه، ولكن ذلك لم يمنع ثلة من العلماء الصامدين المجاهدين أن يفرزوا قيادة جديدة للتحرك ضد الاحتلال، كان من أبرز وجوهها سعد زغلول الذي كان طالبا أزهرياً آنذاك.

كان دور الأزهر محوريا في ثورة 1919، وظهر ذلك جليا عندما جمع كل أطياف الشعب المصري على الوقوف في وجه الاحتلال، ولا أدل على ذلك من أن يصعد القُمُّص سيرجيوس وهو رجل دين مسيحي، على منبر الأزهر ليحرض المصريين جميعا مسلمهم ومسيحيهم على الاحتلال، فخرجت جموع الثائرين من الرواق العباسي في الجامع الأزهر، وأثبت هذا الصرح مرة أخرى أنه المحرك الفعلي للأحداث مهما حاولوا تهميشه وإبعاده عن صناعة الأحداث.

مرة أخرى تدنس أحذية الغزاة ساحات الأزهر، ولكن هذه المرة دون إسالة دماء، فقد دخلت قوات الإنجليز إلى أروقة الأزهر واعتقلت أعدادا كبيرة من المشايخ والتلاميذ الذين شاركوا في الثورة، مما استدعى الجنرال اللمبي لاحقا إلى إرسال رسالة اعتذار باسم الملك إلى مشيخة الأزهر عن أية تجاوزات قام بها الجنود في هذا الصرح المطهر.

سعد زغلول كان من أبرز وجوه الثورة ضد الاحتلال عام 1911 وكان طالبا أزهرياً آنذاك
سعد زغلول كان من أبرز وجوه الثورة ضد الاحتلال عام 1911 وكان طالبا أزهرياً آنذاك

الأزهر يتيما.. سقوط الخلافة

أحس الأزهر باليتم الحقيقي لأول مرة في حياته التي امتدت أكثر من ألف عام عندما ألغى مصطفى كمال أتاتورك دولة الخلافة الإسلامية، وأنشأ على أنقاضها دولة تركيا العلمانية. ساعتها بات الأزهر من دون مرجعية ولا سند شرعيين، وتآلبت عليه الدنيا بأسرها، حتى كانت الطعنات تأتيه بأيدي تلاميذه في كثير من الأحيان.

فقد ظهر في هذه الفترة كتابان لتلميذين من تلامذة الأزهر، أولهما بقلم علي عبد الرازق بعنوان “الإسلام ونظام الحكم”، وفيه تجنى الكاتب على الخلافة الإسلامية أيما تجنٍ ووصفها بالاستبداد والرجعية والتخلف، وثانيهما كان كتاب “الشعر الجاهلي” لطه حسين، والذي أثار شبهات حول نسبة الشعر الجاهلي إلى قائليه، مما يدعو إلى الأذهان المريضة نسبة القرآن والسنة إلى مصادرهما.

يقول المفكر محمد عمارة إنه توصل بعد تحقيق وبحث دقيقين إلى أن هذين الرجلين قد اشتركا فعلا في إصدار الكتاب الأول، ولكن تصدي العلماء ومؤازرة السلطة لهم حال دون أن يصل هذا الكتاب إلى ما كان يصبو صاحباه، بل وقد حوكم عبد الرازق بأمر من سعد زغلول وفصل من مجموعة أساتذة الأزهر، ومرت هذه العاصفة دون تأثير يذكر على الأزهر، ولكنها نالت من ضعاف النفوس وذوي الهوى الغربي.

بعد سقوط الخلافة ظهر كتاب "الشعر الجاهلي" لطه حسين، والذي أثار شبهات حول نسبة الشعر الجاهلي إلى قائليه
بعد سقوط الخلافة ظهر كتاب “الشعر الجاهلي” لطه حسين، والذي أثار شبهات حول نسبة الشعر الجاهلي إلى قائليه

محمد الأحمدي الظواهري.. أبو الجامعة الأزهرية

ثم جاء الشيخ محمد الأحمدي الظواهري أحد تلاميذ محمد عبده وحامل لواء التجديد من بعده، وأنشأ ما يعرف بالجامعة الأزهرية، وابتدأها بثلاث كليات هي كلية أصول الدين وكلية اللغة العربية وكلية الشريعة، فكانت الوريثة الشرعية للأزهر الجامع بشكله التراثي القديم، وهو ما دعا أمير الشعراء أحمد شوقي للتغني بالأزهر قائلا:

قم في فم الدنيا وحيِّ الأزهرا
وانثر على سمع الزمان الجوهرا

الإمام محمد مصطفى المراغي من تلاميذ محمد عبده
الإمام محمد مصطفى المراغي من تلاميذ محمد عبده

محمد مصطفى المراغي.. شيخ الموازنات الدقيقة

ثم جاء الإمام محمد مصطفى المراغي ليكمل مسيرة التجديد التي ابتدأها سلفه، وهو أيضا من تلاميذ محمد عبده، بل كان أشد صفحات شيخه نصوعا، فأصدر وثيقة تحديث الأزهر على غرار وثيقة 1911، ولكن بثوب جديد ومن دون قيود مما سبق، وأدخل إلى الأزهر مناهج جديدة وعلوما ولغات أخرى ليواكب مناهج الجامعة المصرية آنذاك.

ويرى كثير من المحللين أن الشيخ المراغي قد تفوق على شيخه في التوازن بين التجديد والمحافظة، وفي العلاقة مع السلطة الزمنية.

ثم توالى على الأزهر مشايخ وأئمة حاول أكثرهم أن يحافظ على هذه التركة الثقيلة وأن يورثها لمن بعده كاملة غير منقوصة، حتى وإن لم يستطع أن يزيد في قيمتها فلا أقل من أن يؤديها كما هي، ومن هؤلاء الشيخ محمد الحسن الخضر رحمه الله.

وإذ تنظر إلى مآذن الأزهر وقبابه، وإذ تعاين أروقته وسواريه، فستسمع أنينها، وستقول لك بصوت خافت عمره ألف عام: ها قد جاءت السنون الخدّاعات، ها هي الحلقات تنفضّ من حولي، وها هم الأئمة الأعلام يودعون السواري ويوارون الثرى، وها أنا سأتحول إلى مؤسسة تابعة للدولة مثل مؤسسة السكة الحديد أو مؤسسة الغزل. ثم إذا أصخت السمع أكثر فثمة حشرجة يتبعها صوت عويل حزين وبكاء هابط من أعلى هامات المآذن العتيقة.