“سوريا الدولة المتوحشة”.. الكتاب الذي ألقى بصاحبه وراء الشمس

خاص-الوثائقية

في 1985 عندما كانت الحرب الأهلية اللبنانية في أوجها، كان الباحث الفرنسي “ميشيل سورا” عائدا إلى بيروت للقاء زوجته وطفلتيه، ولدى خروجه من المطار تعرض لعملية اختطاف تبنتها لاحقا منظمة الجهاد الإسلامي، وطالبت بالإفراج عن أنيس النقاش ورفاقه المحتجزين على خلفية عملية مسلحة في باريس. وفي عام 2012 وبعد أشهر من انطلاق الثورة السورية قامت عائلة “سورا” بإعادة جمع أبحاثه ونشرها باللغة الفرنسية، وفي 2017 نشرت ترجمتها بالعربية بعنوان (سوريا، الدولة المتوحشة).

لقي الكاتب حتفه إعداما عام 1986، وبقي رفاته محتجزا لمدة عشرين عاما، ولم تشفع له جنسيته الفرنسية ولا عيونه الزرقاء ليدفن في باريس، لا لشيء إلا لأنه فضح نظام الأسد الدموي.

قناة الجزيرة الفضائية كان لها السبق في مناقشة الكتاب عبر حلقتين من برنامج “خارج النص”، باستضافة ابنة المؤلف ومجموعة من النقاد وكتّاب التاريخ.

 

“ميشيل سورا”.. كاتب ذو بصيرة ثاقبة

قال المؤرخ السوري فاروق مردم بك عن “ميشيل سورا”: هو نموذج للباحث الرصين الملتزم، اندمج بنفسه في المجتمع السوري وتزوج من فتاة سورية.

ووصفه برهان غليون أستاذ علم الاجتماع السياسي في جامعة السوربون بقوله: عاش في سوريا ولبنان، ودرس الحالة السورية من أرض الواقع، وحلل عن كثب المركّبات التي أوصلت النظام الحالي لحكم سوريا.

أما الدكتورة ليلى ابنة “ميشيل سورا” -وهي باحثة علوم سياسية- فقالت عن أبيها: كان يعتبر أن العمل الأكاديمي أن تعيش في البلد الذي تريد دراسته.

ومما يؤسف له أن دراساته عن النظام السوري لاقت برودا في الدوائر الغربية، فالغرب يهمه نظام علماني بعيد عن الدين ومتماسك ظاهريا، ولا تهمه المعاناة الخفية التي يعيشها الشعب. لذلك كان “سورا” يصرخ مرارا بالدراسة التحليلية الموضوعية للحالة السورية. نعم إنه كان أكاديميا، ولكنه كان صاحب موقف ثابت، وقد كان لديه خوف، لكن هذا الخوف لم يحل بينه وبين تسجيل مواقفه.

المنهجية الخلدونية تقضي بأن الاستيلاء على الحكم يرتكز على شحن عصبية قبلية وتوظيف دعوة دينية أو سياسية كغطاء لها

 

منهجية ابن خلدون.. تفكيك بنية النظام السوري

اعتمد “سورا” على المنهجية الخلدونية (نسبة إلى ابن خلدون) في تحليل نشأة الدول وانهيارها، حيث أوضح ابن خلدون أن الاستيلاء على الحكم بالقوة يرتكز على شحن عصبية قبلية أو دينية وتوظيف دعوة دينية أو سياسية كغطاء لها، وصولا إلى الملك الذي يدوم باستمرار شحن هذه العصبية وتقويتها.

وبتطبيق هذا الكلام على الساحة السورية مثلما يمثله الفكر الإسلامي الأصولي؛ تمثل ثلاثية ابن خلدون إذن العلويين، وهم أقلية دينية تمثل 10% من السكان ذات أصول قروية وجبلية من شمال البلاد وغربها، كجماعة استولت على الدولة مستغلين لحسابهم الخاص مبادئ الاشتراكية والقومية العربية. فهي نخبة جديدة حاكمة وصلت إلى السلطة “مع الثورة” عبر قناة الجيش والحزب، وهم خليط من العلويين والدروز والإسماعيليين، ولكن فيهم أيضا أفراد من السنة من منطقة حوران والفرات.

 

حزب البعث.. غطاء سياسي للأقلية العلوية

يرى بعض النقّاد أن “ميشيل سورا” قد استخدم مفاهيم علم الاجتماع والسياسة بنمطيها الشرقي والغربي، وزاوج بينهما في محاولة لفهم بنية النظام السوري. ويتتبعون بدايات حزب البعث السوري، إذ نشأ هزيلا ضعيفا في القرى والأرياف، بعيدا عن المدينة السورية بمركزيتها الحضارية والثقافية والسياسية، فكان من أولى أولوياته ضرب المدن وتحييدها وتقزيم دورها والحكم عن طريق البطش والطغيان.

قال عنه د. غليون: كان حزب البعث في الأساس غطاء سياسيا للجنة العسكرية، وهم مجموعة من العسكريين كانوا بالقاهرة، ونظموا أنفسهم من أجل استعادة الحكم بسوريا، وكانوا بحاجة إلى غطاء سياسي، فاختاروا حزب البعث.

وسرعان ما تبددت أحلام الذين شاركوا في الحزب من الطائفة السنية، عندما نسف المؤتمر القُطري السابع (ديسمبر1979 إلى يناير1980) كل أمل لهم بمشاركة سياسية فاعلة، وصار الحزب مجرد غطاء للطائفة العلوية الضيقة، وصارت مشاركات أشخاص مثل مصطفى طلاس أو محمود الأيوبي وجابر بجبوج وحكمت الشهابي تواجَه بالسخرية اللاذعة من رموز العلويين، وأصبحوا مجرد رهائن سنيّين لدى الطائفة العلوية.

وتعتبر الطائفة العلوية الوعاء الأساسي الذي كرسه حافظ الأسد ليربط مصيرها بمستقبله الشخصي، وتخلَّص من كل الرموز العلوية التي كان يمكن أن تهدد مستقبله، وكان صلاح جديد ومحمد عمران خير الأمثلة على تنحية كل من يقف في طريقه من أبناء طائفته. ورافق ذلك جهد ديني قام به أخوه جميل الأسد بتأسيس “جمعية علي المرتضى”، وكل هذا من أجل جعل طائفته جماعة سياسية لا دينية فقط، وذلك على غرار (الموارنة) في لبنان.

استشهد الأسد في خطابه بآية من القرآن أمام الناس ليبرر دك مدينة حماة وذبح أهلها

 

حافظ الأسد.. سياسة العنف الثوري للانتقام من الثورة

أوصل حافظ الأسد الحياة السياسية في سوريا إلى مستوى الصفر، فتصاعدت الاحتجاجات على هذا النظام الشمولي المستبد، وصولا إلى 1979، وقد اهتم “ميشيل سورا” بتحليل معطيات هذه المرحلة وأحداثها ونتائجها، معتبرا إياها ذروة الحراك الشعبي، إذ شاركت فيها الطبقة المتوسطة ممثلة بالنقابات المهنية من أطباء ومهندسين وغيرهم، وكان هدفهم فضح هذا النظام المستبد.

بلغت الاحتجاجات ذروتها في مارس 1980 عندما شل الإضراب جميع مدن البلاد ما عدا دمشق، فشكلت ميليشيات “القمصان السود” ونشرت في كامل مناطق العلويين بما فيها اللاذقية، وكانت “جمعية علي المرتضى” تتستر بثوب إنساني تحت هذه التعبئة، وحُلت النقابات والهيئات الاجتماعية في البلاد، ثم أعيد تأسيسها على مبدأ الولاء للحزب والطائفة.

قام النظام بعد ذلك بتحييد كل التجمعات المدنية والاجتماعية والثقافية في البلاد، واستفرد بالحركات الإسلامية على أساس أنهم المتطرفون الإرهابيون الذين يريدون زعزعة الأمن في البلاد، وعلى إثرها قرر النظام البدء بمرحلة العنف الثوري المسلح للتصدي للعنف الرجعي، وبدأ ببلدة جسر الشغور على طريق حلب اللاذقية، وكانت حصيلة البطش الدموي 200 قتيل أذهلت باقي المجتمع المدني في سوريا إلى حد الخدر.

شبيبة الثورة عناصر علوية مسلحة تعيث في الأرض فسادا دون رقيب أو حسيب كما هي شبيحة الأسد الآن

 

شبيبة الثورة.. نواة الشبّيحة البلطجية

جدلية العلاقة بين الحاكم والدولة في سوريا أو بين النظام والشعب تُظهر بشكل جلي تلك العلاقة المنبتّة بين هذين المكوّنين؛ فأحدهما -وهو النظام- قائم على سحق الشعب ومكوناته المدنية والسياسية، ولتجميل وجه النظام القبيح فقد كانت هناك بعض الأحزاب الصورية المنضوية تحت عباءة الجبهة التقدمية، ولكنها مثل عدمها، والنشطاء من كوادرها في السجون.

يعتبر “ميشيل سورا” أن المدرسة كانت الرحم الأساسية للمجتمع السوري، وقد فرض نظام الأسد تغييرات جذرية في النظام التعليمي والمنهاج التدريسي والكوادر التدريسية، بحيث جرى إقصاء كل من كان لهم توجهات مخالفة، فترى دكاترة أكاديميين يعملون في الجمارك أو أعمال التموين في مناطق نائية لمجرد توجهاتهم المخالفة للنظام. وكانت هناك مميزات تفضيلية للطلاب والطالبات من (شبيبة الثورة) الذين كانوا يقبلون في الجامعات بغض النظر عن تحصيلهم الثانوي.

كانت الشبيبة التي تربت في سرايا الدفاع على يدي رفعت الأسد تنشر الرعب في المدارس كما في الشوارع والأحياء بمظاهرها المسلحة وحمل السلاح اليدوي والأوتوماتيكي جهارا نهارا، ولا أدل على ذلك من تظاهرات خلع الحجاب التي قاموا بها، وينساق ذلك بحذافيره على الجهاز الإعلامي للدولة الذي كان يمارس العنف والبطش المعنوي ويتمحور حول تقديس الرئيس.

مجزرة حماة التي ذهب ضحيتها عشرات الآلوف من أهل السنة علي يد الأسد الأب ليأتي الابن ويكمل المسيرة الإجرامية

 

حماة النازفة.. جرح البشرية الذي تنكر له العالم

بالعودة إلى حراك سوريا في أوائل الثمانينيات فقد شن الجيش السوري بأوامر مباشرة من حافظ الأسد حملة عسكرية على مدينة حماة ذهب ضحيتها الآلاف من المدنيين، وقد رأى “سورا” أن هذه المجزرة تمثل نهر العنف الذي يشق البلاد، واستنكر بشدة التعاطي الإعلامي والدبلوماسي الغربي مع هذه المجرزة وانحيازهم السافر للنظام المتوحش.

استغل نظام الأسد حالة الخوف والهلع التي عاشها الغرب بعد نجاح الثورة الإيرانية، فقام بهذه المجزرة بحجة القضاء على الإرهاب الإسلامي، وبدا هذا واضحا في افتتاحيات صحف عالمية مثل “لوموند” الفرنسية “والتايمز” اللندنية، حينما وصفت التخلف والتحجر التقليدي الذي يعيشه مجتمع حماة بأنه ينذر بظهور خُميني جديد، لولا الجراحة التصحيحية التي قام بها الأسد.

قام الأسد بابتزاز دول الخليج العربي على مدى سنوات، مخوفا إياها من نظام إسلامي على غرار إيران، ومع أن إيران صارت فيما بعد حليفا استراتيجيا للأسد، فإنه استطاع أن يحرِف الوجهة باتجاه التيار الإسلامي السني ممثلا بالإخوان المسلمين والحركات التي تدور في فلكهم، واستخدم حزب الله اللبناني كورقة ضغط ضد الغرب.

في تحالفه ضد الإرهاب، استطاع حافظ الأسد أن يحافظ على دعم السعودية وأن يتحالف مع إيران

 

نبوءة الهلال الشيعي.. خطة اللعب على كل الحبال

طبَّق حافظ الأسد سياسة الجذمور (نبات أرضي يتمدد أفقيا) وفق منطق براغماتي يدمج فيه التعدديات في مكان واحد مليء بالتحالفات والتناقضات المتلاعَب بها والتجاوزات، وعلى الصعيد الخارجي قام بتوقيع معاهدة صداقة مع الاتحاد السوفياتي، وضمن دعم الكتلة الأخرى الأقوى المتمثلة في الدول الاشتراكية الواقعية، وعقد تحالفا استراتيجيا مع إيران، مستغلا التقارب التاريخي بين العلويين والشيعة، بينما حافظ على علاقة مميزة مع السعودية الممول الرئيسي لنظامه.

وعن براغماتية الأسد يقول زياد ماجد، أستاذ العلوم السياسية في الجامعة الأمريكية بباريس: بعد موت عبد الناصر كانت السعودية حريصة على بناء محور سعودي مصري سوري ضروري لضبط الوضع العربي، والسعودية حريصة على الاستقرار بمعزل عن الديمقراطية والحريات، وبهذا حصل الأسد على تفويض سعودي ودعم أمريكي لدخول لبنان عام 1976.

أما نشوان الأتاسي -الباحث في التاريخ السوري- فيقول عن منهج الأسد الابتزازي: على الرغم من متانة العلاقة بين الأسد والسوفيات، استطاع “سورا” أن يكشف عمق العلاقة بين الأسد والولايات المتحدة الأمريكية، بل يذهب إلى ما هو أبعد، وذلك أن الأسد جاء إلى الحكم بتوافق سوفياتي أمريكي، وكان الأسد يمارس لعبة الابتزاز السياسي واللعب على كل الحبال ليبقى في سدة الحكم.

رصد “سورا” كذلك أن الأسد بينما كان يتغنى بالوحدة العربية ويدندن بأغاني القومية ظاهريا، فقد كان يرسم في الخفاء بكل عناية وإتقان ما سمي لاحقا بالهلال الشيعي، ليشمل إيران وسوريا وحزب الدعوة في العراق (حيث تحققت هذه النبوءة بعد ربع قرن)، وحزب الله وحركة أمل في لبنان، وبهذا يضرب التيار الأصولي داخليا، ويضمن دعم وهدوء دول النفط التي هي الممول الرئيسي لديمومة نظامه.

ركب الأسد موجة الخوف من الثورة الإيرانية ليطيح بالمسلمين السنة بحجة مكافحة الإرهاب والتمدد الإيراني

 

احتكار القضية الفلسطينية.. طرابلس ساحة لتصفية الحسابات

تنبه “ميشيل سورا” إلى محاولة الأسد إحكام قبضته على القضية الفلسطينية والسيطرة عليها، ليحتكر من خلالها حق تمثيل القومية العربية، واعتبر “سورا” أن هذا هو المبرر الحقيقي لدخول القوات السورية إلى لبنان، وخصوصا بعد أن رفع ياسر عرفات في وجهه استقلالية القرار الفلسطيني، وبدا أن الأسد وإسرائيل يتبادلان نفس الدور في تصفية رموز النضال الفلسطيني في لبنان والعالم.

وقد كان “سورا” -إضافة إلى بصيرته السياسية الثاقبة وبعد نظره الإستراتيجي- مهتما بالمجتمع المحلي وبسكان المدينة في لبنان حيث يسكن، فقد اختار مدينة طرابلس اللبنانية لدراستها، وكانت طرابلس تجمع عينات من كل القوى التي تضاد نظام الأسد وتوجهاته. وهي -مثل حلب في سوريا- مدينة لا تنقصها المقومات الاجتماعية والسياسية والثقافية والاقتصادية التي كانت تتوافر عليها الحواضر العربية العريقة، حتى قبل أن تكون مدن مثل دمشق وبيروت عواصم للدول التي نشأت بعد رحيل الاستعمار.

إضافة إلى خصوصية طرابلس لكونها امتدادا لمدن الداخل السوري، فهي ثالوث خط حماة حمص طرابلس، كما يتشابه أهلها معهم في اللهجة وطريقة العيش، وهي إلى جانب ذلك تحوي الأكثرية السنية مع أقلية علوية، كما أن وجود قوات فتح فيها جعلها مدينة مسلحة يُهاب جانبها.

وقد درس “سورا” الحالة الطرابلسية حين شكلت لجان مقاومة شعبية للتصدي لدخول الجيش السوري، ذلك أن النظام الأسدي حاول تأليب العلويين المتركزين في جبل محسن، لضرب الحي المقابل باب التبانة الذي تتركز فيه القوات السنية وقوات فتح الفلسطينية، وكان لقادة محليين أمثال خليل عكاوي شأن بارز في هذه اللجان.

عاث الأسد فسادا في طرابلس بغرض سحقها وتركيعها مثلما حدث في حماة، وعلى الرغم من أنه استخدم العنف في كل المدن اللبنانية وإن بدرجات مختلفة، فقد كانت جرعات العنف من أجل أن تفضي إلى مساومات واتفاقات من موقع قوة، لكن الحال في طرابلس كان مختلفا، فقد كان العنف من أجل السحق والتحطيم.

قتل ميشيل سورا على يد حلفاء النظام السوري جماعة الجهاد اللبنانية الشيعية الموالية لإيران

 

دماء “سورا”.. أحقاد النظام السوري وحلفائه

في العام 1988 عاد “كوفمان” صديق “ميشيل سورا” إلى باريس وحيدا، أما “ميشيل” فقد أعلنت جماعة الجهاد الإسلامية اللبنانية الشيعية إعدامه، وامتنعت عن تسليم جثمانه حتى جاء العام 2006 حين قام حزب الله بتسليمه إلى الحكومة اللبنانية، وهو ما يشير هذا إلى كمّ الحقد الذي كان النظام السوري وحلفاؤه من الشيعة اللبنانيين وإيران يُكنّونه لميشيل نتيجة لكتاباته التي لا بد أنها أرقت مضاجعهم.