“المختار نحات مصر”.. أول نحات مصري منذ عصر الفراعنة

خاص-الوثائقية

يقول عن نفسه: أنا أول نحات مصري منذ الفراعنة، قد تعجبون لذلك، لكن تفسير الأمر غير عسير، فقد عشنا ألفي عام تحت وطأة الاحتلال، ولم يكن للمصريين حرية، والفن لا يعيش ولا يتقدم إلا في جو من الحرية.

إنه النحات محمود مختار المولود عام 1891 في قرية طنبارة في المحلة الكبرى، هو أحد أهم الرياديين في فن النحت في العصر الحديث، ومن أكثرهم تأثيرا محليا وعالميا، على الرغم من مسيرته القصيرة نسبيا.

قال عنه طه حسين: يجب على الشباب أن يعرفوا أنه إذا كان للفن مكانة، وإذا كانت السلطة تعترف بهذا فالفضل يعود لمختار.

في هذا الفيلم الذي تبثه الجزيرة الوثائقية بعنوان “المختار.. نحات مصر” نتعرف على النحات الذي وضع بفنّه وكتاباته اللبنات الأولى لتاريخ الفن المصري الحديث، ولعب عمله “نهضة مصر” على وجه الخصوص دورا فعالا في تاريخ مصر الحديث.

 

تماثيل الطين.. شغف الطفولة وتمرد المراهقة

كان جل اهتمام النحات محمود مختار في طفولته منحصرا على الذهاب إلى الترع واللعب في الطين وعمل تماثيل تحاكي الطبيعة والفلاحات، ثم يقوم بحرقها ويلعب بها هو وأصدقائه. يقول: حاولت أن أبحث في فلاحات مصر عن نموذج يربط الحلقات التي انقطع وصلها.

بعد انتقاله إلى القاهرة، عاش في حي شعبي وتأثر بالحرفيين والأماكن الشعبية، وبدأت تظهر ملامح شخصيته فلقبه أصحابه بالعمدة.

كان يبحث عن طريقة للتعلم الأكاديمي لصقل موهبته، وما إن أعلن عن مدرسة الفنون الجميلة التي أسسها الأمير يوسف كمال عام 1905، ذهب إليها والتحق بها رغم معارضة والدته وأخيه الذي طلب منه العودة للقرية ليدير أعمال أخيه فيها، لكنه رفض وتبع حلمه وطموحه.

أعجب المدرسون الأجانب في مدرسة الفنون بموهبته، وظهرت شخصيته الفنية منذ السنة الأولى، فأتيحت له فرصة الاستقلال بمحترف (معمل) خاص به، وهذا لم يكن متاحا إلا للمدرسين الأجانب، وقد تتلمذ على يد الفنان الفرنسي “لابلنتي” وكذلك الفنان الإيطالي “باولو فرشيلا” واختلط بعائلته وأحب فتاة منها، لكنه كان حبا من طرف واحد، وبقي أسيرا في دواخله إلى أن ترجمه في عمل أسماه “الحب”، ومن تماثيله المبكرة في تلك الفترة “محمد حسن” وتمثال “الزنجية”.

الأمير يوسف كمال يؤمن بموهبة محمود مختار ويرسله في منحة دراسية إلى فرنسا

 

منحة الأمير.. رحلة إلى عاصمة الأنوار

آمن الأمير يوسف كمال بموهبة محمود مختار، فقرر أن يبعثه في منحة إلى فرنسا، وفعلا سافر مختار إلى باريس لكنه لم يغرق في ثقافتها وأنوارها، بل استطاع في خضم الحركة الفنية والثقافية الباريسية أن يثبت وجوده بين أقرانه بأسلوب يجمع بين عبق الفن المصري الفرعوني القديم والحداثة هناك.

يقول النحات “ناثان دوس”: يظهر أسلوب مختار الخاص في تِمثاليه “الحزين” و”كاتمة الأسرار”، فحالة القرفصاء في تمثاله هي حالة تكعيبة مستوحاة من الفن المصري القديم، كما أنه ابن النحت الأوروبي في تمثال إيزيس الذي استخدم فيه الرخام الأبيض فمزج فيه بين الفن الروماني الإغريقي والفن البطلمي.

بدأ مختار في هذه المرحلة يستفيد من جميع الاتجاهات الفنية الموجودة بالإضافة لاطلاعه على فنون المتاحف، واختلط بالاتجاهات الفنية المعاصرة، كما شارك في المعرض الفرنسي الذي يقام كل عام بتمثال عايدة الذي حمل ملمحين، أولهما المصري القديم، والثاني الإغريقي البطلمي، وقد كان عمله لافتا وذا قيمة كبيرة وكتب عنه النقاد الفرنسيين وأثنوا عليه، وكان أهم سماته شموخ الكتلة ورسوخها مع وجود الملمح الإنساني فيه.

حقق مختار إنجازا بعرض أعماله في أكبر معارض باريس

 

متحف الشمع.. أولى الخطوات في درب العالمية

قضى محمود مختار ثلاث سنوات في باريس تشبع فيها من الناحية الأكاديمية، واستطاع أن يحقق إنجازا بعرض أعماله في أكبر معارض باريس، ثم قرر العودة إلى مصر، وعندها طلب منه الأمير يوسف أن يتولى رئاسة مدرسة الفنون، وكان ذلك عرضا سخيا لشاب في مقتبل العمر لكن حلمه كان أبعد من ذلك بكثير، فقد كان يرنو إلى العالمية، لذا عاد إلى باريس مرة أخرى.

ورغم الإنجازات والنجاحات العظيمة التي قام بها فإن حياته كانت مليئة بالمحن، فبعد عودته إلى باريس وقيام الحرب العالمية الأولى عام 1914 تعرض لضائقة مادية شديدة الوطأة لدرجة أنه اضطر للعمل في مصنع للذخيرة لقاء أجر لا يسد الرمق، وبعد ذلك قام أستاذه “لابلنتي” بدعمه، فأصبح يدير متحف الشمع “غريفان” الذي أداره عدد من الفنانين الفرنسيين المهمين.

ويرى المؤرخ ياسر فنجي أن مختار لم ينس التأصيل لثقافته المصرية، فوضع تمثالا لسيدة الغناء أم كلثوم التي كانت لا تزال في مقتبل العمر، وضمه إلى تماثيل مشاهير العالم وعظمائه.

تمثال نهضة مصر

 

تمثال نهضة مصر.. إلهام الثورة

تأثر محمود مختار بالثورة المصرية عام 1919 التي أعادت اكتشاف مصر لرموزها بالفكر والأدب أمثال محمد عبدو والشيخ رشيد رضا وطه حسين ومحمد حسين هيكل.

تقول أستاذة النحت منال هلال: أراد مختار المشاركة في الأعمال الوطنية، فقدم وهو في فرنسا أعمالا تحاكي الواقع الذي يحدث في مصر كتمثال خالد بن الوليد، ولنصرة المرأة وتحررها قدم تمثال خولة بن الأزور هذه الأعمال عكست الحالة الفكرية والثقافية والثورية في مصر، كما أنها تظهر مشاعره تجاه هذه الحركة التنويرية.

أعد مختار سكتش (رسم أولي) تمثال نهضة مصر، وعرضه في معرض باريس، وعندما رأى الوفد المصري المشارك في المعرض النموذج المصغر للتمثال، تساءلوا: لماذا يكون فنان مصري بهذه القيمة والذائقة الفنية موجودا في فرنسا؟

استنفر النموذج المصغر أقلام كبار نقاد فرنسا وأعلنوا ميلاد فنان جديد، وكتبوا يشيدون بعظمة فنه، ثم بدأ ذلك ينتقل إلى مصر فتحدثت الصحف المصرية عن تمثال نهضة مصر، وكتب مجدي الدين حفني ناصف يشيد بمختار وعبقريته وفنه، وكذلك كتب حافظ عفيفي باشا، وطلب من الأمة مع أمين عارف احتضان المشروع.

قدم محمود مختار في أعماله مدرسة جديدة، جمعت بين مصر الفرعونية ومصر المعاصرة، كان تمثال نهضة مصر عملا ثوريا قدم صورة فلاحة تضع يدها على تمثال أبو الهول، وكان طوله قزميا من الناحية التشكيلية مقارنة بحجم الفلاحة، وقد تقمصت مصر في جسد الفلاحة التي تقف ممشوقة في عظمة، أما القوى الوطنية فتمثلت في أبي الهول.

استخدم مختار في التمثال حجر الغرانيت بحجم ضخم، مستلهما بذلك أسلوب الفراعنة، وشكل التمثال معالجة ثورية قوية لإعادة النحت إلى مصر بعد قطيعة استمرت طويلا. تقول الناقدة أمل نصر: احتاج التمثال ميزانية كبيرة، ونفذت وزارة الأشغال المشروع الذي تعرض لمعوقات كثيرة، حتى أنهم أوقفوا المكافأة الضئيلة التي كان يتلقاها المختار عند مغادرته إلى باريس.

معرض مختار في فرنسا الذي تحدثت عنه الصحف الفرنسية

 

“لقاء الحبيب”.. ثورة التماثيل ذات العاطفة الحية

في باريس شارك محمود مختار بعملين هما “أمينة الأسرار” و”لقية في وادي الملوك”، وظهر الأخير بالحس الإغريقي الذي يحافظ على الجمال الجسدي والحسي للمرأة، أما تمثال “أمينة الأسرار” فقد توجه فيه مختار إلى مرحلة أكثر مثالية وتجردا، وكانت وضعية الجلوس شبيهة بفكرة النحت البنائي القائم على الكتلة المربعة، وقد استخدمها بعد ذلك في أعمال كثيرة.

ويعد مختار أول الذين سجلوا الحالة الإنسانية والنفسية وأظهر العواطف، كما هو الحال في تمثاله “لقاء الحبيب” وتمثاله “عند لقاء رجل” و”المناجاة والحزن” و”الشيء الآخر”، وعلى الرغم من صلابة وصلادة الخامات المستخدمة في هذه الأعمال، فقد استطاع التعبير عن الحركة والديناميكية بشكل غير مسبوق، وظهر ذلك جليا في تمثال “رياح الخماسين” الذي عبر فيه عن الحركة والديناميكية ضد التيار.

رسالة وزارة الأشغال إلى مختار بأنه متغيب عن وظيفته

 

وزارة الأشغال.. تكريم في فرنسا ومذكرة غياب في مصر

وفي الوقت الذي كان فيه مختار يكرّم في فرنسا، كتبت وزارة الأشغال المصرية في حقه مذكرة لتغيبه عن العمل، وعندما عاد واكتشف الأمر غضب وثار وبعث برسالة للوزارة بأنه فنان وليس موظفا لديهم، لذا بدأوا بعد ذلك يتعاملون معه بطريقة جيدة ومختلفة، وقد أزيح الستار عن تمثال نهضة مصر في العشرين من مايو/أيار عام 1928.

يرى الناقد سمير غريب أن تمثال نهضة مصر لم يكن المشاركة الوحيدة لمختار في تأسيس الحداثة، فقد أنشأ الجمعيات الثقافية والفكرية، مثل جماعة الخيال التي شارك في تأسيسها، وجماعة محبي الفنون الجميلة التي أسسها مع هدى شعراوي.

وقد دعا مختار أيضا لإدخال علم الفلسفة والجمال وتدريس الفنون حتى لغير المتخصصين، ودعا لإنشاء المجلس الأعلى للفنون.

أحد تمثالين لسعد زغلول كعمل ميداني صرحي لمصر

 

سعد زغلول.. تمثالان مجيدان وتمثال ساخر

أقام محمود مختار معرضا مكونا من أربعين عملا فنيا في باريس، ومن ضمن تلك الأعمال “عروس النيل” الذي اقتنته الحكومة الفرنسية ووضعته في متحف “جودى بوم” أحد أهم متاحف باريس، وقد كتب عن المعرض كبار النقاد الفرنسيين وأشادوا به.

أراد مختار أن يعود بعمل ميداني صرحي لمصر، واتفقت معه الحكومة على إقامة تمثالين لسعد زغلول، ولم يكن العملان متطابقين بل كان لكل منهما هويته الخاصة، وقد وضع أحدهما في القاهرة والآخر في الإسكندرية.

يرى “ناثان دوس” أن تمثال سعد زغلول في القاهرة كان رائعا قدمه بصورة الخطيب، وكانت المعالجات على القاعدة تقدم التراث المصري، وقد حملت النقوش البارزة صورا لأبناء الشعب من العمال والفلاحين بالإضافة إلى المراكب، وكان التشكيل الجداري بمنتهى القوة، وقد صنعت القاعدة من الغرانيت الأحمر بأربعة أعمدة من طراز اللوتس المغلق الذي عرف في المعابد الفرعونية، وكان الزعيم سعد زغلول يرتكز على تيجان الأعمدة الفرعونية.

ويرى الفنان التشكيلي طارق الكومي أن تمثال الإسكندرية نفذ بطريقة ذكية، فقد كان سعد زغلول يرتدي بالطو، وأظهر مختار بساطة الحركة في القدمين مع قبضة اليد التي تمثل القوة، بينما كانت معالجة البالطو بمنتهى القوة، وهذا هو مختار السهل الممتنع.

ومع ذلك فقد قوبل عمل التمثالين بنقد قاس، واتهمه منتقدوه -ومنهم زكي مبارك- بأنه يبالغ كثيرا، وأن قاعدة التمثال فيها غلو، مبررين ذلك بأنه يحابي سعد زغلول، لكنه في الحقيقة قدم تمثالا آخر ساخرا لسعد زغلول على شكل غاندي بصورة كاريكاتورية في بعض القرارات التي أقدم عليها زغلول، إذ لم تكن تروق لمختار فعبر بالرفض من خلاله.

من أعمال مختار الفنية والقومية وتاريخ الحضارات تمثال “سبأ”

 

تمثال الإسكندر الأكبر.. تجري الرياح بما لا تشتهي السفن

تقول أمل نصر: ظل محمود مختار مشغولا طوال الوقت بأعماله الفنية والقومية وتاريخ الحضارات. وهنا تذكر تمثال “سبأ”.

كان حلم محمود مختار الكبير إنشاء تمثال عملاق يمتد على مسافة شاسعة من الأرض يشبه المشاريع الرومانية القديمة، ويحمل عنوان الإسكندر الأكبر، ويوضع في مدخل الإسكندرية، ويكون ضمن التمثال مشروع معماري كبير ينطوي على مراكز ثقافية وملاعب ومنتديات وحدائق.

وقد تبلورت الفكرة لديه لكن القدر لم يمهله، ففي عام 1931 توقفت أعماله بسبب المرض، وكان يأمل أن يعود ليكمل مشواره ومشاريعه لكنه فارق الحياة.

كان مختار من أعظم النحاتين في القرن العشرين، وهو صعب التجاوز، والأصعب من ذلك هو الوصول إليه.