“آخر النُّساخ”.. نهاية مهنة صاحبت الديانة الإسرائيلية منذ آلاف السنين

خاص-الوثائقية

“الحقيقة المرة تتمثل في أنني آخر من ينسخ التوراة حاليا في الطائفة السامرية”.. هكذا يلخص الناسخ راغب فرج السامري ما آلت إليه مهنته أو مهمته في عصر سيطرة الحاسوب، إذ إنها توشك على الانقراض بعد أن رافقت التوراة تاريخا طويلا، وصنعت طقوسا مقدسة وتقاليد خاصة بالطائفة السامرية.

يسلط فيلم “آخر النُسّاخ” -الذي أنتجته قناة الجزيرة الوثائقية- الضوء على الكتابة اليدوية للتوراة باعتبارها فنا مقدسا لا بد منه، إذ حتمّت التوراة أن يكون نسخها يدويا بقلم وخط جميل، ولذلك فإن هناك من يُحرّم غير ذلك.

 

توراة السامريين.. أصغر طائفة دينية في العالم

هناك نوعان من الكتابة بالخط العبري القديم، أحدهما الذي تُكتب به التوراة ويعد خطا مقدسا، ويلقب بالخط المربع أو الخط المُجلّس إذ يُشبّه كل حرف بأنه جالس على كرسي أو قاعدة، والآخر هو الخط الطَنْشي وهو سريع الكتابة، وتُكتب به كتب الصلوات والتراتيل وأي كتابات بعيدة عن قدسية التوراة التي تُكتب فقط بالخط المربع.

وتختلف توراة السامريين عن نظيرتها عند اليهود -الذين اخترعوا لأنفسهم “حرفا توراتيا جديدا” كما يقول آخر النسّاخ- في 14 ألف موضع، فالطائفة السامرية مذهب من مذاهب الديانة الإسرائيلية الأصلية، تتشابه في ذلك مع المذهب اليهودي، لكنهما يختلفان في أن السامري يحافظ على القديم، بينما يدعو اليهودي إلى التجديد، ولذلك فالسامريون إسرائيليون وليسوا يهودا.

ويؤمن السامريون -وهم أصحاب أصغر طائفة دينية في العالم- بقدسية جبل جرزيم أو جبل الطور بمدينة نابلس الفلسطينية، فهو قبلتهم وليس القدس كما يعتقد اليهود. ويرى أفرادها هذه الطائفة أنهم السلالة الحقيقية لشعب بني إسرائيل، فقد جاؤوا للأرض المقدسة فلسطين عقب خروجهم من مصر والتيه الذي استمر أربعين عاما في صحراء سيناء.

راغب السامري.. آخر نساخ التوراة السامرية يعيش في مدينة نابلس بفلسطين

 

راغب فرج السامري.. نصف قرن من خدمة التوراة

يرى راغب فرج السامري نفسه عظيما وغنيا جدا، وتتعاظم مسرته في أن كل بيت سامري يضم نسخة من التوراة من كتابته، مما يجعله مرفوع الرأس، لكن مسرته هذه لا تكتمل في ظل غياب من يخلفه في كتابة حرف التوراة.

يتحدث راغب عن حياته الشخصية، فهو أب لثلاثة ذكور وبنتين، كما أنه يقوم على خدمة زوجته المقعدة، فضلا عن أعمال البيت، ومع ذلك فإنه يخصص وقتا يوميا للقراءة والكتابة والمراجعة والحفظ، ويستذكر كيف كان يغار في بداية عمره من الرجال الكبار في طائفته وهم ينسخون التوراة، خصوصا وأن مكتبته كان ينقصها كثير من كتب السامرية، وهو ما دفعه لاستعارة هذه الكتب ونسخها.

واتجه منذ أن كان في الثلاثين من عمره إلى الدين عبادة وقراءة وكتابة، ورغم تقدم سنين عمره التي توشك أن تبلغ الثمانين، فإن السامري حريص على تعليم أطفال طائفته أمور دينهم، فضلا عن مهمته الأساسية كآخر النُسّاخ.

يتم تعليم الأطفال كتابة وقراءة التوراة بالحرف السامري

 

رسم الحروف المفعمة بالإحساس.. فن النسخ

يستعرض راغب السامري رحلته مع كتابة التوراة، فيقول إن أول نسخة كتبها لم تكن جيدة أو مقروءة بشكل جيد، لكن النسخة الثانية من كتابته للتوراة أصبحت جيدة، حتى وصل إلى مرحلته الحالية، حيث يكتب حروفا تمتلئ بالإحساس عند قراءتها.

وفي بداية شبابه كان يكتب التوراة في أربعة أو خمسة أشهر، لكنه الآن -وقد بلغ الثمانين من عمره- يحتاج إلى سنة كاملة لينسخ التوراة، ورغم ذلك فإنه يحمد الله أن لم يصبه برجفة في يده تعيق كتابته.

جبل جرزيم المقدس في مدينة نابلس يقصده السامريون في طقوسهم الدينية

 

حرف الترجوم.. معاول الحضارة تهدم التراث

ما يزال الناسخ راغب فرج السامري منذ 25 عاما يُعلّم كتابة التوراة، ومع ظهور الحاسبات الآلية تراجع الاهتمام بالكتابة اليدوية، فاتجه كثير من الشباب إلى الطباعة بدلا من النسخ اليدوي للكتب الصلواتية بحرف الترجوم، وليس بالحرف العبري التوراتي.

ويطوف آخر النساخ على عدد من السامريين باحثا عن شاب يستكمل مسيرته في الكتابة والقراءة، لكن مهمته تبدو صعبة، فالكتابة اليدوية تحتاج إلى صبر وتمرس طويل وقوة إرادة، فخطأ واحد كفيل بجعل صاحبه يعيد كتابة صفحة كاملة.

ينقل رجل الأعمال يعقوب عبد الله الكاهن -وهو سامري مهتم بأمور طائفته- عن كثير من الشباب تساؤلهم عن فائدة وأهمية النسخ اليدوي الذي يحتاج مجهودا كبيرا ويستغرق وقتا طويلا في بينما يمكن إنجاز كتابة التوراة سريعا باستخدام الكمبيوتر، لكنه يرى أن النسخ اليدوي يخلق عاطفة كبيرة تجاه ما يُكتب، ويقول إنه يحضّر نفسه للنسخ بعد أن يتقاعد ليكمل مسيرة أجداده.

راغب فرج السامري آخر كاتب يدوي للتوراة ويلقب بـ”آخر النُسّاخ”

 

آخر النساخ.. تراث متناقص على حافة الانهيار

لا يوجد الآن في طائفة السامريين -التي يبلغ تعدادها نحو 800 شخص- كاتب يدوي للتوراة سوى راغب فرج السامري، لينال بحق لقب آخر النُسّاخ، في ظل مخاوف من أن يأتي يوم لا يوجد فيه أي ناسخ للتوراة.

وفي هذا يقول الكاهن عزيز يعقوب شفيق إن أي شيء ينقص من تراث وتاريخ السامريين سيؤثر على مستقبل الطائفة في ظل عددها القليل جدا، الأمر الذي يدعوهم للمحافظة على تراثهم مع تطورات الحياة والعلم دون زيادة أو نقصان.

بسبب الفقر الذي عاشت فيه الطائفة السامرية اضطر البعض لبيع بعض المخطوطات القمية من أجل الحصول على الطعام

 

لقمة العيش.. ثروة من المنسوخات بأثمان بخسة

يعزو الكاهن عزيز يعقوب شفيق ابتعاد السامريين عن الكتابة اليدوية بانشغالهم بمشاغل الحياة والسعي على لقمة العيش على خلاف ما كانوا عليه في الماضي حيث كانت متطلبات الحياة قليلة، وهو أمر دفع البعض آنذاك لامتهان النسخ طلبا للرزق، معتبرا أن العائد القليل من عملية النسخ لم يزد هؤلاء غنى، بل ضيّع عنهم ثروة من المنسوخات بيعت بأثمان بخسة.

لكن المعاناة المعيشية التي وجدها هؤلاء وأوضاعهم الاقتصادية الصعبة كانت تدفع البعض منهم إلى نزع صفحة من توراة قديمة مكتوبة منذ 800 سنة على جلد حيوان ليبيعها في القدس مقابل قوت يومه.

ويرى البعض أن نسبة ما يملكه السامريون اليوم من كتبهم تكاد لا تُذكر مقارنة بما تضمه المكتبات العالمية، بعد أن باع أسلافهم نسخا تعود إلى مئات السنين بسبب فقرهم وحاجتهم إلى المال.

مكتبة جامعة ميتشغان الأمريكية تضم نحو عشرين مخطوطة توراتية تعود للطائفة السامرية

 

جامعة ميتشيغان.. جلود مزينة بالتوراة منذ قرون

في عام 1951 قامت مؤسسة “إداواد كيرك وورن” بمنح جامعة ولاية ميتشيغان الأمريكية مخطوطات من بينها نسختان من التوراة كُتبتا بشكل يدوي على جلد حيواني مُعالج، وتعود النسختان للنصف الثاني من القرن الـ15.

ويقول “تاد بويهمر” -وهو أمين الكتب النادرة بجامعة ميتشيغان- إن مكتبة الجامعة تضم نحو عشرين مخطوطة توراتية عبارة عن مجموعة مسماة “مجوعة تشامبرلن- وون” للأعمال السامرية، وهي من أكثر المخطوطات تميزا في المكتبة، ولا يتوفر شبيه لها على مستوى الولايات المتحدة، وربما العالم بأسره.

وتضم كل مخطوطة مئات الصفحات التي صنعت من جلود الحيوانات، في عملية استُغلت فيها أعداد ضخمة من الحيوانات، فجلد حيوان بأكمله لا يكاد يكفي لكتابة صفحتين إلى أربع، فضلا عن الساعات الطوال التي بذلت في عملية الكتابة.

ولا تشكل طائفة السامرية بأعدادها المحدودة أكثر من نقطة في بحر العالم، لكن محافظة أبنائها على تراثهم وعاداتهم وتقاليدهم جلب لهم اهتماما كبيرا، في وقت لا يخشى فيه رجال الدين قلة أعدادهم قدر خشيتهم من عزوف شبابهم عن النسخ واستغنائهم بما كتب آليا عن تعلم النسخ وممارسته.