“عاصمة الكهرمان”.. بريق غدانسك القادم من أعماق التاريخ

خاص-الوثائقية

هل زرت قط مدينة تجمع المتناقضات؛ تعود بك في قدمها آلاف السنيين، لكنها مع ذلك تجمع عناصر الحداثة.. هذا ما تجده في مدينة غدانسك البولندية، فمن ناحية تعد عاصمة الكهرمان الذي يعود إلى ملايين السنين، لكنها في الوقت نفسه مدينة عصرية لا تختلف كثيرا عن غيرها من المدن الأوروبية.

يسلط هذا الفيلم -الذي بثته الجزيرة الوثائقية- الضوء على مدينة غدانسك التي أُعيد ترميمها بعناية لتصبح متحفا، بعد أن ظلت مدينة هانيسية لقرون وميناء بحريا ومركزا تجاريا عند مصب نهر الفيستولا، ومع ذلك يبدو الوقت ثابتا فيها مثل كنوز محفوظة بالكهرمان.

 

ساحل البلطيق.. ملامح الحرب والأدب والفن والتاريخ

على ساحل بحر البلطيق تقع غدانسك، وقد اعتبرت منذ القدم مركزا تجاريا قويا في غرب بروسيا، فلم يكن هناك أي مكان آخر يمكن فيه تبادل هذا الكم من السلع بين حوض المتوسط وشرق أوروبا، وتشهد صور إله البحر نبتون والتروس الهانيسية على هذا الماضي.

كما يُشكل نهر موتلاوا جزيرتين في المدينة القديمة، حيث تقع أكبر أنظمة الرفع في أوروبا، كما تُعد بوابة كراين آخر معلم باقٍ في المدينة وأكثرها اكتمالا.

وفي غدانسك معالم من الماضي البعيد، وأخرى حديثة العهد نسبيا، فقد كانت المدينة تضم قلعة محصنة عندما دخلها الصليبيون عام 1308، كما بنى الفرسان قناة بالمدينة وشيدوا طاحونة عظيمة تضم 18 عجلة مائية، ولم تزل الطاحونة تعمل حتى عام 1945، وكانت تنتج نحو 200 طن من الطحين يوميا.

ونشأ الراوي والرسام الفائز بجائزة نوبل “غونتر غراس” مؤلف قصة “طبل الصفيح” في غدانسك، حيث جرى ترميم منزله حديثا، وما زال تمثال بطل قصته “أوسكار ماتزيراث” موجودا بها.

وفي المدينة أيضا مكتب البريد البولندي، وهو موقع المذبحة الدموية التي نفذتها قوة الدفاع الألمانية، إذ دمرت الحرب العالمية الثانية 90% من أبنية غدانسك.

ومؤخرا عاد السوق الطويل ببوابته الخضراء ليكون معلما بالغ الروعة، وتبدو دار البلدية في غدانسك والحواف المثلثة الشكل للمنازل الأرستقراطية جديدة للغاية، وهي كذلك في الواقع، ففي فترة ما بعد الحرب أُعيد بناء مركز المدينة، وفي عام 1970 انتهى إصلاح الدمار الذي تسببت به الحرب، وأُعيد نصب الأبراج المتعددة لكنيسة القديسة ماري.

الكهرمان هو صمغ شجرة شفاف تقع فيه أنواع الحشرات فتتحنط فيه بأشكال وألوان مختلفة

 

مصب النهر في بحر البلطيق.. إرث طريق الكهرمان التاريخي

بالقرب من غدانسك يقع شاطئ يشكل جزءا من طريق الكهرمان القديم، وهو طريق تجاري ربط بحر البلطيق بالبحر المتوسط منذ ألفي سنة، وحتى اليوم لا يزال بالإمكان العثور على المجوهرات المخبئة فيه، ومن بين الباحثين عن الكهرمان “كارول” المتقاعد الذي يرى أن عامل الخبرة هو الأهم عند البحث عن الكهرمان، إضافة إلى التمتع بما يسميه “الحدس الصحيح”، لتعرف أين ومتى ينبغي تبحث عنه؟

في شهر سبتمبر/أيلول يغادر السباحون، ولا يبقى غير الباحثين عن الكهرمان، ومن بينهم “كارول” الذي عثر على قطع من الكهرمان، كانت إحداهن كبيرة ومميزة؛ إذ أنها كانت تحمل شيئا بداخلها، وهو ما يضفي لها قيمة أكبر.

الكهرمان هو صمغ شجرة، وهو خفيف جدا يطفو عادة تحت سطح الماء بقليل، وبالتالي فإن “كارول” يراقب سلوك الطيور مرارا وتكرارا، فهي تظن أن قطعة الكهرمان التي تلمع في الماء تحت أشعة الشمس سمكة.

يقوم الفنيون بصقل حجارة الكهرمان لإظهاره شفافيتها وما تحويه بداخلها

 

شارع الجواهر.. تلميع صورة الكهرمان المغبرة

عند قاعدة كنيسة القديسة ماري -وهي كاتدرائية بروتستانتية كبيرة من القرن الـ16- يمتد شارع فرونجاسي نحو الميناء النهري، وتمتد مساحات صغيرة أمام جميع المداخل تقريبا، وهي عبارة عن الشرفات التقليدية في غدانسك مع أدراج مزينة.

يسيطر تجار الكهرمان على شارع فرونجاسي بالكامل، فمعظم واجهات العرض فيه تضم جواهر الكهرمان التقليدية، ويرغب بعض صانعي الجواهر بتلميع الصورة المغبرة للكهرمان، ومن بينهم “مارسين ويسلوسكي”، وهو يُدير مع زوجته “مارتا” شركة دولية لصناعة الجواهر، ويقول إن 90% من منتجاتهم يدوية الصنع.

يُحضر “مارسين” أحجار الكهرمان الجديدة من جامعيها على الشاطئ، وبالنظرة الأولى يستشعر “مارسين” أهمية أحد الأحجار، لكنه يستعين بأحد معاونيه لتلميعها، مشددا عليه بالاحتفاظ على ما تحتويه في داخلها، وفي المقابل، يزيل “بيوتر” بحذر الطبقة القاسية المحيطة بالحجر، وأخيرا يكشف عما في داخل الكهرمان، إنها ضربة حظ، فالحشرات العالقة في الداخل نادرة.

قطعة كهرمان صمغية جافة وبداخلها عدد كبير من النمل معلقة في سلسلة

 

كهرمان البلطيق.. مرقد النمل منذ 40 مليون عام

بعد عثور “مارسين” على حجر كهرمان يحتوي حشرات بداخله، فقد لجأ إلى الخبراء كما هو الحال عند العثور على اكتشافات مماثلة، وقد طلب استشارة معهد علم الأحياء في الجامعة، وهو يضم نموذجا للغابة التي تشكل فيها الكهرمان، لكن لا يزال إلى يومنا هذا من غير المعروف ما هي فصيلة الأشجار التي تُطلق هذه الكمية الهائلة من الصمغ؟

يقول الدكتور “جاك زويدو” -وهو عالم أحياء تطورية متخصص في الحشرات العالقة في الكهرمان-: يأتي كهرمان البلطيق من طبقة صخرية تشكلت قبل 40 مليون عام من الصمغ في المنطقة التي تقع فيها الدول الإسكندنافية اليوم.

ويظهر مجهر الدكتور “جاك” المتميز التفاصيل بتكبير يصل إلى 40 ضعفا، وقد كشف عن سر عمره ملايين السنين في إحدى قطع الكهرمان الاستثنائية التي وُجد داخلها نحو 20 نملة، وأظهر بحثه أن هذا النمل عاش قبل 40 مليون سنة.

كنيسة القديسة ماري واحدة من أقدم الكنائس القرميدية في شمال جبال الألب

 

“إنك تصنعين التاريخ”.. عودة سقف الكنيسة إلى لألائه

ليست أحجار الكهرمان فقط هي التي تتلألأ في غدانسك، فهناك كنيسة القديسة ماري التي تقع فوق المدينة القديمة، وهي واحدة من أقدم الكنائس القرميدية في شمال جبال الألب، وتتسع لحوالي 25 ألف شخص.

وتحتاج الكنيسة إلى الترميم، وهو مشروع تتولى مهندسة البناء “أليشيا بابيك” مسؤوليته، وتساعد أضخم كنيسة -سابقا- في العالم للطائفة البروتستانتية اللوثرية على بناء سطح جديد، وهذه مهمة ضخمة، فقد ظلت “أليشيا” وآخرون يعملون لأكثر من 18 شهرا على سطح الكنيسة في ظروف مناخية ليست ملائمة دائما، فالرياح أو الأمطار قد تفسد ما يقوم به الفريق الذي يضم 30 شخصا.

اكتمل إصلاح السطح الخارجي لكنيسة القديسة “ماري”، بعد أن كانت في حالة يُرثى لها بعد الحرب، لكن “أليشيا” اعتبرتها مشروعها الخاص، وتقول إنها التقطت أكثر من ألفي صورة خلال شهور عملها، وكانت تحلم بعملها في الكنيسة بصورة شبه يومية.

وتروي “أليشيا” أنها أجهشت بالبكاء عندما قالت لها شقيقتها عن عملها في ترميم الكنيسة: إنك تصنعين التاريخ.

ساعة فلكية في كنيسة القديسة ماري تعود إلى عام 1470 وتُظهر الأبراج الفلكية ومراحل القمر

 

ساعة غدانسك.. معجزة المدينة العابرة للقرون

في الممر الأيسر للكنيسة، توجد ساعة فلكية تعود إلى عام 1470 تظهر الأبراج الفلكية ومراحل القمر، وكانت بمثابة معجزة آنذاك، واليوم تستقطب السياح بالأفواج، لكن عطلا أصاب الساعة، فاستُدعي صانع الساعات “غرزيغوريز سزيشلينسكي”، فبدأ يحاول إصلاح ساعة غدانسك الاستثنائية؛ فقد كانت الأضخم في العالم عند صناعتها، كما أنه أمضى نصف حياته معها.

ووفقا للأسطورة، فقد فر صانع الساعة في ظلام الليل في عام 1502، بعد أن عرف أن المستشارين يريدون اقتلاع عينيه، لكيلا يتمكن من صنع واحدة تماثلها عظمة بعد ذلك.

حاول “غرزغوريز” تشخيص مشاكل الساعة باستخدام مطرقة وكماشة وإلمام بالآلات القديمة التي يبلغ عمرها قرونا، وبعد جهد مضنٍ بدأت الساعة العمل من جديد، وبدأت مجسمات الرسل داخلها في الحركة مجددا وتقديم أنفسهم للزوار.

وليس بعيدا عن الكنيسة، يقع متحف الساعات بغدانسك؛ مكان عمل “غرزيغوريز” المعتاد، وبدلا من الاستماع لدقات الساعات القديمة، صنع خبير الساعات أول ساعة “بُلسار” (النجم النيوتروني النابض) بالعالم، وللمرة الأولى في العالم ستستخدم إشارة ساعات من خارج الأرض؛ إنها تستقبل الإشعاع الصادر عن ستة نجوم متداعية.

يمكن العثور على الكهرمان بين المخلفات التي يقذفها البحر

 

إيقاظ السفينة النائمة منذ القرن الـ16.. كنوز الماء

كما تضم غدانسك جمالا فوق الأرض، فإنها تحوي كنوزا هائلة تحت الماء، فكثيرا ما كانت تمر بوارج النقل مُحمّلة بأكثر من طاقتها وتنقلب بسهولة، فقد كان نهرا غدانسك موتلاوا وفيستولا ممرين مائيين مهمين نحو بحر البلطيق منذ العصور الغابرة.

ويعمل عالم آثار ما تحت الماء “توماس بيدنارز” مع فريقه على اكتشاف حطام سفينة تعود إلى القرن السادس عشر، وهي مهمة ليست سهلة، ففضلا عن تردي الطقس بسبب الرياح والأمطار، فإن الرمال تغطي حطام السفينة بالكامل، مما يتطلب جهدا إضافيا لتحديد مكانها بالضبط.

وقد عثروا أخيرا على حطام السفينة على بعد 15 مترا تحت سطح الماء، ومن المفاجئ أنه في حالة جيدة، مما يمنح شعورا بالرضا.

عمل “توماس” مع فريقه على إقامة متحف افتراضي لحطام السفن في خليج غدانسك، ومن حسن حظه أن هذه السفينة محفوظة بحالة جيدة، لدرجة أنها يمكنها أن تكون قطعة للعرض هناك، وقد حصل مشروع المتحف الافتراضي على جوائز عالمية.

لطالما كانت غدانسك مدينة العلوم المستنيرة، فقد اجتمعت العقول الذكية فيها بفضل عائدات التجارة، لكن لم يستكشف بعد عمق العلاقات الاقتصادية لهذه المدينة بالكامل. يقول “توماس” إن بولندا كانت منتجة الحبوب الرئيسية في أوروبا، ومن الممكن لحطام السفينة التي يسعى لاستخراجها أن تُقدّم معلومات عن الجهة التي كانت غدانسك تتاجر معها آنذاك.

تتميز مدينة غدانسك البولندية بهدوئها وجمال طبيعتها

 

غدانسك الحديثة.. مغناطيس السياح والنساء العاملات

يسكن مدينة غدانسك اليوم نصف مليون نسمة، ويقصدها مليون ونصف مليون سائح سنويا، وأمام المدينة التاريخية القديمة تقع العمارة العالمية الحديثة، فغدانسك تتغير.

تستقطب المدينة النساء بشكل خاص من خلال عروض عمل مغرية، ومن بينهن “إلزابيتا بارسينسكا” التي تعمل سائقة ترام منذ بضع سنوات، وتقول إنها تجني مالا وفيرا من عملها، لكن عليها التأقلم مع نوبات العمل المختلفة، فضلا عن المواقف المثيرة للتوتر، سواء لأسباب تقنية أو بسبب أشخاص آخرين؛ وهي الأكثر إزعاجا لها.

تجوب “إلزابيتا” أنحاء غدانسك بالترام الذي تقوده، وقد نشأت خطوطه منذ عام 1952، وهو واحد ضمن شبكة تضم 11 مسارا تنقل 175 مليون مسافر في العام.

تستقطب المدينة النساء للعمل في بيع الكهرمان وغيرها من الوظائف

 

أضخم معرض خارجي في العالم.. ما بعد الشيوعية

عملية إعادة بناء المدينة القديمة الضيقة بمشاهدها الرائعة لم تتمكن من حل أزمة السكن في فترة ما بعد الحرب، لذا أنشئت مجمعات سكنية مسبقة الصنع. وفي عام 1974 بُني المطار القديم، وفي التسعينيات قام الرسامون بتزيين ناطحات السحاب، وبوجود 50 لوحة جدارية، تعد منطقة زاسبا أضخم معرض خارجي في العالم.

تنتشر أرصفة سفن كثيرة في غدانسك، وعند أحد هذه الأرصفة بدأ العمال إضرابا في بداية الثمانينيات، حيث دعمت نقابة العمال الحركة الديمقراطية، وأصبحت القوة الدافعة وراء الانقلاب الذي أصاب المدينة وأدى إلى إنهاء الشيوعية، ليصبح المجتمع البولندي جزءا من أوروبا.

تُعد مدينة غدانسك التجارية عاصمة الكهرمان، وفي شهر سبتمبر/أيلول من كل عام يأتي تجار الجواهر ومحبو صمغ الأشجار إلى المدينة، ويفتح معرض الكهرمان أبوابه في تلك المدينة التي تتلألأ مثل الكهرمان، ويبدو أن الزمن قد توقف في تلك المدينة الذهبية على بحر البلطيق.