الحرب العالمية الأولى.. رصاصات سراييفو التي أغرقت القارة الأوروبية بالدماء

أمين حبلّا

تعود هذه الأيام إلى أفق المخاوف ذكرى الحربين العالميتين، ويجري حديث واسع عن ترقب حرب عالمية ثالثة، بين الغرب بشكل عام، وبين روسيا.

فعلى ضفاف الثلج المتراكم يشتعل لهب جديد، بين أوكرانيا وروسيا، وفي منطقة كانت دائما مستقر ومجرى دماء الحربين العالمية الأولى والثانية، ويخشى أن تكون منطلق الحرب الثالثة.

 

وفي كِير هذه الحرب العالمية الموعودة تنفخ أطراف كثيرة، وأساطير وسرديات ذات بعد ديني، يؤلمها أن يستقر العالم بدون حرب شاملة منذ قرابة 77 سنة، رغم ما عانى من حروب جزئية، أزهقت أرواح الملايين.

دماء الأمير النمساوي.. قصة الفتيل الذي أشعل الصراع

بدأت الحرب العالمية الأولى من منطقة الثلج، وتحديدا في 28 يونيو/حزيران 1914، عندما سدد طالب صربي يدعى “غافريلو برينسيب” رصاصه إلى صدر ولي عهد النمسا “فرانز فرديناند” وزوجته فأرداهما قتيلين، خلال زيارة كان يؤديانها إلى مدينة سراييفو البوسنية.

كان ممر الأسرة الأميرية بين جوق كبير من المستقبلين، حيث الخيول المطهمة، والعربات الدخانية الجديدة، والأوانس الصربيات يجررن فساتينهن الطويلة، في احتفاء بالأمير النمساوي الذي كان على موعد مع نهاية مؤلمة، وبداية محرقة اجتاحت العالم عدة سنوات.

كان القاتل “برينسيب” عضوا في منظمة اليد السوداء القومية المؤمنة بانفصال صربيا، وكان يسعى لقطع الطريق أمام مشروع “الولايات المتحدة النمساوية” التي يسعى إليها الأمير “فرانز”.

اندلعت شرارة الحرب بعد أن قام طالب صربي يدعى “غافريلو برينسيب” بقتل ولي عهد النمسا “فرانز فرديناند” وزوجته

 

أخطأت الرصاصات الأولى عربة الأمير، فخرج بأبّهته لينادي القتلة “هل تستقبلون ضيوفكم بالقذائف” لكنه لم يسمع الجواب بدقة، فقد توجه إليه رصاص اليد السوداء، ليلقى حتفه رفقة زوجته التي عانى طويلا من أجل الارتباط بها، لأنها لا تنتمي إلى الأسر المالكة، ولم يكن مسموحا للدماء النبيلة أن تختلط بدماء العامة والدهماء حتى لو ربط الحب بين القلوب.

لكن الرصاصات الصربية لم تكن غير السبب المباشر للاشتعال، أو بعبارة كتاب التاريخ لم تكن غير “الفتيل” الذي أشعل حربا توفرت لها أسباب متعددة في بداية القرن العشرين، مثل أزمة البلقان، والصراع الفرنسي الألماني المتفاقم على الحدود، زيادة على الروح القومية العنصرية التي طغت في أوروبا، وجعلت لون العيون ومحل الميلاد واللغة المحلية عنوانا أسمى للتمايز بين القوميات والأفراد، بحيث يستحق المختلف الموت دون أي سبب وجيه.

 

وبينما كان لهب الخلاف والصراع يشتعل بين مختلف الأطراف داخل “العالم الأول”، كانت ضفاف العالم الآخر تعيش صراعا قويا بين الدول الإمبريالية، بسبب الموارد الاقتصادية والتجارية، والسعي الحثيث لاقتسام النفوذ عبر العالم والسيطرة على الأسواق لصرف فائض الإنتاج الصناعي، زيادة على الصراع الأكثر حدة للسيطرة على المناطق الأكثر خصوبة بالمناجم والمعادن ومختلف المواد الأولية التي صنعت منها دول العالم الإمبريالي رفاهيتها المستمرة إلى اليوم.

“الحرب العظمى”.. تحالفات عالمية تغص بها ميادين المعركة

بعد شهر من اغتيال الأمير النمساوي، أعلنت فيينا الحرب على صربيا، معتبرة أن سراييفو لم تتعاط بإيجابية مع قتل الأمير الذي كانت فيينا تزين له أكاليل التاج تمهيدا لتولى العرش الملكي، وقد سلمت النمسا لائحة من عشرة مطالب، وبعد أن استجابت صربيا لثمانية منها وجدت النمسا أن الشرطين الباقيين يستحقان إعلان الحرب، فانطلق اللهيب.

وما إن بدأ الشرر النمساوي يتهاطل على صربيا حتى بدأت أوروبا في التوزع إلى تحالفات ملتهبة، فأخذت روسيا موقعها إلى جانبا صربيا، وأعلنت الحرب على النمسا، وردت ألمانيا بإعلان الحرب على روسيا، وبدأت طاحونة الموت تفعل أفاعيلها بين أبناء الدين الواحد والأرض المفعمة بروح الحضارة.

بدأ العالم بالفعل يتوزع إلى قوات الوفاق الثلاثي بقيادة المملكة المتحدة (قوات الحلفاء)، ودول المركز بقيادة ألمانيا، ومع تساقط أسوار السلام والتهام الحرب للمدن والدول، كانت ضفاف التحالفات تتوسع شيئا فشيئا، لتنتهي إلى حرب كونية حملت اسم “الحرب العظمى”، واستمرت أربع سنوات من النار والدم والتشريد.

وإذا كانت السنتان الأوليان من الحرب العظمى قد حملتا اسم حرب الحركة، لتعدد المواقع وانتقال الجيوش بين الدول وميادين القتال، فإن سنتيها الأخيرتين حملتا اسم حرب الخنادق، إذ بدأ الصراع يشتد والقوى تتكافأ شيئا فشيئا، خصوصا بعد دخول الولايات المتحدة الأمريكية إلى جانب حلف الوفاق الثلاثي خلال العام 1917، وبعد انخراطها عمليا في الحرب بدأت مؤشرات الهزيمة تنخر الحلف الألماني الذي أكل العالم خلال سنتين.

حلف النمسا والألمان.. نصر خاطف يجتاح شرق أوروبا

لم تتوازن كفتا الحرب العظمى خلال عاميها الأولين، فقد كان الجيش الألماني القوي يومها ينتقل من انتصار دموي إلى آخر أكثر دموية منه، وقد كانت الجبهة الروسية أولى الجبهات التي حطمها الألمان، فألحقوا هزائم بالجيش الإمبراطوري، وخصوصا في معركة “غورليس تارناو”، قبل أن يبسطوا سيطرتهم بشكل تام على أراض واسعة من التحالف النمساوي، محتلين ما يعرف الآن ببولندا، ومعظم ليتوانيا.

كانت الخسائر الهائلة تتفاقم في الجانب الروسي الصربي، إذ فقد الروس أكثر من 325 ألف أسير، زيادة على أعداد هائلة من القتلى، وبذلك بدأ الوهن يدب بشكل متسارع في جيوش الإمبراطورية الروسية، بينما كان التحالف النمساوي الألماني يدك المدن الواحدة تلو الأخرى، باسطا ذراع السيطرة على كامل البلقان، قبل أن يعبر نهر الدانوب، باتجاه صربيا التي انكسرت قواتها بشكل فظيع أمام عنف التحالف الألماني النمساوي.

معارك الغرب.. سيول الدماء المراقة على البر الفرنسي

ما تزال ذاكرة التاريخ مفعمة برائحة الدماء واللهب والأشلاء المتطايرة جراء الحرب العظمى، ومن أشهر تلك المعارك معركتان كانتا بمثابة ملحمتين عظيمتين وجرتا على أديم فرنسا، أحدهما معركة فردان التي استمرت سبعة أشهر من العام 1916، والأخرى معركة السوم التي استمرت هي الأخرى أربعة شهور دامية.

 

وقد كانت المعركتان اللتان احتضنت الأراضي الفرنسية لهبهما، وأمواج دمائهما الفائرة عنوان التحول التراجيدي في مسار الحرب، فقد أجبرتا الجيش الألماني على التقهقر، بعد أن ظل لفترة مسيطرا ومنتصرا على الجبهة الفرنسية البريطانية، ليبدأ بعد ذلك مؤشر قوته في التراجع، وانهياراته تترى الواحدة بعد الأخرى.

استخدم الألمان كل ما يمكن من وسائل التدمير، وألسنة اللهب، فظهر الموت عاريا في البر، قبل أن يمد سطوته فوق أمواج البحر، فبينما كانت القوات الألمانية تخوض معركتيها الطويلتين في فردان والسوم عام 1916، بدأت معركة أخرى بين الغواصات والمدمرات العسكرية في بحر الشمال، وحملت اسم معركة غاتلاند.

حرب الغواصات.. عبثية الألمان تفسد مبدأ الحياد الأمريكي

كانت برلين حريصة على تدمير الأسطول الحربي المناوئ لها، وعلى إغراق كل السفن التجارية العابرة لبحر الشمال، وخصوصا تلك المتجهة إلى بريطانيا من أجل إرغامها على الاستسلام، وضمن السفن الغارقة -بما حملت من مؤونة وطعام الشعوب الجوعى- ألقى القدر عدة سفن أمريكية بين أنياب اللهب الألماني، لتخرج واشنطن عن “مبادئ مونرو” التي ركزت الحياد الأمريكي لعدة عقود، فكان دخول الولايات المتحدة في الحرب العظمى تحولها الأبرز والانطلاقة التي وضعت قطار الجيش الألماني على سكة الهزيمة المدوية. وفي أبريل/نيسان 1917 أصبحت واشنطن جزءا من تحالف دول الوفاق، وهكذا بالفعل أصبحت الحرب عالمية بعد أن كانت أوروبية بالأساس.

أدى تدمير بعض السفن الأمريكية والغواصات إلى تدخل أمريكا في الحرب سنة 1917 بعد أن كانت تقف محايدة

 

وفي نفس السنة شاءت الأقدار أن تنهار الإمبراطورية الروسية تحت أقدام الثوار البلشفيين، ووقّع الثوار الجدد اتفاقية صلح برست ليتوفسك في الثالث من مارس/آذار 1918، لتخرج روسيا نهائيا من الحرب، مما وفر على ألمانيا جهدا حربيا كبيرا، ومكنها من تحويل مئات الآلاف من جنودها من الجبهة الروسية إلى الجبهة البريطانية، فاستطاعوا تحطيم الجيش البريطاني الخامس بشكل كامل في مارس 1918، وتوالت معارك الجانبين العنيفة التي تسببت في خسائر فادحة في الأرواح والأموال.

لكن الانتصارات الألمانية ضد بريطانيا قابلها تطور غير مسبوق للقوة القتالية على الجبهة الفرنسية، بعد أن تدفق الجنود الأمريكيون إلى فرنسا بمعدل يصل إلى 10 آلاف مقاتل يوميا، ليضيق بذلك خناق البر على الجيش الألماني الذي بدأ النحول يدب في جسمه المفعم بالجراح.

وفي ضفاف الموج أيضا كانت السفن البحرية والغواصات الأمريكية، تتدفق دعما لأسطول مدمرة غراند البريطانية، كما استقبلت الشواطئ الفرنسية بشغف المهزوم إلى النجدة آلاف الجنود من البحرية الأمريكية.

“هجوم الربيع”.. خطة الرصاصة الأخيرة في جعبة ألمانيا

مع تدفق الجنود الأمريكيين المدججين إلى ساحة الحرب لإسناد قوات الحلفاء، أطلقت برلين ما عرف بـ”هجوم الربيع 1918″، ساعية إلى قطع خطوط التواصل وتقسيم القوات البريطانية والفرنسية، وكان هجوم الربيع الرصاصة الأخيرة في جعبة الجيش الألماني، من أجل كسر الجبهة الفرنسية قبل اكتمال وصول الجيش الأمريكي.

لم تنجح الخطة الألمانية، فقد التفت قوات الحلفاء في هجوم مضاد، من خلال معركة أميان التي كانت نقطة الانطلاق لهجوم المئة يوم من اللهب، في 8 أغسطس/أب 1918 مما أجبر الجيش الألماني على التراجع، وطلب الهدنة من الحلفاء، ولم يكن ضجيج الانتصارات يسمح للحلفاء بسماع الأنين الألماني المتصاعد.

هزيمة ألمانيا بعد هجوم التحالف على خط هيندنبيرغ في معركة غابة هورتغن

 

كانت معركة أميان منعطف التاريخ الدموي للحرب، فقد شاركت فيها أكثر من 400 دبابة، وكان هذا السلاح الجديد حاسما في صناعة النصر والهزيمة في السنوات الأخيرة من الحرب، كما شارك فيها أكثر من 120 ألفا من قوات الحلفاء.

لم تكن أميان الهزيمة الوحيدة في ذاكرة الربيع الألماني، فقد اندلعت معركة ألبرت في 21 من أغسطس/آب 1918، قبل أن تندلع معركة أراس الثانية، ومعركة سكراب، ومعركة خط دروكورت كيونانت، حيث كانت قوات دول المركز تنهار شيئا فشيئا تحت السيل المتدفق للرصاص والجنود.

وفي سبتمبر/أيلول، بدأ الهجوم النهائي الأخير على خط هيندينبيرغ في معركة غابة هورتغن، لينطلق معها تحرير الأراضي الفرنسية، حيث انتهت معركة بلانك مونت ريدج بتحرير مقاطعة شامبانيا الفرنسية، وإجبار القوات الألمانية على التراجع إلى الحدود البلجيكية، ولم يطل الانتظار أيضا فقد استطاع الفيلق الكندي والجيشان البريطانيان الأول والثاني اختراق خط هنيدينيرغ على الجبهة الأخرى، لتقع معركة كامبري الثانية، وتبدأ أسوار دول المركز في الانهيار المتسارع.

هدنة كومبين.. عربة القطار التي أنهت الحرب العظمى

مع نهاية سبتمبر/أيلول 1918 كانت بلغاريا قد خرجت نهائيا من الحرب، تاركة ألمانيا لمصيرها اللاهب، وكانت اتفاقية سالونيك في 29 سبتمبر/أيلول 1918 بين البلغار والحلفاء بداية النهاية السريعة لتحالف دول المركز، قبل أن تجثو ألمانيا على الركب، وتوقع اتفاقية هدنة كومبين مع الحلفاء، داخل إحدى مركبات السكك الحديدية في الساعة الخامسة عصرا من يوم 11 نوفمبر/تشرين الأول 1918، وليدخل وقف إطلاق النار حيز التنفيذ في الساعة 11 من نفس اليوم، منهيا بذلك الحرب العظمى التي استمرت طيلة أربع سنين كانت من أكثر السنوات دموية في تاريخ البشرية.

تم توقيع اتفاقية “هدنة كومبين” بين ألمانيا والحلفاء سنة 1918 داخل إحدى مركبات السكك الحديدية وبها انتهت الحرب

 

ومع نهاية الحرب بدأ الحفر في الخنادق والأسوار المتحطمة والأنهار المتجمدة على الركام والأشلاء، وبدأت لائحة القتلى تمتد على طول تسعة ملايين اسم، مع ملايين آخرين من المفقودين الذين لم يعرف لهم خبر بعد ذلك، زيادة على ملايين الجرحى والمشردين والمرضى والأرامل والأيتام.

كانت أوروبا بعد الحرب عجوزا ثكلى تتوكأ على عكاز الألم والجوع، وتضم إلى عباءتها المتخرقة ملايين الأيتام الذين يكتوون بلهب حقد متبادل، سيظهر بقوة بعد ذلك في أكثر من 29 صراعا مسلحا داخل القارة العجوز، قبل أن تنطلق الحرب العالمية الثانية بعد ذلك بأقل من عقدين.

انهيار الممالك وصعود الديكتاتوريات الثائرة.. عالم ما بعد الحرب

إذا كانت دول الحلفاء قد أصبحت منذ توقيع الهزيمة الألمانية سادة العالم، وخصوصا واشنطن التي مثلت الضلع الأقوى في مثلث التحالف (فرنسا – بريطانيا – الولايات المتحدة) فإن دول أوروبا الشرقية ووسط أوروبا والشرق الأوسط قد أعيد ترتيبها أيضا على معايير غير تقليدية، فقد كان سقوط الإمبراطوريات وانهيار الملوك أبرز أحداث الحرب وما بعدها، إذ انهارت تباعا الإمبراطوريات النمساوية المجرية، والروسية، والخلافة العثمانية، لتظهر في خريطة العالم عشرات الدول الجديدة.

وفي روسيا أخضب حمام الدم تربة الثورة، فخرج الثوار الشيوعيون على سطوة الإمبراطور، وبدأت موجة أخرى من السلطة والديكتاتورية الاشتراكية في دول الاتحاد السوفياتي، بعد أن تنازل “القيصر نيكولاي الثاني” عن العرش في مارس/آذار 1917.

أما في النمسا فقد أنهت الحرب خمسة قرون من حكم عائلة هابسبورغ النمساوية التي جمعت تحت سيطرتها أكثر من 12 قومية أوروبية، قبل أن تتفكك الإمبراطورية تحت زخات اللهب المتطاير في خريف 1918.

بعد خمسة قرون من الحكم، فقدت عائلة هابسبورغ النمساوية ملكيتها بعد الحرب، وتم تقسيم الدولة إلى دويلات

 

وفي 28 أكتوبر/تشرين الأول من نفس السنة، ولدت تشيكوسلوفاكيا، وفي اليوم الموالي أسس السلاف الجنوبيون دولة يوغسلافيا، بينما كانت العاصمة المجرية بودابست تمور تحت أقدام الثوار الذين فرضوا استقلال المجر في اليوم الأول من نوفمبر/تشرين الثاني من نفس السنة الدامية، وبعد يومين انهارت الإمبراطورية بشكل كامل ونهائي بعد توقيع اتفاقية الهدنة بين النمسا والقوى المنتصرة، ليتشكل الباقي في ما يعرف الآن بدولة النمسا.

أما بولندا التي كانت مقسمة بين النمسا وروسيا، فقد ولدت من جديد بعد أن استعادت أجزاءها الموزعة بين الإمبراطوريات القديمة، لتلتحق بها دول جديدة، سلخت حريتها من جلد الدب الروسي، وهي فنلندا وأستونيا وليتوانيا ولاتفيا.

دولة بني عثمان.. من خلافة المسلمين إلى تركيا آتاتورك

نالت الدولة العثمانية نصيبها من التفكك، منذ إعلان سلطانها محمد الخامس الجهاد ضد فرنسا وبريطانيا وروسيا في 24 نوفمبر/تشرين الأول 1914. وقبل ذلك التاريخ كانت الأوجاع المؤلمة قد بدأت تخترق الجسد العثماني، إذ وجدت إسطنبول نفسها في مواجهة الثورة الأرمنية التي ما زالت سوطا غربيا على ظهر تركيا الجديدة المتهمة بإبادة ما يقارب مليون أرمني خلال الحرب الكونية العظمى.

بعيد الحرب العالمية الأولى، تم تقسيم التركة العثمانية بين فرنسا وبريطانيا، ونشأت دويلات عربية ممزقة الروابط

 

وقد كان من آثار الحرب العظمى تحويل السلطنة العثمانية من خلافة إسلامية امتدت على طول ستة قرون إلى جمهورية مقطعة الأوصال، من خلال اتفاقية لوزان 1923 التي احتفظت لتركيا بالأناضول، بعد أن سلخت من عباءتها كل المنطقة العربية التي تحولت هي الأخرى إلى دول متعددة.

“وعد بلفور”.. انهيار حلم الدولة العربية الكبرى

لم يكن العرب أكثر الناس حظا بنتائج الحرب العالمية الأولى، فقد ضاعت آمالهم وجهودهم الكبيرة وإسنادهم العسكري الذي منحوه لبريطانيا مقابل وعدها بإقامة دولة عربية كبيرة، وأسفرت الحرب عن البنود المخفية من اتفاقية سايكس بيكو التي قسمت الأرض العربية بين فرنسا وبريطانيا، وحطمت آمال الشريف علي بن الحسين الهاشمي الذي انتهى به الأمر أسيرا طريدا بعد أن كان يمنّي نفسه بحكم العرب.

وقد كانت صدمة العرب أكثر ألما مع وعد بلفور الشهير 1917 الذي تضمن إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين قلب الأرض والقومية العربية، ليبدأ منذ ذلك اليوم سرطان التمزيق يقطع أوصال الأرض والإنسان والحلم العربي.