العمليات القيصرية.. تجارة تخنق الولادات الطبيعية

وقفوا صفوفا ينتظرون الموعد الكبير الذي يترقبونه بحماس منذ عدة أشهر، حضرت العائلة والأصدقاء المقربون والزملاء من أجل مشاطرة الفرحة، إنه الترحيب بفرد جديد محبوب سينضم إلى المنظومة الاجتماعية المصغرة. تصطبغ وجوههم بألوان الفرح بمجرد وصول الصور الأولى للنجم الجديد من غرفة الولادة، ينظرون إليه بشغف ومحبة، ويتباشرون بصحته وصحة أمه، لكن ما يدور خلف الكواليس الصحية غائب عن أذهان الكثيرين من هؤلاء.

نستعرض فيما يلي فيلم “تجارة العمليات القيصرية” الذي يبحث في ظاهرة نمو معدلات الولادة القيصرية، وأسباب تفشيها الفاحش في بعض المجتمعات، وأضرارها المستقبلية على الأطفال وعلى عملية الولادة الطبيعية.

مستقبل الولادة الطبيعية

يضع أحد الآباء مفتخرا آلة تصوير على جبينه يلتقط بها انطباعات لن تتكرر، ففي إحدى العيادات الخاصة في ريو دي جانيرو يرى النور كل شهر ألف طفل، ومنهم 85% يولدون عن طريق العمليات القيصرية، فالبرازيل هي الدولة الأكثر إجراء للعمليات القيصرية في العالم، لكن المعدل في تنام متزايد أيضا في بعض البلدان الأخرى، فالصين مثلا تنامى فيها الأمر خلال السنوات العشرين المنصرمة من 5% إلى 60% من عمليات الولادة، الأمر الذي يطرح علينا التساؤل التالي: هل الولادة القيصرية هي مستقبل الولادة؟

إذا كانت الولادة القيصرية ضرورية فإن ذلك الأمر يتضح غالبا أثناء الحمل
إذا كانت الولادة القيصرية ضرورية فإن ذلك الأمر يتضح غالبا أثناء الحمل

إن التوجه العالمي نحو الولادة القيصرية يضع الولادة الطبيعية موضع استفهام أكثر من أي وقت مضى، فقد بدأ الكثير من الناس حول العالم يعتقدون بأنها غير ضرورية، فالمخاض والألم والإجهاد والاضطراب كلها أمور غير ضرورية، وإنما يتكبد عناءها من الناس من يحبون المعاناة في الولادة.

يقول الدكتور جان فرانسوا أوري رئيس قسم التوليد في مستشفى روبرت دبري الحكومي في فرنسا “المشكلة حاليا هي أننا -نتيجة لبعض الأسباب- وصلنا لمعدلات ولادة قيصرية لم تعد عادية”.

ولادة بلا طعم

يصل معدل الولادة القيصرية في فرنسا 21% من مجموع الولادات، وأغلب ذلك عائد إلى العيادات الخاصة التي ترفع المعدل كثيرا، لكون الأطباء فيها يجرون العمليات القيصرية أكثر بضعفين من المستشفيات الحكومية.

العملية القيصرية الطبيعية توفر الركن الأهم في الإنجاب، ألا وهو الحميمية بين الأم وولدها
العملية القيصرية الطبيعية توفر الركن الأهم في الإنجاب، ألا وهو الحميمية بين الأم وولدها

تنتظر باسكال -وهي سيدة فرنسية- مولودها الثالث، وقد ولدت ابنتها الأولى ولادة قيصرية، بينما وضعت ابنها الموالي وضعا طبيعيا، لكنها تريد هذه المرة أيضا أن تضع فلذة كبدها الثالثة بطريقة طبيعية، فهي تتذكر ولادتها القيصرية بمتعة أقل من تجربة الولادة الطبيعية، وتعلق آمالها اليوم على الأطباء في مستشفى روبرت دبري الجامعي، فهم لا يستخدمون المشرط إلا في 17% من الولادات.

تقول باسكال “أعتقد أنه إحباط كبير بالنسبة لمعظم النساء، فليس من السهل رؤية الطفل للمرة الأولى وهو يرتدي ملابسه بالكامل، إنه ليس نفس الشعور، لقد ندمت على ذلك”.

الولادة القيصرية الاختيارية

إذا كانت الولادة القيصرية ضرورية فإن ذلك الأمر يتضح غالبا أثناء الحمل، وإنما يكون الأمر ضروريا في بعض الحالات فقط، كأن يكون الطفل في وضع جانبي، أو أن يكون السائل المحيط بالجنين ملوثا، أو أن يكون رأس الطفل غير مناسب للخروج من حوض أمه، ويسمي الأخصائيون الطبيون هذا ولادة قيصرية اختيارية.

يرجع الأطباء السبب في ارتفاع تكاليف عملية الولادة الطبيعية إلى ضرورة ملازمتهم للمرأة الحبلى لوقت طويل أثناء المخاض
يرجع الأطباء السبب في ارتفاع تكاليف عملية الولادة الطبيعية إلى ضرورة ملازمتهم للمرأة الحبلى لوقت طويل أثناء المخاض

كما أنها تجرى بشكل طارئ أيضا إذا نقصت المشيمة في الرحم، أو عندما يلتف الحبل السري حول رقبة الطفل، إلا أنها لا تكون ضرورية في بعض الأوضاع كحالة التوجه المقعدي، وعند إنجاب التوائم، وأنماط معدل نبض قلب الجنين غير الطبيعية.

يقول د. جان فرانسوا أوري رئيس قسم التوليد في مستشفى فرنسي “إذا كانت حياة الأم أو الطفل في خطر فإننا عندها نجري العملية القيصرية، لكننا نفضل الولادة الطبيعية”.

الولادة القيصرية الانتقائية

تضع النساء الحوامل ثقتهن في الأطباء والقابلات، فهم يوفرون لهن التوجيه، لكنهم يتخذون قرارات مختلفة عندما يتعلق الأمر بالمؤشرات النسبية، فكل يرى بمنظوره الخاص، مما يؤدي إلى تقلبات كبيرة في معدلات الولادات القيصرية على المستوى العالمي، ففي بعض الدول ترفع هذه الولادة القيصرية الانتقائية معدلات الأرقام، وهي ولادات تجرى دون وجود أي دواع طبية لها.

كانت العمليات القيصرية في السابق عمليات طارئة
كانت العمليات القيصرية في السابق عمليات طارئة

وقد بدأ التوجه للعمليات القيصرية في البرازيل في عقد الستينيات، حيث أصبحت النساء اللواتي لا يرغبن في إنجاب المزيد من الأطفال يقمن بالعملية في العيادات الخاصة، ثم أصبح الأمر طبقيا يختص ببعض طبقات المجتمع، ففي مدن مثل ريو دي جانيرو فإن الفرق بين الأغنياء والفقراء ينعكس على النظام الصحي.

توجيه القناعات

تتمتع باربارا كريسبن وزوجها روبرت بتأمين صحي خاص يسمح لهما بمرافقة طبيب يختارانه حتى قبل الولادة ببضعة أشهر، تقول باربارا “عندما ذهبت إلى الطبيب بدأ الحديث عن الأسعار، وأوضح لي أن كل ما يخص الولادة القيصرية أرخص بكثير من الولادة الطبيعية”.

يرجع الأطباء السبب في ارتفاع تكاليف عملية الولادة الطبيعية إلى ضرورة ملازمتهم للمرأة الحبلى لوقت طويل أثناء المخاض حتى تضع مولودها، وهو ما قد يكلفها حوالي 5000 يورو بخلاف عمليات الولادة القيصرية.

وقد توصلت باربارا بعد أن استشارت أمها إلى قرار إجراء العملية القيصرية، الأمر الذي كان ينصحها به طبيبها، بالرغم من عدم وجود ما يمنع إجراء الولادة الطبيعية، وإلى ذلك الرأي أيضا ذهبت طبيبتها الجديدة.

الصين بحكم كثرة سكانها تحتل المرتبة الأولى في العالم في ذلك المجال
الصين بحكم كثرة سكانها تحتل المرتبة الأولى في العالم في عدد العمليات القيصرية

إذن فالأمر اقتصادي نوعا ما بالنسبة لهؤلاء الأثرياء، وعلى درب الأغنياء تفترض النساء من الطبقات الفقيرة أن الأمر خيار جيد بما أن نساء الطبقات العليا يفعلنه.

تقول الباحثة سيلفانا غرانادو “يقنع الأطباء النساء في العيادات الخاصة بأنهم لا يستطيعون الولادة بشكل طبيعي، ويخبرونهم أن الولادة الطبيعية تسبب المشاكل، وأن القيصرية أكثر أمنا على الرغم من معرفتهم بأن ذلك ليس صحيحا، حتى وصل معدل الولادات القيصرية في بعض العيادات الخاصة إلى 90%”.

وفي مرحلة ما فإن النساء اللواتي يضطررن للولادة في المستشفيات الحكومية يتساءلن: لم لا يمكنهن أن يلدن قيصريا؟ بما أن النساء الغنيات يفعلن ذلك فلا بد أنه خيار جيد.

تقول باربارا “نعم يتم دفع النساء إلى العمليات القيصرية، وفي الوقت ذاته تقول إحدانا لنفسها: لن أتألم ولن أعاني، ويمكنني اختيار اليوم الذي أريد أن ألد فيه، وأستطيع دعوة الأصدقاء والعائلة لحضور نفاسي، وذلك أمر مهم في نفوس البرازيليين”.

يوليوس قيصر

كانت العمليات القيصرية في السابق عمليات طارئة، وقد حصلت على تسميتها -بحسب الأسطورة- من الإمبراطور الروماني يوليوس قيصر، وقد كانت النساء منذ القدم تعاني في العمليات القيصرية عناء لا حد له، وكن ينزفن نزيفا شديدا أثناء العملية وتصيب العدوى جروحهن، وعلى مدى قرون عدة كانت تتسبب في وفاة الأم، وينجو الطفل وحده.

ومع بزوغ فجر عصر جديد قرر طبيب التوليد الألماني فيرديناند أدولف كيهرر عام 1881 خياطة بطن مريضته بعد الولادة القيصرية، وقام كذلك بجرح الرحم مرجحا أن ذلك سيقلل من خطر الإصابة بالعدوى، وقد كان على حق، إذ انخفضت وفيات الأمهات بشكل كبير.

العمليات القيصرية تزيد مخاطر معينة بالنسبة للأم
العمليات القيصرية تزيد مخاطر معينة بالنسبة للأم

تعتبر الولادة القيصرية عملية آمنة جدا هذه الأيام، وتستغرق عشرين دقيقة يتم فيها حقن العمود الفقري لتخدير البطن، ثم يفتح الطبيب شقا في الجلد وطبقات الدهون والرحم والكيس السلوي، وتعطى المرأة خلال العملية مضادات حيوية، وأكسيتوسن (Oxytosin) صناعي الذي يسمى هرمون الحب، وهو هرمون مساعد في عمليات الولادة، وينتج أيضا خلال الرضاعة الطبيعية.

بين الخطر والأمان

إن أمان العمليات القيصرية وانعدام المخاطر فيها على المرأة والطفل أدى إلى ارتفاع معدلات الولادة القيصرية بشكل كبير في دول العالم، ففي ألمانيا مثلا قفزت معدلاتها إلى 32% خلال 25 عاما، وذلك عائد إلى اعتقاد الأطباء والمرضى بأنها الحل الأمثل للولادة.

الاتصال الجسدي المباشر مهم جدا، لأنه يسمح للرضيع بأن يتنفس بشكل طبيعي، كما أنه يشم رائحة أمه
الاتصال الجسدي المباشر مهم جدا، لأنه يسمح للرضيع بأن يتنفس بشكل طبيعي، كما أنه يشم رائحة أمه

يقول رئيس قسم التوليد في أحد مستشفيات برلين د. ميشيل أبو دقن “اتضح مؤخرا أن مصلحة الطفل ليست في المقام الأول، وهو إدراك جديد تماما، فقد كنا نظن دائما أننا نجري عملية جراحية تشكل ربما خطرا أكبر على المرأة من الولادة الطبيعية، لكنها على الأقل أفضل بالنسبة للطفل، والآن تبين أنها ليست كذلك”.

الحقيقة أن العمليات القيصرية تزيد مخاطر معينة بالنسبة للأم، مثل النزيف الداخلي والانسداد، وأثناء حالات الحمل اللاحقة يمكن أن تتشكل الالتصاقات على الندبة، وقد تتشكل المشيمة بشكل منخفض جدا، كما تعاني بعض النساء بعد ذلك حزنا على الفرصة الضائعة لولادة طبيعية.

الجراثيم الحميدة

يقول د. ميشيل أبو دقن “أصبحت الجراثيم اليوم تقارب مقاربة جديدة تماما، فقد اعتدنا على أن الجراثيم سيئة، لكن البشر لديهم مستوى من الجراثيم الحميدة وعدد قليل من الجراثيم السيئة، يجب أن تكون الجراثيم الحميدة موجودة للحفاظ على مستوى الجراثيم السيئة، وتلك وجهة نظر جديدة”.

في ألمانيا قفزت معدلاتها إلى 32% خلال 25 عاما
في ألمانيا قفزت معدلات العمليات القيصرية إلى 32% خلال 25 عاما

تجري د. كاتارينا فارنكا بحوثا على الرابط بين الولادة القيصرية ومرض السكري، حيث تؤكد أنه إذا كان أحد الوالدين مصابا بالمرض فإن خطر إصابة الطفل به تكون أعلى بنسبة 50% بعد الولادة القيصرية.

وتؤكد بعض الدراسات أن أطفال الولادة القيصرية معرضون أكثر لخطر الإصابة بالحساسية مثل الربو وأمراض المناعة الذاتية الأخرى، وفي سبيل معالجة ذلك يقوم الأطباء بفرك المولود بالإفرازات المهبلية بعد الولادة، والغرض من ذلك خداع المجهريات المعوية لدى الأطفال حديثي الولادة، وتلك نظرية لا تقوم على أساس بحثي حتى الآن.

تفادي القيصرية

تقوم آنا بييتش بمراجعة مستشفى سان جوزيف في برلين من أجل تصحيح الوضع المقعدي لجنينها ذي الستة والثلاثين أسبوعا، حتى تتمكن من إجراء ولادة طبيعية، ويشرف على هذا الأمر د. ميشيل أبو دقن رئيس قسم التوليد بالمستشفى، وذلك عن طريق تشجيع الجنين من خلال اللمس والوخز الخفيف على الالتفاف حول نفسه، وتلك عملية لا يجب أن تمارسها الحبلى لوحدها دون حضور الطبيب خشية أن تحتاج إلى مساعدة.

من الأسباب التي دفعت إلى زيادة معدلات الولادة القيصرية أن الأطباء يفضلون الخيار الآمن بالنسبة لهم
من الأسباب التي دفعت إلى زيادة معدلات الولادة القيصرية أن الأطباء يفضلون الخيار الآمن بالنسبة لهم

يقول د. ميشيل “عيب الولادة الطبيعية الكبير هو التكاليف، فأنت تحتاج إلى طاقم لتجنب العملية القيصرية، ففي الولادة الطبيعية تحتاج إلى قابلة لديها الكثير من الوقت للمرأة، وأطباء يمكن أن يكونوا يقظين بما يكفي لتوفير الألفة التي تمنح المرأة الشجاعة للتصرف بشكل تلقائي، وللأسف فالقطاع الطبي يتلقى عاملوه رواتب ضئيلة، يجب أن تدفع للطاقم لكي يكونوا دائما حاضرين وعلى أهبة الاستعداد وإن لم يعملوا”.

وضعت آنا بييتش مولودها بطريقة طبيعية مثلما تمنت، ومع أنها كانت تجربة قاسية بالنسبة لها فإنها كانت سعيدة بذلك؛ حيث تقول “لم تكن ممتعة أبدا، لكنني سعيدة لأن الولادة كانت تلقائية ولأنني عشتها، ولم تكن ولادة قيصرية مجدولة من البدء، لقد كانت تجربة مريعة، وكان المخاض عسيرا ومقززا أحيانا، لكن ما إن خرج الطفل ورأيته شعرت أن تلك اللحظة تستحق المعاناة”.

متاجر التوليد

من أهم أسباب رواج العمليات القيصرية سرعتها الفائقة وضمانها، لذلك فإن الأطباء عادة ما يفضلونها من أجل زيادة أعمالهم ومبيعاتهم، فبدلا من إضاعة 12 أو 18 ساعة أو أكثر في مراقبة عملية إنتاج طفل واحد فإن العمليات القيصرية تتيح للمستشفى إنتاج الكثير من المواليد في ظرف وجيز، الأمر الذي يصل في سلسلة مستشفيات بيري ناتال في ريو دي جانيرو إلى 5000 آلاف طفل في الشهر، 85% منهم مواليد قيصريون، وفي إحدى هذه المستشفيات وضعت باربارا كريسبن حملها، أو بالأحرى أخرجت الطبيبة منها فلذة كبدها، وذلك بعد أن انتظرتها مدة حتى تنتهي من عملية ولادة قيصرية أخرى، فهي طبيبة لا تكاد تشرف على عملية ولادة طبيعية أبدا.

من أهم أسباب رواج العمليات القيصرية سرعتها الفائقة وضمانها
من أهم أسباب رواج العمليات القيصرية سرعتها الفائقة وضمانها

العمليات القيصرية هي أيضا فرصة سانحة للمصورين من أجل كسب المال، فكثير من الآباء يرغبون في الاحتفاظ بعملية ولادة أبنائهم للذكرى، فالعرض الأساسي يشمل سبعين صورة وفيلما يصل إلى عشرة دقائق، ويكلف ذلك عادة 250 يورو.

شبح الاندثار

توصل باحثون في الولايات المتحدة الأمريكية أنه عندما تربو معدلات الولادة القيصرية في بلد ما على 40% تتلاشى أساسيات المعرفة بالولادة الطبيعية، وقد لاحظت الباحثة سيلفانا غرانادو ذلك في دراسة أجرتها، ولكن بما أن الولادة القيصرية اقتصادية أكثر من أختها، فإن من الصعب السيطرة على الارتفاع الكبير في معدلاتها، وما يزيد الطين بلة هو أن الكثير من العيادات الخاصة حول العالم غير مجهزة بالطواقم المتخصصة في الولادة الطبيعية، ما يزيد ارتفاع معدلات التوليد القيصري.

ينخفض عدد القابلات في جميع أنحاء العالم مقابل رجحان كفة العمليات القيصرية
ينخفض عدد القابلات في جميع أنحاء العالم مقابل رجحان كفة العمليات القيصرية

تقول الباحثة سيلفانا غرانادو “يبدأ الأطباء الشباب بإجراء العمليات القيصرية بمجرد أن يفرغوا من التدريب، ونادرا ما يجرون عمليات ولادة طبيعية، لذلك لا يتمرسون بها أبدا، والممارسة الوحيدة التي يعتادون عليها هي الولادة القيصرية”.

وحش الأرقام القياسية

تقول إحدى الأمهات في الصين “عندما علمت أني حامل بدأت أفكر في أي يوم يجب أن ألد، فبحثت في الكتب والإنترنت، وحاولت أن أعرف أي يوم يمكن أن يكون يوم سعد، وفي النهاية اخترت السابع من يوليو/تموز، فهو يوم عيد الحب في الصين، كما أنه يوم جيد في التقويم القمري الصيني أيضا”.

إذا ما تحدثنا عن معدلات الولادة القيصرية المرتفعة فإن الصين بحكم كثرة سكانها تحتل المرتبة الأولى في العالم في ذلك المجال، حيث قفز في غضون عشرين سنة فقط من 6% إلى 50%، هذا يعني أن تسعة ملايين عملية قيصرية تجرى في الصين كل عام، وذلك من أصل حوالي 18 مليون إنسان يرون النور في كل سنة.

تعتبر الولادة القيصرية عملية آمنة جدا هذه الأيام
تعتبر الولادة القيصرية عملية آمنة جدا هذه الأيام

في الصين تقرر كل امرأة طريقة وضع حملها، ولا يطرح الأطباء أي سؤال فيما يتعلق بتلك الانتقائية، فقد أصبحت مجرد إجراء يومي في المستشفيات، لكن الأمر يتفاحش في الأرياف أكثر من المدائن، فالنساء المتمدنات يصلن إلى المعلومات اللازمة حول الولادة القيصرية بسهولة من أجل الاطلاع على التفاصيل وتكوين آرائهن الشخصية حول الأمر.

يقول مدير إحدى المستشفيات في شنغهاي “يرغبون في ولادة طفلهم في يوم سعد، مثل يوم 8 أو 18 أو 28 من الشهر، حيث يعتقد الناس أن تلك التواريخ ستضمن النجاح في الحياة، وقد يكون السبب ربما مناسبة خاصة أخرى، فمثلا إذا كان التاريخ المحدد هو نهاية أغسطس/آب أو بداية سبتمبر/أيلول، فإنهم يفضلون أغسطس/آب، لأن الأطفال الذين يولدون قبل سبتمبر/أيلول يمكنهم الالتحاق بالمدارس وهم أصغر من أترابهم بعام.

هكذا إذن تختار الأمهات لأبنائهن تواريخ ميلادهم، في جمع بين الاعتقادات المتأصلة في الثقافة الصينية والإجراءات الحديثة، فإذا كان اليوم الثامن هو تاريخ ميلادك فهذا يعني الحظ، وأما التاسع فيرتبط بطول العمر، لكن الرابع يجب تجنبه، فهو رقم غامض ويمكن أن يعني الموت.

هاجس المقاضاة

من الأسباب التي دفعت إلى زيادة معدلات الولادة القيصرية أن الأطباء يفضلون الخيار الآمن بالنسبة لهم، ألا وهو الولادة القيصرية، فشبح المقاضاة في الولادة الطبيعية يقض مضاجع أطباء التوليد دائما في حال حدوث أخطاء أثناء الولادة المهبلية، لكن في حالة الولادة القيصرية فاحتمالية الأخطاء تكاد تكون منعدمة، لذلك فهي الخيار الآمن والمريح بالنسبة للطبيب، وهذا هو بالذات ما تخشاه القابلات أيضا، فهن يخضعن لضغط شديد أثناء ساعات التوليد الطويلة خشية وقوع الأخطاء.

عندما تربو معدلات الولادة القيصرية في بلد ما على 40% تتلاشى أساسيات المعرفة بالولادة الطبيعية
عندما تربو معدلات الولادة القيصرية في بلد ما على 40% تتلاشى أساسيات المعرفة بالولادة الطبيعية

يقول البروفيسور فرانك لوفن رئيس قسم التوليد في مستشفى فرانكفورت الجامعي “مع قرار إجراء المزيد من العمليات القيصرية حرصا على سلامتنا، فمعرفة مكامن الخطر في الولادة الطبيعية بدأت تضيع”.

ينخفض عدد القابلات في جميع أنحاء العالم مقابل رجحان كفة العمليات القيصرية، وهناك مطالبة بإعطاء أهمية أكبر للعناية البشرية بدل الاهتمام بالتكنولوجيا، فتلك معضلة اجتماعية كبرى أن تصبح المرأة ترى نفسها منتجا وطفلها منتجا يتم إنتاجه عبر عملية جراحية، لا عملية إنسانية تجرى بالوضع الطبيعي الفطري.

العمليات القيصرية الطبيعية

يحاول فريق طبي في ألمانيا تجنب اكتئاب النساء الناتج عن ضياع فرصة الولادة الطبيعية من خلال إجراء محاكاة للولادة الطبيعية على أفضل وجه ممكن، ففي مستشفى تشاريتي ببرلين تستطيع النساء اللواتي اخترن إجراء العمليات القيصرية خوض تجربة جديدة، ألا وهي الولادة القيصرية الطبيعية التي أدخلها فريق البروفيسور وولف غانغ هنريك إلى ألمانيا.

تبدأ العملية كأي عملية قيصرية عادية، ولكن ما إن يرى الطبيب رأس الطفل حتى يأمر بإزاحة الستار التي يحجب الطبيب وفريقه أثناء العمل عن عيون الأم والأب، ثم يخرج الطفل رويدا رويدا أمام أعين والديه، يشاهدان معا خروج أعضائه الصغيرة من شق بطن أمه، والطبيب يأمر الأم بالدفع من أجل محاكاة الولادة الطبيعية بأكبر قدر ممكن، وبالرغم من عدم الحاجة إلى ذلك إلا أنها أيضا تقوم بالدفع مساعدة صغيرها على الخروج من سجن أحشائها إلى الفضاء الرحب، ثم يسلم إلى أمه مباشرة لتستمتع بأولى صرخاته بين ذراعيها، وتلك اللحظات الساحرة تنسي الأم أنها ما زالت تخضع لعملية في جسدها يعمل عليها الأطباء بينما تعانق ابنها الصغير.

هذه العملية تجرى أيضا لغير الراغبات ممن كن يرغبن في إجراء الولادة الطبيعية لكن أفسدت عليهن الظروف رغبتهن لسبب طارئ مثل الاضطراب في نبض قلب الجنين، أو لطول مدة المخاض.

الكثير من الناس اليوم ولدوا بعمليات قيصرية مجدولة
الكثير من الناس اليوم ولدوا بعمليات قيصرية مجدولة

يقول البروفيسور وولف غانغ هنريك “الاتصال الجسدي المباشر مهم جدا، لأنه يسمح للرضيع بأن يتنفس بشكل طبيعي، كما أنه يشم رائحة أمه وتشم هي رائحته، فتتوطد العلاقة بينهما فورا، وعندما يستحيل إجراء ولادة طبيعية، وتجتمع الأسباب الكافية التي تجعلنا نقرر إجراء الولادة القيصرية تصبح هذه الطريقة بديلا أو محاكاة للولادة الطبيعية”.

إذن فالعملية القيصرية الطبيعية توفر الركن الأهم في الإنجاب، ألا وهو الحميمية بين الأم وولدها، إلا أنها تبقى عملية رغم كل شيء، وهذا ما ينتقده بعض الباحثين في المجال، نظرا إلى كونه إقحاما للتفاعل الإنساني في إجراء تقني وهو العملية القيصرية، بينما يحبذون أن يقع العكس، أي أن يكون التفاعل الإنساني هو الأساس، ثم تتدخل التكنولوجيا عند الحاجة.

يقول أحد الآباء الذين حضروا عملية الولادة القيصرية الطبيعية “كانت (يقصد زوجته) تدرك ذلك وقالت إنه مهم جدا بالنسبة لها، كان ذلك رائعا وجيدا، وكأنه ولادة طبيعية، لم تكن هذه ولادتها القيصرية الأولى فقد أجرت ولادة قيصرية قبل 18 عاما، إلا أن الأمر كان سريعا هذه المرة، وضع الطفل على خدها وانتهى الأمر، الأمر رائع ويستحق التجربة، لم يكن مختلفا عن الولادة الطبيعية، باستثناء أن الطفل خرج من مخرج مختلف”.

من أجل التاريخ

الكثير من الناس اليوم ولدوا بعمليات قيصرية مجدولة، وأنتجوا عبر ولادة دون مخاض، لا تفرز فيها الهرمونات التي تفرز في الولادة الطبيعية؛ لقد تدخل الطب كثيرا في مسار تطور جسم الإنسان، فالجدل القائم حول العمليات القيصرية يجعل الأمهات أمام تحدٍّ كبير، فهي تتطلب الاطلاع على المعلومات، وتختبر أيضا نظرة العاملين في مجال العناية الصحية لأنفسهم ولأدوارهم.

يقول د. جان فرانسوا أوري رئيس قسم التوليد في مستشفى فرنسي “إن كنت تحب عملك وتلقيت تدريبا في طب التوليد، فعليك أن تطبقه، نحن عموما ندافع عن هذا التخصص”.

يقول ميشيل أبو دقن رئيس قسم التوليد في مستشفى ألماني “إن أصبحت العمليات القيصرية مستقبل طب التوليد فسيكون ذلك كابوسا بالنسبة لي، لكن لدي اقتناع أن ذلك لن يحدث، وعلى المجتمع أن يفهم أن عليه الاستثمار في موارد طب التوليد البشرية، فنحن نحتاج إلى موارد بشرية ومالية أكثر، لأن الأمراض ستتفشى في مجتمعنا إن ولد أطفال أكثر عبر العمليات القيصرية”.

وفي هذا الوقت الذي أصبحت فيه الولادة القيصرية تجارة، وأصبحت النساء متوجسات ومرتابات من الحمل، أصبح ضروريا توفير مساعدين ذوي خبرة لمرافقتهن أكثر من أي وقت مضى، ولمواكبة هذا التوجه المندفع نحو العمليات القيصرية التي لا تزال دراسة آثارها طويلة المدى في بدايتها.