“آرتيميس”.. آمال عودة الإنسان إلى سطح القمر

بعد حرب عالمية أولى طاحنة أسقطت إمبراطوريات دامت لقرون، وأنهكت بلدانا وأضاعت أجيالا وقضت على الكثير من الآمال؛ كانت الكرة الأرضية بمن عليها من شعوب ما زالت تعيش تبعات ذلك الثوران في محاولات تمكين قوى وفوز بصراعات سياسية وأخرى علمية، وكانت الأفكار تتناحر على صفيح ساخن لا يهدأ، ويشوبه الكثير من اللغط والجلبة.

في شتاء عام 1920 في الثالث عشر من يناير/كانون الثاني، أثارت صحيفة “نيويورك تايمز” جدلا واسعا حول نظرية المخترع الأمريكي “روبرت غودارد” (Robert Goddard)‏ الذي تبنى فكرة إطلاق صاروخ قادر على التحليق خارج الغلاف الجوي في الفضاء، ولم تكتفِ الصحيفة من التعليق بتهكم على نظريته، وإنما شككت بكفاءته العلمية ونزاهته.

فقد نشرت في عددها الصادر في ذلك التاريخ ما نصه: حينما يتمكن الصاروخ من الهروب خارج الغلاف الجوي ويبدأ رحلته الحقيقية نحو القمر، فإنه في تلك اللحظة سيفقد قدرته على الاستفادة من محركات الدفع، وبحسب ادعاء “غودارد” فإن في قوله ما يخالف قانونا أساسيا في الديناميكا. وقلائل من هم فقط يحق لهم الحديث والمحاجة بمثل هذه الأمور أمثال “آينشتاين” والنخبة القليلة معه.

 

وأردفت الصحيفة بقولها: إن ذلك البروفيسور “غودارد” جليس مقعده في كلية “كلارك” لا يعرف العلاقة بين الفعل وردة الفعل، وحاجة الصاروخ لمحيط مادي للقيام بهذه العلاقة بدلا من الفراغ. بالطبع يبدو أنه يفتقر لأبجديات وبديهيات المعرفة التي تُدرّس في المدارس الثانوية[1].

لقد كانت أشبه بصفعة قادمة من يد أحد الكتاب المجهولين على وجه عالم يقف أمام منعطف يكاد به أن يصوغ مسار البشرية نحو الفضاء. بالطبع ما كان يُسلم به الشارع والقارئ في ذلك الحين يوافق ما كان يتحقق على أرض الواقع، ولدحض تهمة كهذه ما كان على هذا العالم سوى أن يرسل صاروخا نحو الفضاء يكسر به حاجز 100 كيلومتر وهو ارتفاع “خط كارمان” الذي يفصل بين الفضاء الخارجي والغلاف الجوي للأرض، حيث تصبح طبقة الغلاف الجوي على هذا الارتفاع رقيقة وتقل سماكتها.

لم يدم الأمر على حاله طويلا، فقد تضاعف الإقبال على الأبحاث العلمية مع حاجة كل حكومة إلى إثبات جدارتها في انتزاع ريادة العالم إقليميا وعالميا، وكان للحزب النازي وسط خضام الحرب العالمية الثانية بقيادة الزعيم الألماني “أدولف هتلر” نصيب في إطلاق أول صاروخ يصل بنجاح إلى الفضاء الخارجي عام 1944 ويُطلق عليه صاروخ “أ4” (A4)، وقد بلغ مداه حينها 189 كيلومترا فوق سطح البحر[2].

قمر السوفيات الصناعي.. بداية الحرب الباردة

بعد صاروخ “أ4” الذي أطلقته ألمانيا قام البرنامج الفضائي السوفيتي عام 1957 بإرسال أول قمر صناعي “سبوتنك1” (Sputnik1) نحو الفضاء الخارجي ليحوم حول كوكب الأرض، وبعدها بعام أرسلت الولايات المتحدة مكوكها الفضائي الأول “اكسبلورر1” (Explorer1)، لينطلق بذلك سباق الفضاء، فتسابقت كلتا الدولتين في إرسال المزيد من الأقمار الصناعية رغم وجود تحديات وخسائر مالية وأخرى بشرية، لكن ذلك لم يكن مانعا للقوى العظمى من فرصة احتلال الفضاء، على نطاق ضيق حول الأرض.

سبوتنيك هو القمر الصناعي الذي كان عنوان النفاذ من أقطار السماوات والأرض منذ عام 1957

لقد بدا للعالم إمكانية إطلاق الصواريخ وتسييرها في البيئة الفضائية الفارغة، وهو أمر قد استثار صحيفة “نيويورك تايمز” وقلب سجلاتها التاريخية، ليلزمها مرغمة بعد عقود على الاعتذار من الإساءة للعالم الذي وضع أساسا لإمبراطورية صواريخ الفضاء.

لكن كان ذلك اعتذارا على مضض إذ قالت في عددها المنشور في 17 يوليو/تموز سنة 1969: لقد أكدت لنا استقصاءات وتجارب عدة على صحة استنتاجات إسحاق نيوتن في القرن السابع عشر، والآن تأكد لنا بأن الصاروخ يطير في الفراغ وكذلك في الجو، صحيفة التايمز تعتذر عن الخطأ[3].

قوة الجاذبية الخفية.. تساؤلات الإغريق التي حلها نيوتن

لقد كان اكتشاف قوة الجاذبية على يد العالم الإنجليزي “إسحاق نيوتن” في نهاية القرن السابع عشر بمثابة الإجابة الحاسمة لتساؤلات عدة طرحها فلاسفة الإغريق عن سبب حركة الكواكب وما هي “القوة” الخفية التي تعمل على ضبط سيمفونية الكون المتناغمة، رغما من أن “نيوتن” لم يكن أول من فكر بهذه القوة، لكنه بلا شك هو أول من صاغها رياضيا بقانون مُحكم.

قوة الدفع هي التي ترفع الصاروخ إلى أعلى وتحرره من قبضة الجاذبية الأرضية

لكن قبل ذلك الاكتشاف الجوهري، دأب “نيوتن” على محاولة ربط حركة الأجسام بالقوى المؤثرة عليها، سواء كانت قوة مصدرها مرئية (كقوة دفع اليد) أو كانت قوة خفيّة (كقوة الجاذبية)، ثم قام بتأليف أعجوبته التي أصبحت من أهم الأعمال البشرية، وهي كتاب “الأصول الرياضية للفلسفة الطبيعية” سنة 1687، وقد ضمّ قوانينه الثلاثة الشهيرة لحركة الأجسام.

علم حركة الأجسام.. قوانين نيوتن التي قلبت التاريخ

لقد وضع نيوتن الشمس صوب عينيه والكواكب حولها تدور، وسلّم بافتراض العالم “كبلر” الذي قال إن مدارات الكواكب يجب أن تكون إهليليجية (بيضاوية)، وأن المدارات الدائرية ليست سوى حالة خاصة وتكاد تكون نادرة في طبيعة الميكانيكا السماوية ثم استخلص القوانين الآتية.

د. روبرت غودارد يقف أم السبورة بجامعة كلارك، سنة 1924، ويشرح الطريقة التي قد يصل بها الصاروخ إلى القمر

1.    القانون الأول: الجسم الساكن يبقى ساكنا، والجسم المتحرك يبقى متحركا بخط مستقيم وبسرعة ثابتة، ما لم تؤثر عليه محصلة قوى تغير من سكونه أو سرعته أو اتجاه حركته.

2.    القانون الثاني: عندما تؤثر محصلة قوى على جسم ما، فإنها تكسبه تسارعا يتناسب طرديا مع مقدار هذه القوة وعكسيا مع كتلة الجسم.

3.    القانون الثالث: لكل فعل هناك دائما ردة فعل مساوية له بالمقدار ومعاكسة في الاتجاه.

لقد كانت هذه القوانين بمثابة الحجر الأساسي لبناء منصة صاروخية ودخول الإنسان إلى الفضاء من أوسع أبوابه، وعلى الرغم من قدمها فإنها ما زالت تحظى بثقة مهندسي الفضاء إلى اليوم، وما زلنا نرمي بكل ثقتنا الهندسية والعلمية على هذه القوانين للوصول إلى القمر أو أي جرم سماوي آخر.

كسر الجاذبية.. لَبس القانون الثالث

إذا ما تمعنا في القانون الثالث من قوانين “نيوتن”، فإننا سنجد الرابط الحقيقي بين التسارع والقوة والكتلة، وأنّ جسما بكتلة ما سيتطلب قوة بمقدار معين لكي يتسارع ويصل إلى سرعة تسمح له الهروب من جاذبية الأرض، وتلك السرعة تعرف بـ”سرعة الإفلات” التي قام بحسابها نيوتن بـ 11.2 كيلومتر/ثانية بالنسبة لكوكب الأرض.

هل كانت رحلة أبوللو إلى القمر حقيقية أم مجرد تمثيل في صحراء نيفادا الأمريكية؟

بتعبير آخر فإن أي جسم على سطح الأرض يحتاج إلى أن يصل إلى تلك السرعة لكي يتحرر من جاذبية كوكب الأرض، ولكل جرم سماوي سرعة إفلات خاصة به لا تتغير، وتعتمد على كتلته فقط، فالقمر مثلا سرعة الإفلات من جاذبيته تساوي 2.38 كيلومتر/ثانية، وهو أقل خمس مرات من سرعة الإفلات على سطح الأرض، لذا سنحتاج إلى وقود (قوة دفع) أقل بكثير للتحرر من جاذبية القمر.

ولعلّ نص القانون الثالث يخدع في ظاهره آلية عمله، وهو ما أوقع صحيفة “نيويورك تايمز” في سوء الفهم قبل قرن ظنا منها أن القوة التي تدفع الصاروخ إلى الأعلى بحاجة إلى سطح للارتداد أو إلى هواء لكي تعمل، وبهذا يبطل مفعول الصاروخ في الفراغ[4].

لكن الحقيقة أن قوة الدفع في الصواريخ لا تعتمد على المحيط الخارجي، وإنما هي عملية داخلية يمكن تشبيهها ببالون أطفال ممتلئ بالهواء أو أي غاز آخر، ولحظة تفريغه فإنّ البالون سيبدأ بالحركة نظرا للقوة الناجمة من طرد تلك الغازات، وكذلك الأمر في الصواريخ، وعلى العكس تماما فالصواريخ تعمل بكفاءة أعلى في الفراغ بسبب انعدام الاحتكاك بالهواء.

“هذه خطوة واحدة صغيرة لإنسان، لكنها قفزة عملاقة للبشرية”

“إننا نختار الذهاب إلى القمر”. هكذا عُنون خطاب رئيس الولايات المتحدة “جون كينيدي” في كلمته التي ألقاها في جامعة “رايس” (Rice University) أمام جماهير غفيرة في عام 1962.

 

وبعد ذلك بسبع سنوات أتمت وكالة الفضاء الأمريكية ناسا أول صعود إلى القمر ضمن برنامجها “أبولو” (Apollo) في يوم 20 يوليو/تموز من عام 1969. لقد كان ذلك بعد الظهيرة بتوقيت الأرض حينما حلقت المركبة الفضائية “أبولو 11” فوق سطح القمر على ارتفاع 100 كيلومتر، ثم قام رائدا الفضاء “نيل أرمسترونغ” و”باز ألدرين” بتوديع زميلهما “مايكل كولينز” الذي بقي في المركبة المدارية وحيدا يدور حول القمر، بينما هبط الرائدان بمركبة خاصة للهبوط على سطح القمر وتدعى “إيجل” (Eagle).

وبعد لحظات قصيرة أصبح “أرمسترونغ” صاحب أول خطوة بشرية على سطح القمر وقال حينها: هذه خطوة واحدة صغيرة لإنسان، لكنها قفزة عملاقة للبشرية[5].

وبقي هو وزميله على سطح القمر لمدة 21 ساعة ونصفا، في حين كان زميلهما الآخر يحلق من فوقهم وقد دار حول القمر 14 مرة في هذه المدة[6].

“كنت سأعود إلى الأرض لوحدي”.. 18 رجلا على القمر

بينما كان “نيل آرمسترونغ” و”باز ألدرين” على سطح القمر بقي زميلهما “كولينز” في مركبته وحيدا لحين من الزمن، وعلى الرغم من الساعات الطويلة من التدرب على هذه الرحلة وعلى محاكاتها مرات كثيرة على مدار 6 أشهر، فإن “كولينز” لم يستطع أن يخفي قلقه طيلة ذلك الوقت، فبعد خمسين عاما من ذلك الهبوط البشري الأول على سطح القمر، ما زال يتحدث عن الأفكار التي راودته وعن إمكانية عودته إلى كوكب الأرض دون رفقة زميليه “نيل” و”باز”.

مركبة إيغل التي هبطت بآرمسترونغ وألدرين على سطح القمر سنة 1969

في حديث مصور، يقول “كولينز” في مقابلة على قناة بي بي سي” إن أمرا ما كان يقلقه، فقد “كان لجميع المعدات والتجهيزات بدائل احتياطية سوى المحرك الموجود في المركبة التي هبطت على سطح القمر، فإن حدث أي عطب أو خلل، فلن يكون بمقدورهما العودة إلي ثمّ العودة إلى الأرض سوية، وبالطبع حينها لن أقوم بالانتحار، وكنت سأعود إلى الأرض لوحدي”[7].

لكن لحسن حظهما لم يحدث ذلك، فقد عاد طاقم مركبة أبولو 11 إلى كوكب الأرض، واتبعتهم 5 رحلات أخريات بنفس الطاقم العددي، ليصبح العدد الإجمالي للذين صعدوا إلى القمر 18 رائدا في ست رحلات هي أبولو 11 و12 و14 و15 و16 و17، وقد فشلت رحلة أبولو 13، ومن بين هؤلاء جميعا 12 رائد فضاء فقط مشوا على سطح القمر بين عامي 1969 و1972.

“أرتيميس”.. رحلة المرأة الأولى إلى القمر

أخيرا وبعد سنوات طويلة أعلنت وكالة الفضاء “ناسا” عن مشروعها القادم الجديد للعودة إلى القمر ببرنامج “أرتيميس” (Artemis) الفضائي بحلول سنة 2023، وسيشمل المشروع إرسال أول امرأة رائدة فضاء إلى القمر برفقة رواد آخرين سنة 2025، وسيضم أحدث التقنيات المبتكرة للتنقيب عن معادن القمر، وللبحث عن إمكانية الاستفادة من الماء المتجمد على سطحه.

لماذا يريد الأمريكان العودة إلى القمر بعد أكثر من خمسين عاما من هجرانه؟

ويهدف مشروع “أرتيميس” إلى تأسيس قاعدة بيانات ضخمة ونموذج مصغّر للمهمة التالية الأضخم، وهي الذهاب نحو الكوكب الأحمر المريخ مستقبلا.

لقد وقع الاختيار على اسم “أرتيميس” لكونها توأم “أبولو” في الحضارة اليونانية القديمة، وهما آلهتا القمر كما تقول الأسطورة، لذلك ستصعد على متنها أول امرأة في تاريخ البشرية[8].

فهل يا ترى سنشهد مشروع “آريز” (Ares) عن قريب؟ وهو الذي يعد إله كوكب المريخ كما في الأسطورة نفسها.

 

المصادر:

[1] جرونتمان، مايك (2004). حريق في الطريق: تاريخ الحقبة الأولى للمركبات الفضائية والصواريخ. فرجينيا، المعهد الأمريكي للملاحة الجوية والفضائية. ص117

[2] لوسي، روجرز (2008). إنه علم الصواريخ وحسب: مقدمة بلغة علمية بسيطة. نيويورك، سبرينغر. ص25

[3] بيرن، مايكل (2015). تهكم صحيفة نيويورك تايمز سنة 1920 مازال مثيرًا للسخرية. تم الاسترداد من: vice.com

[4] أساسيات الرحلات الفضاء. القسم الأول: البيئة، الفصل الثالث: الجاذبية والميكانيكا. تم الاسترداد من: solarsystem.nasa.gov

[5] وولتشوفر، ناتالي (2012). “خطوة صغيرة لرجل”: هل تم اقتباس نيل أرمسترونج خطأ؟ متى الاسترداد من: space.com

[6] هواجموت، توم (2019). أبولو 11: مهمة خارج نطاق السيطرة. القصة الخفية لكيفية نضال نيل أرمسترونج وباز ألدرين من أجل الهبوط على سطح القمر، بينما استمر الكمبيوتر التوجيهي في الانهيار. مرة تلو الأخرى. تم الاسترداد من: wired.com

[7] بي بي سي هاردتوك (2019). مايكل كولينز، رائد فضاء أبولو 11. تم الاسترداد من: youtube.com

[8] دنبار، براين (2019). ما هو أرتميس؟ تم الاسترداد من: nasa.gov