“حروب البسكويت”.. عثرات وانتصارات في منافسة قطبي الصناعة الأمريكية

تُصنع أكثر من ألف حبة “أوريو” كل ثانية، وهو ما يشكل قلب شركة “البسكويت الوطنية” المعروفة بـ”نابيسكو”، وهي إمبراطورية البسكويت ورقائقه، وتقدر قيمتها بـ15 مليار دولار.

لكن رقائق البسكويت قبل قرن فقط كانت تُباع في براميل قذرة، ففي ذلك الوقت كانت رقائق البسكويت تفسد، وكثيرا ما كانت تظهر الأمراض التي تسببها، ولم يكن هناك البسكويت المغلف، وكان أبناء الأسر الغنية هم وحدهم من يتناولون البسكويت.

حتى جاء أخوان وانضم إليهما ريادي طموح وصنعوا منتجات البسكويت ورقائقه، وأطلقوا ثورة غيّرت المشهد في قطاع الطعام إلى الأبد، لكن الخيانة مزقت الشركة، وأدت المنافسة الشرسة بينهم إلى أعظم الابتكارات في قطاع الطعام الأمريكي، وأحدثت ثورة في عالم السلع المغلفة، وبسبب طعنة أخيرة في الظهر ظهر البسكويت الأشهر على الإطلاق، ألا وهو “الأوريو”.

يكشف الفيلم الوثائقي “حروب البسكويت” الذي عرضته الجزيرة الوثائقية ضمن سلسلة “أطعمة غيرت العالم” المسار التاريخي لتطور صناعة البسكويت ورقائقه في أمريكا، وتأسيس أكبر شركتين في العالم يعملان في هذا القطاع، ناهيك عن كواليس ظهور بسكويت “أوريو” محبوب الأجيال منذ أكثر من 100 عام.

عصر الثورة الصناعية.. حقبة جديدة من المنتجات الغذائية

أدت الثورة الصناعية في تسعينيات القرن الـ19 إلى دخول إنتاج الطعام في أمريكا حقبة جديدة وحديثة. وتقول المؤرخة المختصة في مجال الطهي “جيسيكا هاريس” إن قطاع الطعام سار منذ بداية القرن الـ20 مع ما حدث في مجال التصنيع، إذ أصبحت الزراعة قطاع أعمال، فسواء اشترينا زجاجة “كاتشاب” في نيويورك أو غرب الولايات المتحدة، فسنحصل على السلعة نفسها.

ويقول الدكتور أستاذ التاريخ في جامعة سانت توماس “يوهورو ويليامز”: القدرة على إيجاد منتجات متشابهة من شرق البلاد إلى غربها ساهمت في خلق اقتصاد وطني وهوية وطنية جديدة.

وبسبب الإنتاج بكميات ضخمة، أصبحت منتجات­­ مثل “كامبل” و”كوكاكولا” من العلامات التجارية الوطنية الأولى، لكن قطاع المخبوزات تخلف عن الركب، وعمل على المستوى المحلي فقط بمنتجات وُصفت بأنها غير جديرة بالثقة.

وتقول المؤرخة “ليبي أوكونيل”: كان نطاق عمل المخابز ضيقا، وكل المنتجات طازجة دائما، فحتى لو كان الخبز شهيا فكيف يمكن بيعه للمستهلكين خارج نطاق عمل المخبز وإبقاؤه بحالة جيدة في الوقت نفسه، فالمخبوزات كانت تنقل بعربة يجرها حصان، وكان النظام برمته مبنيا على قرب الوجهات.

الحلويات مثل البسكويت والكعك كانت رفاهية لا يعرفها سوى الأغنياء

وكان البسكويت من أشهر المخبوزات وقتها، واعتمد الناس عليه لقرون لكونه مصدرا رخيصا وموثوقا للسعرات الحرارية. والبسكويت في ذلك الوقت هو ما نسميه اليوم رقائق البسكويت، ويعتبر من أقدم أشكال الغذاء التي صنعها البشر، إذ تشير البيانات إلى أنه يُصنع منذ عام 1100، وكانت المخابز في ذلك الوقت مختلفة تماما عما هو موجود اليوم، فلم يكن فيها غير أرغفة الخبز ورقائق بسكويت الصودا، وكانت الحلويات مثل البسكويت والكعك رفاهية لا يعرفها سوى الأغنياء.

“الأخوان لوس”.. تكتل مقتبس عن أحد أغنى أثرياء التاريخ

أدار الأخوان “جيكوب” و”جوزيف لوس” مخبزا محليا، وأنفقا مدخرات حياتهما على المخبز الذي تديره عائلتهما، واهتما كثيرا بمجال البسكويت، وكان عندهما وصفات وأفكار رائعة. وعن الأخوين الرياديين تقول الكاتبة “ستيلا باركس” إن “جيكوب” دخل مجال المخبوزات بنفسه، ويدل هذا على استمتاعه بالعمل، فقد رأى فيه فرصة للنمو، أما “جوزيف” فكان شريكا، وحماسه كان أقل من حماس أخيه، كما أن شخصيته لم تكن قوية، وكان خاضعا لأخيه، وبدأ “جيكوب” بتنفيذ خطة جريئة وإستراتيجية لم يسمع بها قطاع الأغذية من قبل، وتُدعى التكتل.

يشرح راشد حسن الخبير في كلية الأعمال بجامعة جورج مايسون مفهوم التكتل قائلا: المبدأ الأساسي فيه هو وجود كثير من الشركات التجارية تحت مظلة واحدة، وتحقق كل واحدة منها ربحا، ويمكن أن ينمو التكتل بسرعة كبيرة.

وقد استلهم “جيكوب لوس” فكرة التكتل من “روندي جو كافيلر” الذي وحّد عام 1870 عددا من مصافي النفط المتنافسة لينشئ شركة “ستاندرد أويل”، وأصبح من أغنى الرجال عبر التاريخ، حيث بلغت ثروته ما يقدر اليوم بـ420 مليار دولار، وقد قلده آخرون في قطاعي السكك الحديدية والفولاذ. ورأى “جيكوب لويس” فرصة لتطبيق هذه الإستراتيجية في قطاع الغذاء.

تشير الكاتبة “ستيلا باركس” إلى أن “جيكوب” طمح لتوحيد كل تلك المخابز تحت مظلة واحدة، ولم يتعلق الأمر بإنهاء المنافسة بقدر ما تعلق بتسخير القوة الشرائية التي تمكنهم من شراء كميات كبيرة من القمح، أو التعاقد المباشر مع المزارعين.

الأخوان جيكوب وجوزيف لوس اللذان سعيا إلى توحيد كل المخابز تحت مظلة واحدة

لهذا ذهب الأخوان إلى مكتب محام يُدعى “أدولفز غرين”، وكان قد درس في جامعة هارفارد، وانخرط بكثير من الدعاوى لأنها كانت اختصاصه، وكان محاميا فريدا يهتم كثيرا بقطاع الأعمال، لكنه لم يعرف الكثير عن قطاع الغذاء. وأراد الأخوان “لويس” منه الإشراف على عملية دمج كل المخابز وتوحيدها، وأن يضمن لهما القيام بكل شيء بطريقة قانونية وممتازة.

وبعد أن وافق “أدولفز غرين” على تعيينه ممثلا قانونيا للأخوين لويس، جاب الغرب الأوسط الأمريكي لإقناع مخابز المتنافسين لتوحيد صفوفهم.

“حروب البسكويت”.. منافسة شرسة للمخابز الأمريكية

تقول المؤرخة “ليبي أوكونيل”: في القرن الـ19 لم يكن الخبازون يحبون المنافسة، لأن المجال كان ضعيفا اقتصاديا، واعتبروه عملا تجاريا عائليا صغيرا لا يستطيعون فيه الوصول إلى المستهلكين على نطاق أوسع.

ورغم ذلك، استطاع “غرين” إقناع أكثر من 40 من أصحاب المخابز المستقلة بفوائد توحيد القوى لتتأسس شركة “البسكويت الأمريكية” عام 1890 بقيادة “جيكوب لويس”.

من جهته يقول الإعلامي ومقدم البرامج “آدم ريتشمان” إن شركة “البسكويت الأمريكية” منحت فرصا متكافئة، وقضت على المنافسة في الوقت نفسه، كما فرضت تغييرا جذريا.

بدأت أرباح الشركة التي أصبحت الأكبر في أمريكا ترتفع بشكل صاروخي، واستلهاما من نجاح الأخوين “لوس”، سرعان ما تأسس تكتل منافس جديد يضم 38 مخبزا جنوب البلاد، ثم نشأ تكتل آخر يضم 23 مخبزا على الساحل الشرقي، وشكل هذان التكتلان خطرا مباشرا على “الشركة الأمريكية للبسكويت”.

الإعلامي ومقدم البرامج “آدم ريتشمان” يقول  إن شركة “البسكويت الأمريكية” منحت فرصا متكافئة، وقضت على المنافسة في الوقت نفسه

ودخلت هذه التكتلات وفقا للكاتبة “باركس” في منافسة شرسة فيما بينها، وبدأت تبخس منتجات غيرها، لهذا أشبع السوق برقائق البسكويت الرخيصة جدا، وأسمت الصحف المحلية وقتها هذا الوضع “حروب البسكويت”. وأدت المنافسة الشرسة إلى انخفاض أسعار رقائق البسكويت بـ40 % فجأة، حتى أصبحت شركة “البسكويت الأمريكية” على حافة الإفلاس.

“البسكويت الوطنية”.. حلم ريادي لدمج التكتلات الثلاثة

بسبب هذه الظروف العصيبة مرض “جيكوب لوس” كثيرا، وتنحى عن منصبه في الشركة، واستلم أخوه الأكبر “جوزيف” رئاسة الشركة، ومع خروج “جيكوب” من المشهد وخروج 3 تكتلات إقليمية كل واحد يخفض أسعاره لجذب الزبائن وإخراج الآخر من المنافسة؛ استغل المحامي “أدولفز غرين” ضعفهم، وحاول صنع اسم لنفسه دون علم “الأخوين لوس”.

وفي اجتماع ضم رؤساء التكتلات سأل “أدولفز غرين” -وكان رياديا حقيقيا ومندفعا للغاية-: لماذا نحاول إضعاف بعضنا، وهذا يجعل أسعار منتجاتنا في الأرض؟ هذه ليست طريقة جيدة في إدارة العمل.

لهذا عرض المحامي “غرين” إنشاء تكتل جديد يدمج التكتلات الثلاثة لزيادة الأرباح تحت اسم شركة واحدة هي “البسكويت الوطنية” أو “نابيسكو”.

كان “غرين” يحلم بجعل “نابيسكو” أكبر شركة في تاريخ المخبوزات، ونصّب نفسه رئيسا للشركة، وأعاد تعريف الوجبات الأمريكية الخفيفة بشكل نهائي، وكان يسحب البساط رويدا رويدا من “الأخوين لوس”، الأمر الذي دفع “جوزيف” للاعتراض على تنصيب “غرين” نفسه رئيسا، لكن هذا الاعتراض لم يلق أي آذان صاغية من أعضاء مجلس الإدارة.

وفي الاجتماع نفسه تحدث “غرين” قائلا “كل من في القاعة سيحظى بمقعد في مجلس الإدارة، وأود ترشيح نفسي لرئيس مجلس الإدارة”. ولم يعجب الأمر “جوزيف”، غير أن “غرين” أكد له أنها فكرته، وصوّت عليها برفع الأيدي، ووافق الجميع على الفكرة، حتى “جوزيف” نفسه رفع يده بالموافقة.

شركة “نابيسكو” أو “البسكويت الوطنية” التي أسسها المحامي “أدولفز غرين”

وقبل أن يجف حبر الاتفاق خسر “جوزيف لوس” معركة رئاسة الشركة، وبات “أدولفز غرين” هو الآمر الناهي، ولم يعد جوزيف يلعب دورا رئيسيا في الشركة.

“أدولفز غرين”.. ذكاء المحامي الذي اختطف الشركة

مع إحكام “أدولفز غرين” قبضته أصبح عام 1898 رئيس “نابيسكو” أول تكتل للمخابز في الولايات المتحدة، وبات المحامي عديم الخبرة في المخبوزات يتحكم بمئات المخابز عبر البلاد. ويصف الإعلامي “ريتشمان” ما جرى بأنه “ضربة مدمرة للأخوين لوس، فقد حاولا مواجهة العملاق ثم تراجعا، فلم يكن أمامهما الكثير من الخيارات”.

قام “أدولفز غرين” بقطاع المخبوزات بما فعله “هاينز” مع الكاتشب، وكان أول أمر أصدره بوصفه رئيسا لـ”نابسكو” هو إيجاد منتج رئيسي يطلقه في جميع أنحاء البلاد. فقد كان رجل أعمال ورياديا ماهرا، ولم يفكر بالشركة على أنها مخبز، بل أراد إدخال قطاع المخبوزات في العصر الحديث وعصر الآلة.

اختار “غرين” رقائق بسكويت الصودا غير المميزة، فقد كانت بسيطة ولاقت استحسانا محليا، ودفع هذا المنتج المبيعات إلى التحليق، وجعلت “نابيسكو” رقائق الصودا متوفرة في كل مكان وكل منزل، وهو الأمر الذي لم يكن مسبوقا. ثم أمر فورا ثلث معامل “نابيسكو” لتحويل عمليات الإنتاج، وجعل مستقبل هذه الشركة معتمدا على رقائق البسكويت البسيطة هذه.

“الغلاف المحكم الداخلي”.. براءة اختراع تصنع ثورة السلع المُغلفة

لكي تكون شركة “غرين” الأولى تعيّن عليه إيجاد حل لمشكلة تكسر الرقائق وتلفها عند شحنها، لكن في تلك الحقبة كان حفظ المخبوزات شبه مستحيل، وكانت رقائق البسكويت تُباع في البراميل.

هذا الأمر دفع بـ”أدولفز غرين” لإنفاق مبلغ ضخم لصنع عبوات متينة مقاومة للرطوبة تُبقي رقائق البسكويت طازجة وسليمة من المصنع إلى يد المستهلك، ووجد أحد مساعدي “غرين” طريقة لإلصاق الورق المقوى (الكرتون) بالورق العادي، وكانت هذه الشرارة الأولى لبدء صناعة العبوات التي توضع فيها الرقائق.

كتاب عن “أدولفز غرين” الذي حصل على براءة اختراع لابتكار غير مسبوق أسماه “الغلاف المحكم الداخلي

حصل “غرين” عام 1890 على براءة اختراع لابتكار غير مسبوق أسماه “الغلاف المحكم الداخلي”، وذلك عبر لفّ ورق الشمع داخل الورق المقوى لمنع الرطوبة ودخول الهواء، لقد غيّر هذا الابتكار طريقة بيع الطعام في أمريكا، ومهّد الطريق لوجود صنف جديد من الأغذية في البقالات، وهو السلع المغلفة.

أحدث “الغلاف المحكم الداخلي” ثورة، وكان سابقا لعهده، ويظهر هذا أن ابتكارا واحدا بسيطا يمكن أن يغيّر قطاع الأغذية إلى لأبد. وباتت شركة “نابيسكو” متسلحة بكل شيء تحتاجه لتصبح العلامة التجارية الوطنية الأولى في عالم المخبوزات.

كل هذا يحدث و”الأخوان لوس” يتابعان ويتحسران، وخلال مرض “جيكوب” استحوذ شقيقه “جوزيف” على الحصة في شركة “نابيسكو”، لكنه انهزم في صراع السلطة مع “أدولفز غرين” تدريجيا، إذ لم يعد “الأخوان لوس” يلعبان دورا رئيسي في قطاع المخبوزات.

في غضون ذلك راهن “غرين” بكل شيء على التغليف المحكم الذي سيتيح بيع البسكويت المالح عبر طلب مليوني عبوة، لذا كان بحاجة لشعار يمثل رؤيته عن جميع منتجات “نابيسكو”.

“رقائق بسكويت الصودا”.. مغامرة تحدث خلخلة في الإدارة

قبل أن يتمكن “غرين” من إطلاق منتجه الجديد المغلف الجديد “رقائق بسكويت الصودا” كان يفترض به الحصول على تأييد مجلس الإدارة الكامل. غير أن “جوزيف لوس” قال خلال اجتماع مجلس الإدارة إن هذا المنتج مكلف، وسأل “غرين”: من المستهلكون المستهدفون، العائلات الثرية فقط؟ إذا بعت العبوة الحبة بخمس سنتات كما تقول سيتوقف عملنا خلال 6 أشهر.

وأقر “أدولفز” بأن هامش الربح سيكون قليلا، لهذا على شركة “نابيسكو” أن تبيع أطنانا منه لتجني الأرباح. وذهب “جوزيف لوس” أكثر من ذلك، وقال إنه بصفته عضوا في مجلس الإدارة، لا يرى أن هذا الرجل “غرين” يملك الخبرة أو الحكمة الكافيتين ليقود هذه الشركة، ودعا للتصويت بسحب الثقة وعزله من منصبه.

لم يوافق أحد على مقترح “جوزيف”، وخسر معركة الإطاحة بـ”غرين”، واستقال من منصبه في مجلس الإدارة، خاصة أن عالم الوجبات الخفيفة خضع لسيطرة “أدولفز غرين”، ولم يعد هناك أي دليل تقريبا على أن شركة “البسكويت الأمريكية” كان لها وجود.

وتقول الكاتبة “باركس”: استغرقوا وقتا هائلا لإنتاج هذا الابتكار الرائد المتمثل في عبقرية التغليف، وكان “أدولفز غرين” منغمسا جدا في هذه الفكرة، لدرجة أنه اعتبر الشركة ملكه وليست تكتلا.

لم يكن لدى “جوزيف” ميل لقطاع الأعمال، فهو ليس على دراية كبيرة بهذا العالم السفاح، لكن كان عليه فعل أي شيء ليتحدى هيمنة “أدولفز غرين”.

“الأخوان لوس”.. انتقام بنكهة الكوكيز الهولندي

بعد التعرض لغدر “أدولفز غرين” للمرة الثانية أقسم الأخوان “لوس” فورا على الانتقام، ومع تعافي “جيكوب” من مرضه أخيرا، أنفقا كل أموالهما على تأسيس شركة جديدة أسماها “صن شاين بسكيتس”، ويدل هذا –بحسب الكاتبة “باركس”- على قدر كبير من الطموح والرغبة والاندفاع، واستعان الأخوان بمهارتهما في الخبز لمواجهة “نابيسكو”.

وبدلا من افتتاح شركتهما عبر إطلاق رقائق بسكويت جديدة، عزم الأخوان على الدخول في المعركة بشيء غير موجود أصلا لدى “نابيسكو”، وهو “الكوكيز”. وعن هذا المنتج تقول المؤرخة “ليبي أوكونيل”: قدم الهولنديون إلى نيويورك عام 1910، وأحضروا معهم كلمة “كوكيز”، وقبل ذلك كان الأمريكيون يسمونها الكعكة المحلاة، ولم يكن شيئا يأكله الناس كل يوم باستثناء الأسر الغنية. لقد جربا وصفات كثيرة لإيجاد وصفة يستطيعان اتباعها لإنتاج منتج لذيذ وسعره مقبول.

إعلان لشركة “صن شاين بسكيتس” التي أسسها كل من الأخوين جيكوب وجوزيف لوس

ويقول راشد حسن الخبير في كلية الأعمال في جامعة جورج مايسون: كانت لدى الرائدين فكرة، وكانا شغوفين بشيء ما، وأرادا المجازفة على المستويين المالي والشخصي لتحويل تلك الفكرة إلى منتج، أعتقد أنها فطرة البشر التي تدفع الجميع إلى الاستقلال وتسخير مهاراتهم وطموحاتهم.

ويرى الإعلامي “رايتشمان” أن الأخوين “لوس” صبرا وعانيا وادخرا، ثم أنفقا كل ذلك على حركة جريئة يؤمنان بها، وأقدما على مغامرة كبيرة ليغيرا قواعد اللعبة.

وبعد عدة محاولات فاشلة، رأى الأخوان أنهما قادران على الاستفادة من منتج جديد اجتاح البلاد وهو الشوكولاتة.

“الكوكيز المحشو بالشكولاتة”.. ثورة البسكويت في أمريكا

قبل قرابة 40 عاما من انتشار الكوكيز المحشو برقائق الشوكولاتة، اعتقد الأخوان “لوس” أنهما إذا استطاعا لم شمل الشوكولاتة بالحليب في وصفتهما فسيستطيعان إحداث ثورة بالبسكويت في أمريكا. واستخدما الكاكاو لصناعة نسخة حلوة من رقائق البسكويت، وزادوا كمية الكاكاو في العجينة كثيرا، وغيّر هذا كل شيء من حيث الطعم والقوام.

لكن الأخوين لم يرضهما البسكويت الحلو بطعم الشوكولاتة، واستلهما فكرة من طعام يعود لقرون لم يسبق أن ربطه أحد بالبسكويت، وهو الشطائر، فصنعا نسختهما الحلوة من هذا الطعام القديم الذي يرجع للقرون الوسطى، وأضافا طبقة من كريم الفانيل، ثم وضعا فوقها قطعة بسكويت شوكولاتة أخرى. وفي عام 1908 رأى الكوكيز المحشو النور.

الكوكيز المحشو بالشكولاتة أحدث ثورة في عالم البسكويت في أمريكا

يصف المؤلف “آدم تشاندلر” ظهور الكوكيز المحشو بأنها لحظة مهمة، ومثّل المنتج عملية الترقيع التي كانت تحدث في أميركا، خاصة عندما يريدون تقديم منتج فريد ويبدو مختلفا. لكن قبل أن تستطيع شركة “صن شاين بسكيتس” الناشئة إطلاق منتجها الجديد على المستوى الوطني، كان عليها تأسيس بنية أساسية مناسبة للإنتاج بكميات كبيرة.

“يونيدا”.. أول علامة تجارية معترف بها وطنيا

كان الأخوان “لوس” يعملان بينما لا يعلم “أدولفز غرين” بمنتجهما الفريد والجديد، وإضافة إلى شركته “نابيسكو” قام بإطلاق بسكويت “يونيدا” المغلف على مستوى البلاد، فجعل رقائق البسكويت الطازجة غذاء أساسيا للمرة الأولى في التاريخ.

خلال عام من إطلاق بسكويت “يونيدا” كانت “نابيسكو” تبيع 10 ملايين عبوة شهريا، وأصبحت أول علامة تجارية في قطاع المخبوزات معترف بها وطنيا. ولم يتوقف “أدولفز غرين” هنا، أو يركن على نجاحه وأرباحه الخرافية، بل أنفق 20 مليون دولار لإنشاء مصنع جديد متطور في مدينة نيويورك، ليضم أكبر عملية خبز وأكثرها فاعلية في البلاد.

وعن المصنع تقول المؤرخة “أوكونيل” إن مصنع “نابيسكو” في نيويورك احتوى على كل شيء حديث وسكك حديد تمتد حتى داخل المصنع، وهذا يدل على تطور التكنولوجيا في ذلك القطاع بالنسبة لتلك الفترة.

بسكويت “يونيدا” أصبح أول علامة تجارية في قطاع المخبوزات معترف بها وطنيا

واعتمادا على نجاح بسكويت “يونيدا”، استخدم “أدولفز غرين” مصنع “نابيسكو” الضخم للتوسع السريع، وأطلق 4 أنواع أخرى من المخبوزات المحبوبة محليا على نطاق وطني، وأغرق الأسواق ببعض أشهر المنتجات في التاريخ.

“صن شاين”.. رهان ضخم لكسر الشركة التي لا تقهر

أصبحت “نابيسكو” مثل مناديل “كلينيكس” بحسب الكاتب “ألكساندر سمولز”، وأصبحت اسم السلعة، فحتى لو صنع آخرون رقائق “ويفر بالفانيلا” سيبقى اسمها “نابيسكو ويفر بالفانيلا”. وارتفعت أسعار “نابيسكو” لما يساوي أكثر من 110 ملايين دولار، وبدا أن الشركة لا تقهر.

لم يستسلم “الأخوان لوس”، فقررا مواجهة الشركة التي لا تقهر، وأنفقا كل سنت يملكانه على بناء مصنع أكبر ومتطور أكثر في منطقة مصنع “نابيسكو” نفسها. ودخلت “صن شاين” الحرب، وكانت مساحة المصنع الذي بنته أكثر من 46 ألف متر مربع مكون من 10 طوابق، وبتكلفة مليوني دولار، ووظفت آلاف العمال، وكان الهدف أن يكون ندا لـ”نابيسكو”، بحسب الكاتبة “باركس”.

مصنع “صن شاين” الذي بني على مساحة أكثر من 46 ألف متر مربع، وهو مكون من 10 طوابق، وبتكلفة مليوني دولار

وعام 1912 وبفضل مصنعهما المتطور الذي أصبح يعمل بطاقته الكاملة، استعد الأخوان لإطلاق الكوكيز المحشو على الساحة الوطنية، لكنهما كانا يترقبان رد فعل الناس.

أتقن جيكوب وجوزيف وصفة لأول كوكيز محشو على الإطلاق، وكانا عازمين على التفوق على “أدولفز غرين” وشركته “نابيسكو”، وأن تصبح شركتهما أكبر شركة مخبوزات في أمريكا.

“هيدروكس”.. منتج فريد يكتسح السوق ويهز المنافسين

أطلق الأخوان “لوس” على المنتج الفريد الجديد اسم “هيدروكس”، وهذا الاسم بحسب “راتشمان” يدل على النقاوة، فقد جمع بين “الهيدروجين والأوكسجين”، أي العنصرين اللذين يشكلان الماء، لكن الاسم “لا يناسب بسكويتا لذيذا، بل مسحوق تنظيف، أو كوكبا في المجموعة النجمية في حرب النجوم”.

جعل “الأخوان لوس” مصنعهما يعمل بطاقته التشغيلية الكاملة، وأطلقا منتج “هيدروكس”، وأغرقا البلاد بهذا النوع من الحلويات الذي لا يشبه أي شيء أنتج قبله، وحقق نجاحا ساحقا على الفور. واستطاعت بذلك شركة “صن شاين” دخول السوق بقوة وفعالية كبيرة، وحققت أرباحا بنحو 12 مليون دولار، وكان أداؤها مذهلا في ذلك الوقت.

وفي عام 1912 كان يعتقد أن شركة “نابيسكو” ستعاني من الركود، وبدأ المساهمون فيها يطرحون إمكانية بيع حصصهم فيها وشراء حصص في شركة “صن شاين”. وإذا كان المنافس الأول لـ”نابيسكو” يبيع بسكويتا محشوا بالفانيلا والشوكولاتة، فعليها فعل الأمر نفسه.

المنتج الفريد “هيدروكس” الذي أطلقه الأخوان “لوس”

كان “غرين” معروفا بكرهه للمنافسة، فالأمر بالنسبة له لا يتعلق بالتعايش السلمي، بل بالهيمنة الكاملة على السوق، لذا بدأ العمل على وصفة لنسخة “نابيسكو” من البسكويت المحشو التي يمكن أن تنافس “هيدروكس”.

وكانت لدى “غرين” ورقة رابحة وخطة جريئة لتوحيد القوى مع أحد أقوى الأسماء في قطاع الغذاء الأمريكي. فقد عزم على صنع منتج مثالي ينافس بسكويت “هيدروكس” غير المسبوق، وبات في جعبته سلاح سري تمثل في التواصل مع “ميلتون هيرشي” (قطب الشوكولاتة الأمريكي).

“أوريو”.. شراكة تقلب وجه التاريخ إلى الأبد

أنتجت الشراكة بين “غرين” و”هيرشي” بسكويت “أوريو” عام 1912، وأطلقت “نابيسكو” هذا البسكويت، ورافقه حملة إعلامية ضخمة اجتاحت البلاد. يقول الإعلامي “ريتشمان” إن “أوريو” ليس له مثيل، وهذا البسكويت الذي ظهر قبل الحرب العالمية الأولى والكساد الكبير، والذي يشارك في حملاته التسويقية الآن الجميع؛ لن يتغير أبدا، وهذا أمر مذهل حقا.

خلال عام، فاقت مبيعات “أوريو” مبيعات “هيدروكس”، فغضب الأخوان “لوس” كثيرا، فمساهمة “هيرشي” في بسكويت “أوريو” جعلته ألذ وأكثف وأغنى من منتجهما، وضربة مزدوجة في عالم ابتكار الطعام الأمريكي.

بقي بسكويت “هيدروكس” على الرفوف نحو 100 عام، وخلال هذه الفترة أخفق في استعادة الصدارة من بسكويت “أوريو”.

ويقول “ريتشمان”: حتى وقتنا الحالي، إن سألنا الناس أيهما ظهر أولا، “هيدروكس” أو “أوريو”، فلا أعلم إن كان هناك كثير من الناس يعلمون بوجود “هيدروكس” من الأساس، وفوق كل هذا فشهرة أوريو في العالم كله، وسيعتقد الناس أن أوريو ظهر أولا.

بسكويت “أوريو” الذي انتشر في الأسواق نتيجة شركة أنتجت بين “غرين” و”هيرشي”

في النهاية أطلقت شركة “صن شاين بسكيتس” عدة وجبات خفيفة محبوبة حققت مبيعات ممتازة، وباعت 75 مليار عبوة من رقائق البسكويت سنويا، لكن العلامات التجارية الستين لشركة “نابيسكو” حددت المعيار في عالم الوجبات الخفيفة، وتبلغ نسبة مبيعات بسكويت “أوريو” الأشهر في العالم 10% من مبيعات البسكويت في المتاجر.

وتلخص الكاتبة “باركس” كل ما سبق قائلة: بات “أوريو” جزءا أساسيا من طفولتنا وذاكرتنا بغض النظر عن مكاننا في البلاد، وسواء كنا أغنياء أم فقراء، فالكل يحب بسكويت “أوريو” الذي نال حقا إعجاب الناس في كل أنحاء أمريكا، وأثبت أنه (أيقونة أمريكية).

كانت تلك معارك شرسة خيضت لإنتاج البسكويت الأكثر مبيعا على الكوكب، إذ تصنع منه 40 مليار عبوة منه سنويا.