غزو القمر.. صندوق الكنوز وحافظة التاريخ ومختبر التجارب

في الثالث والعشرين من أغسطس/آب 2023 أعلنت منظمة أبحاث الفضاء الهندية نجاحها لأول مرة في الهبوط بالقرب من القطب الجنوبي للقمر، في سابقة تجعل الهند واحدة من أربع دول فقط خطت مراكبها إلى سطح القمر، مع الاتحاد السوفياتي (السابق) والولايات المتحدة الأمريكية والصين.

وتكونت تلك المهمة التي سُميت “تشاندريان-3” من مركبة مدارية تتخذ مدارا حول القمر على ارتفاع 100 كيلومتر منه، ومركبة هبوط على القمر تسمى “فيكرام” ومركبة جوالة هي “براجيان”. وقد تجولت “براجيان” على سطح القمر لمدة حوالي نصف يوم قمري واحد فقط، وهو ما يساوي حوالي 14 يوما أرضيا منذ هبوطها، ودرست تربة القمر في تلك المنطقة.

رحلات القمر.. سباق الدول العظمى إلى جارنا الفاتن

ليست الهند الدولة الوحيدة التي حاولت الوصول بمركبة إلى القمر في 2023، فقد حاول الروس كذلك إرسال مهمة جديدة للقمر بعد أكثر من نصف قرن من نجاح الاتحاد السوفياتي في إنزال آخر مركبة فضاء له على القمر (لونا 24) سنة 1976.

فقد انطلقت المهمة الجديدة “لونا 25” إلى القمر يوم 19 أغسطس/ آب 2023، ولكن أثناء انتقال المركبة القمرية إلى مدار ما قبل الهبوط، حصل خطأ تقني ذو علاقة بالمحركات، مما أدى إلى فشل مناورة الهبوط وفقدان الاتصال بالمركبة، وأعلن فشلها في اليوم التالي.

وبالتأكيد فإن الولايات المتحدة الأمريكية لا تسعى للهبوط على القمر بمركبة جوالة فحسب، بل بأقدام رواد الفضاء أيضا، عبر مشروع “أرتميس” الضخم والذي نجحت أولى مراحله (أرتميس1) في نوفمبر/تشرين ثاني 2022، وستنطلق المرحلة الثانية في عام 2024، والثالثة نهاية عام 2025 أو بداية 2026.

“لونا-24” آخر مهمة روسية نجحت في 1976 بالهبوط على سطح القمر

وتهتم المرحلتان الأولى والثانية من المشروع باختبار القدرة على الوصول للقمر وتأدية المهام بنجاح، أما المهمة الثالثة فستكون رحلة الهبوط برواد الفضاء على القمر، وذلك للمرة الأولى منذ سبعينيات القرن الماضي.

لكن ربما، ومع تزاحم المهام خلال عام واحد تساءلت عن السبب في تلك المحاولات المضنية من دول كثيرة للوصول إلى القمر. والإجابة عن هذا السؤال، ترتبط بأربعة نطاقات كبرى تهتم تلك الدول بالاستثمار فيها؛ الأولى تتعلق بالصورة الجديدة التي كوّنها العلماء عن القمر خلال عدة عقود مضت، فلم يعد مجرد خواء مسكون بالتراب، بل بات زاخرا بالموارد التي يمكن أن تكون ثمينة بالنسبة لهم.

صندوق الكنوز.. أسرار الجانب المظلل من القمر

من الموارد التي يمتلئ بها سطح القمر الهيليوم-3، وهو نظير قيّم لعنصر الهيليوم، ويمكن استخدامه وقودا في مفاعلات الاندماج النووي، إذ يوجد الهيليوم-3 على القمر بكثافة، نتيجة تعرضه لقصف الرياح الشمسية أكثر من أربعة مليارات سنة، والأرض على الجانب الآخر محمية من هذا القصف، بسبب غلافها المغناطيسي القوي، لذا فإنها لا تملك كثيرا من هذه المادة على سطحها.

معادن وغازات نادرة يمتلكها القمر وتطمع بها الدول التي ترتاد الفضاء

والواقع أن العمل قائم حاليا لبناء معدات لاستخراج الهليوم-3 من التربة القمرية، ثم نقله للأرض، أو ربما استخدامه لبناء محطات توليد طاقة على سطح القمر، من أجل المهام المستقبلية لدول مثل الولايات المتحدة والصين.

وإحدى هذه التجارب -التي تعمل على بناء معدات تستخرج الهيليوم-3 القمري- قادمة من برنامج زمالة أبحاث تكنولوجيا الفضاء التابع لوكالة “ناسا”، وقد أوضح بيان للوكالة قبل عدة أعوام أن التقديرات تشير إلى وجود ما لا يقل عن مليون طن من الهيليوم-3 في تربة القمر، بحسب دراسات فحصت العينات القمرية التي أحضرت إلى الأرض، بواسطة المركبات التي يقودها الاتحاد السوفياتي السابق وبعثات “أبولو” التابعة لوكالة “ناسا”.

ويحتوي القمر أيضا على نسبة من العناصر الأرضية النادرة، وهي مجموعة من 17 عنصرا كيميائيا في الجدول الدوري مثل النيوديميوم واللانثانم والسيريوم، وتعد ضرورية لمختلف تطبيقات التكنولوجيا المتقدمة، بما في ذلك الإلكترونيات وتكنولوجيا المغانط وتقنيات الطاقة المتجددة، إلى جانب ذلك فالتربة القمرية تحتوي على معادن مختلفة مثل الحديد والألمنيوم والتيتانيوم والسيليكون. ويمكن استخراج هذه المعادن واستخدامها في مواد البناء أو عمليات التصنيع.

مستعمرات القمر، حلم الدول الكبرى للحصول على ثرواته القريبة نسبيا

كل هذا ولم نتحدث عن الاكتشافات الحديثة التي أثبتت وجود رواسب كبيرة من الجليد المائي في المناطق المظللة بشكل دائم بالقرب من قطبي القمر، إذ يمكن استخدام المياه للشرب وزراعة النباتات وإنتاج وقود الصواريخ، من خلال التحليل الكهربائي على سطح القمر. وفي الواقع فإن هذا -تحديدا- هو السبب في أن دول مثل الهند قررت بشكل خاص الاهتمامَ بالقطب الجنوبي للقمر في رحلتها الأولى.

جيولوجيا القمر.. كبسولة زمنية تحفظ التاريخ

يمكن أن توفر دراسةُ طبيعة القمر معلوماتٍ قيّمة عن كوكبنا الأرض، فهو يتكون من بقايا جرم بحجم المريخ يسمى “ثيا”، يُتصور أنه اصطدم بالأرض منذ حوالي 4.5 مليارات سنة، لذا فإن فهم تركيب القمر يوفر فهما لتركيب الأرض في مرحلة مبكرة من عمرها.

لا سيما أن سطح القمر يمثل ما يشبه الكبسولة الزمنية، فما زال محتفظا بكل حفرة في تاريخه، وبالشكل الذي حدثت به تلك الحفر دون تغير، مما يوفر سجلا لأحداث حصلت منذ مليارات السنين، على عكس الأرض، فسطحها متقلب باستمرار، ويعاد تشكيله بفعل الصفائح التكتونية وعوامل التآكل وغيرها من المؤثرات.

ليس بعيدا عن الأرض، يمكن لرواد الفضاء أن يزوروا القمر وينقبوا عن ثرواته

أضف إلى ذلك أن القمر يساعد العلماء في فهم الزلازل، إذ تستمر الزلازل على الأرض مدة نصف دقيقة فقط في المتوسط، بينما تستمر الزلازل القمرية الضحلة مدة 10 دقائق على الأقل، وبجانب ذلك فإن العلماء يعرفون أن القمر احتوى قديما على نشاط بركاني واسع، وهو ما شكّل ما نعرفه الآن باسم البحار القمرية، ونظرا لأن الأدلة على النشاط البركاني القمري محفوظة جيدا، فيمكن لدراسة كيفية تغير النشاط البركاني عبر الزمن وتحت ظروف مختلفة أن تساهم في تحسين فهم العلماء للعمليات البركانية على الأرض.

يتميز القمر بكثرة الفوهات النيزكية التي احتفظت بجيولوجيتها منذ تشكلت والتي يمكن دراسة تاريخ القمر من خلالها

ولا شك أن بعض الدول مثل الصين والولايات المتحدة الأمريكية لديها مشروعات طويلة الأمد، لجعل القمر محطة انطلاق مستقبلية للمهام الفضائية العميقة، ولا سيما استكشاف المريخ، وفي الواقع فإن نظام الإطلاق الصاروخي (إس إل إس) وكبسولة رواد الفضاء المسماة “أوريون” في مهمات “أرتميس” الأمريكية مجهزة بالأساس لتحمّل رحلات مستقبلية للمريخ.

مختبر التجارب.. ساحة لاختبار التقنيات الفضائية

إن الهبوط على القمر في حد ذاته هو وسيلة -بالنسبة لعدد من الدول- لاختبار تقنيات فضائية جديدة. ولنتأمل مثلا المهمة القمرية اليابانية “سليم” التي أرسلتها اليابان إلى القمر خلال الأسبوع الأول من سبتمبر/ أيلول 2023، إذ تهدف إلى اختبار تقنية جديدة، وتعتزم الهبوط في محيط دائرة قطرها 100 متر فقط، والاستقرار على سطح القمر لمدة 20 دقيقة، وهو اختبار يهدف إلى تأكيد دقة التقنيات المستخدمة.

ولهذا السبب تحديدا فإن المهمة لها اسم آخر أعلنته وكالة استكشاف الفضاء اليابانية وهو “القناص”، لأن المركبة تستهدف تحقيق إنزال دقيق جدا لمركبة خفيفة، فنجاح هذه التقنيات سيفتح الباب لتطوير كبير في المستقبل لكل الرحلات القمرية بشكل عام.

في سبتمبر/أيلول 2023، نجحت الهند في الهبوط على سطح القمر بمركبتها “تشاندريان-3”

هذا النجاح يعد -إن تحقق- نجاحا في سوق العمل المختص بالمهام الفضائية، وهو حاليا سوق رائج جدا، فكل دول العالم تقريبا لها أهداف تتعلق بمهام فضائية مستقبلية، ليس أقلها الأقمار الصناعية التي تخدم كل النطاقات تقريبا، بداية من الزراعة وتخطيط المدن، وصولا إلى الاستخبارات والأغراض العسكرية الأخرى.

وتستفيد دول مثل الهند تحديدا من تلك النقطة، فوصولها للقمر يعني بالنسبة لعملائها أنها دولة قادرة على بناء وإطلاق مهام رخيصة إلى الفضاء، وفي الواقع فإن تكلفة رحلة القمر (تشاندريان-3) بلغت فقط 75 مليون دولار.

برنامج الفضاء الهندي.. رحلات رخيصة التكلفة إلى السماء

من اللحظة الأولى التي انطلق فيها برنامج الفضاء الهندي في الستينيات من القرن الفائت، كانت لديه سياسة قائمة على قاعدتين: الأولى هي استغلال القدرات الإبداعية للعقول الهندية في توفير أكبر قدر ممكن من النقود، والثانية هي الزج بالهند قوةً اقتصادية فضائية.

ففي سنة 2014 أرسلت الهند مسبارا للمريخ، وكانت أول دولة في العالم تنجح في هذه المهمة من أول مرة، وبتكلفة رخيصة جدا لا تتجاوز حوالي 73 مليون دولار. وفي سنة 2017 أطلقت 104 أقمار صناعية دفعةً واحدة بتكلفة هي الأرخص على الإطلاق في هذا النطاق. وفي سبتمبر/ أيلول 2023 أطلقت أولى مهامها للشمس “أديتيا إل-1″، وتهدف إلى دراسة العمليات الفيزيائية والكيميائية التي تحدث بين الطبقات المتعددة للشمس، والتي تؤدي في النهاية للانفجارات الشمسية.

ويؤثر ذلك بشكل كبير في تطوير فهم العلماء لطقس الفضاء (أثر الشمس على الأرض)، وهو ما يعد ضروريا حاليا مع تصاعد أعداد الأقمار الصناعية بالفضاء، إذ يمكن لبعض الانفجارات الشمسية أن تعطل الأقمار الصناعية ومحطات الطاقة على الأرض عن العمل، مما قد يتسبب في أضرار جمة، ليس أقلها انقطاع الاتصالات.

سباق التفوق التكنولوجي.. قوة ناعمة بأيادي الساسة

إلى جانب ذلك كله، فإن هناك جانبا سياسيا لهذه النوعية من المهام، فمثلا يعد نجاحُ المهام الفضائية لدول مثل الهند أو اليابان أو كوريا الجنوبية فرصةً للتعاون المكثف مع الولايات المتحدة أو الصين أو أي من دول الاتحاد الأوروبي، عبر وكالة الفضاء الأوروبية، وهذه التعاونات التي تعد علمية وتقنية بالأساس، يمكن أن تمتد لتصبح تعاونات سياسية واقتصادية.

مستعمرات قمرية مستقبلية تهدف لتعدين القمر والانطلاق منه نحو الكواكب

كل هذا ولم نتحدث عن الصراع السياسي القائم حاليا بين الولايات المتحدة ودول مثل الصين، ويتضمن الجانب الاقتصادي والعسكري، لكنه كذلك يمتلك جانبا يتعلق بالقوة الناعمة، فالتفوق التقني في نطاق الفضاء يمثل بالنسبة لبعض الدول فرصة لفرض السيطرة، دون الحاجة للتدخل العسكري أو الاقتصادي مثلا. وإلى جانب ذلك فإن التفوق في نطاقات علمية وتقنية دقيقة يجذب عددا من الحلفاء الراغبين في الحصول على خبراتك في تلك النطاقات.

ففي عام 2019، هبطت الصين على سطح القمر بمهمتها “تشانج آه 4″، لكنها آثرت أن تقوم بمهمة قمرية لم تحاولها أي دولة من قبل، وهي الهبوط على الجانب البعيد للقمر، وهو يعد واحدا من أفضل الأماكن في النظام الشمسي الداخلي للتطبيقات العلمية، مثل علم الفلك الراديوي.

لكن هذا النوع من المهمات كان دائما صعبا، لأن الجانب البعيد للقمر لا يواجِه الأرض أبدا، وسيتطلب ذلك قمرا صناعيا إضافيا، لنقل المعلومات من المركبة القمرية إلى المحطات الأرضية.

 

المصادر

1- Chandrayaan-3

https://www.isro.gov.in/Chandrayaan3.html

2- Russia’s first lunar mission in 47 years smashes into the moon in failure

https://www.reuters.com/business/aerospace-defense/russias-moon-mission-falters-after-problem-entering-pre-landing-orbit-2023-08-20/

3- Harnessing Power from the Moon

https://www.nasa.gov/feature/harnessing-power-from-the-moon

4- Explore – Science – Lunar Resources

https://lunarexploration.esa.int/explore/cience/224

5- Water & Ices on the Moon

https://moon.nasa.gov/inside-and-out/composition/water-and-ices/

6- 10 Things: What We Learn About Earth by Studying the Moon

https://solarsystem.nasa.gov/news/812/10-things-what-we-learn-about-earth-by-studying-the-moon/

7- The Moon, preserving Earth’s origin story

https://www.planetary.org/worlds/the-moon

8- Moon to Mars

https://www.nasa.gov/topics/moon-to-mars

9- Japan’s SLIM moon lander completes 1st critical phase in Earth orbit

https://www.space.com/japan-slim-moon-lander-completes-first-phase-earth-orbit

10- Four reasons India is going big on space

https://www.bbc.com/news/world-asia-india-40175268

11- Chang’e-4 and Yutu-2, China’s mission to the Moon’s farside

https://www.planetary.org/space-missions/change-4