“ملك الاستنساخ”.. الصعود إلى الهاوية

في صباح يوم الخامس من يوليو/ تموز من العام 1996، لم تخلُ الصحف العالمية من بيان معهد “روزالين” التابع لجامعة أدنبرا بأسكتلندا، يُفيد بنجاح أولى تجارب الاستنساخ الحيواني في التاريخ، وهي التجربة التي نتجت عنها النعجة “دولي”. خبر قد يبدو عابرا مع ما به من إثارة علمية، لكن موجات الترحيب وما قابلها من صيحات استهجان، أضافت أبعادا جديدة للقضية، ومنذ تلك الأثناء لم يعد العالم مألوفا كما كان.

فقد بدأت الجامعات والمعاهد العلمية -ولا سيما في الغرب- بالتسابق فيما بينها سعيا لتحقيق نجاحات أكبر في هذا المجال، وتتوالى الأخبار فيما بعد مُعلنة عن اكتشافات جديدة، ومن بين هذه الصراعات المُستترة والمُعلنة، تأتي أنباء مؤكدة من كوريا الجنوبية، زاعمة بتحقيقها طفرة حقيقية في العلوم الحيوية، والفضل يعود لشخص ما يُدعى “وو سوك هوانغ”.

تُرى من هذه الشخصية المثيرة التي خطفت أنظار العالم؟ وهل ما حققته بالفعل يندرج تحت بند الاكتشاف العلمي؟ أم أن هنالك خلفية أخرى لا ندري عنها شيئا؟

كل هذه الأسئلة وأكثر، يُجيب عنها الفيلم الوثائقي البريطاني “ملك الاستنساخ” أو (King of Clones) الذي أنتج عام 2023، وأخرجه وكتب له السيناريو المخرج “أديتيا تاي” الذي تشتهر أفلامه بموضوعاتها العلمية والتاريخية المثيرة للتأمل، وفي هذا الفيلم يستكمل مسيرته الإخراجية في البحث عن المضمون المُلتهب الذي يستحق الوقوف أمامه، ولا علم أكثر اشتعالا وإثارة للجدل من علم الاستنساخ.

فيلم “ملك الاستنساخ” يكشف قصة الطبيب الذي أذهل العالم بإنجازاته الطبية في مجال الاستنساخ

فالعلوم الحيوية وما يرافقها في هذه القائمة من علوم الاستنساخ مُغطاة بطبقة كثيفة من الغموض، سواء بسبب ما تملكه من فيض كافٍ من الانتقادات الأخلاقية المشروعة، أو بسبب رؤية الأديان والشرائع السماوية لهذا العلم المُفخخ بالمطبات، وهذه الرؤى المتناثرة والشائكة هي ما يتعرض له فيلمنا، وذلك بالتوازي مع رحلة صعود العالم الكوري “وو سوك هوانغ” التي تتماس بطريقة أو بأخرى مع هذا العلم المُبطن بالكثير من الأسرار.

“جميع الكلاب هنا مستنسخة”.. لقاء في المختبر

يبدأ الفيلم بمشهد نرى فيه عالم الخلايا الجذعية “وو سوك هوانغ” أثناء دخوله لمعمل الأبحاث الذي يُمارس فيه تجاربه العلمية، والكاميرا ترافقه، ثم يواجهها قائلا وهو يُشير للكلاب الموضوعة في أقفاصها “هذا مركز رعايتنا، فجميع الكلاب هنا مُستنسخة”.

ثم ينطلق التعليق الصوتي مُبديا اندهاشه من القدرة العلمية لهذا العالِم الكوري، وتستمر أصوات التعليق في التداخل تدريجيا، لتُفصح عن رؤية العالم لكوريا الجنوبية بعد الاكتشافات العلمية في المجال الحيوي، وما ستصبح عليه البلاد من قوة اقتصادية هائلة خلال مئة عام.

“وو سوك هوانغ” على أغلفة المجلات بعد سقوطه

ثم تتصاعد أصوات التعليق، مُستعينة بنشرات إخبارية تأتي خلالها أنباء عن الحكم على عالم الخلايا الجذعية الكوري بالسجن لمدة عام ونصف العام وغيرها من العقوبات، ثم تتوالى النشرات الإخبارية التي تحاول كشف حقيقة ما جرى لهذا العالِم، وهكذا اختار الفيلم أن تكون مقدمته تملك من عوامل الإثارة والترقب قدرا لا بأس به.

فالبداية مع الزمن الحاضر الذي يظهر فيه “وو سوك هوانغ” في عمره الحالي، في حين أن النشرات الإخبارية والمشاهد والفيديوهات الأرشيفية تُبرزه في زمن ماضٍ، وهكذا نلاحظ أن السرد في الفيلم يتأرجح بين الزمن الحاضر المضارع والزمن الماضي.

تأرجح الزمن.. مزاوجة سردية تكشف خبايا الشخصية

يعتمد الفيلم في نسيجه على تقنية التأرجح بين الأزمنة، وهي حيلة سردية تكشف أكثر عن الرجل، وتساهم في عقد مقارنة سريعة بين قصته في الماضي ومثيلتها في الحاضر، فاليوم -وهذا ما يكشف عنه الفيلم- يعمل العالِم الكوري في مركز الأبحاث الحيوية بأبو ظبي في الإمارات العربية المتحدة، ولديه صلاحيات واسعة تُمكنه من إجراء التجارب بحُريّة، مثلما نراه في أحد المشاهد أثناء إحدى سباقات الهجن، والمسؤول عنها يسأله كم عدد الجمال المُستنسخة في هذا السباق، فيجيب بفخر قائلا: حوالي 150 جملا.

“وو سوك هوانغ” يُحاضر في علوم الاستنساخ

عدد الجمال المُستنسخة في هذا السباق، فيجيب بفخر قائلا: حوالي 150 جملا.

أما في الزمن الماضي، فيرصد الفيلم ما كان عليه هذا العالِم من قوة ومجد، عبر المشاهد واللقاءات الأرشيفية المصورة معه، فقد ساهمت أبحاثه في حدوث طفرة علمية لا يُمكن إنكارها، وقد انتقل بكوريا الجنوبية من مسار البلاد النامية إلى صفوف الدول المتقدمة، فسُلطت عليه الأضواء، وأصبح أسيرها ونجمها الذي لا يخفت بريقه، خاصة بعد التصريحات الصحفية المنسوبة إليه فيما يتعلق بعلاج الأمراض العصية على الشفاء، مثل عودة القدرة على السير لمرضى الحوادث والأعصاب، وغيرهم ممن ينتظرون أي لمحة تُعينهم على تحمل آلامهم.

من هذا المنطلق تحول “وو سوك هوانغ” من محاضر وأكاديمي، لعالِم ينصت إليه أصحاب القرار، ولا يبخلون عليه بالدعم اللوجستي أو المالي، هذا بالإضافة لنطاق واسع من الصلاحيات والسلطات التي تُمكنه من ممارسة تجاربه بانسيابية لا تنقصها الجرأة العلمية.

ولأن النجومية السريعة مصيرها الهبوط السريع، فقد بُوغِت الشعب الكوري بخبر يوصف بالكارثي بحسب مراسلي وكالات الأنباء آنذاك، ألا وهو إلقاء القبض على طبيب الخلايا الجذعية الشهير وتقديمه للمحاكمة.

“لماذا لا يمكن استنساخ البشر؟”

يستكمل الفيلم سرد حكايته معتمدا على السير في خطين متوازيين، الحاضر والماضي، شذرة من هنا وأخرى من هناك، حتى تكتمل الصورة النهائية التي لن تتوافق صفوفها إلا بخط ثالث، يسير بشكل مُبطن فرعي مُغلف بالإثارة، بل يكاد يتفوق على باقي الخطوط في هذه الناحية، وهو كيفية السقوط، أو بمعنى أقرب للدقة: ماذا حدث لهذا الطبيب الشهير؟

هذا ما يطرحه الفيلم دون أن يكون معتمدا في بنائه على الروايات المتداولة والمصورة، بل إنه يعود بالذاكرة لوسائل الإعلام وكيفية تناولها للقصة، فالكاميرا هنا تصبح وثيقة تاريخية، تُسجل وقائع تستحق العودة إليها، مثل الأوراق والوثائق القديمة، فكلاهما لديه ذات القدرة والمرجعية.

“وو سوك هوانغ” في معمل الأبحاث وهو سعيد بإكتشافاته العلمية

فالسر يكمن في الرقم 16، فبعد تصاعد التجارب العلمية على استنساخ الحيوانات، طرأ سؤال بديهي، ألا وهو لماذا لا يُمكن استنساخ البشر؟ ولأن طموح “وو سوك هوانغ” لا حدود له، فقد لجأ لإجراء عدد من الاختبارات على عدد من المتطوعات –بحسب تصريحه- بلغ عددهن 16 امرأة.

نجاحات تثير حفيظة الإعلام.. بداية النبش

أثارت النجاحات المُعلنة حفيظة الوسائل الإعلامية، ثم بدأت النبش في مسيرة الرجل، وفي التشكيك في نتائج الأبحاث، لتبدأ رحلة بحث غامضة ومثيرة في نفس الآن، عما جرى خلف الأبواب المُغلقة، وتبدأ الصحف في التواصل مع المُتطوعات، وهنا يُكتشف أول الخيط، فيكشف أنه قد اشترى البويضات حتى يتسنى تلقيحها بالخلايا الحية، وذلك مقابل عائد مادي كبير.

نسج السيناريو ما حدث من بحث وتدقيق خلف هذه الأبحاث، مُستندا لعنصري التشويق والإثارة، وكأن ما نُشاهده فيلم بوليسي، وهو تداخل بين الوثائقي والدرامي له ما يُبرره تماما في هذه الحالة، فالمشاهد تنتقل في إيقاع سريع متدفق بين قاعات المحاكم والحوارات والمشاهد الصحفية، في اندماج تام بينها.

فنرى في أحد المشاهد طلب الطبيب للصفح والغفران، عن تدليسه وتحريفه للنتائج العلمية، فطبقا للقانون الكوري، تنتمي هذه الجريمة لقانون العقوبات، أي أنها تستدعي العقوبة. وفي المقابل تأتي مشاهد التظاهرات المُنددة بتقييد حريته وإيداعه السجن.

“وو سوك هوانغ” أثناء القبض عليه

وعندئذ نصل لمغزى الفيلم وتأويله، فالمعني هنا هو رحلة هذا العالِم، بدءا من صعوده المُتنامي، مرورا بتحقيقه للنجاحات المرموقة، وصولا لكيفية هبوطه الأقرب في هيئتها للأساطير القديمة، كما أنها مثل الحقيقة في امتلاكها أكثر من وجه.

“وو سوك هوانغ”.. مغناطيس الصعود إلى الهاوية

“تحول العالِم من إنسان صالح إلى آخر شرير”. بهذه الجملة التي بثتها وكالات الأنباء بعد فضيحة السقوط المُدوي لـ”وو سوك هوانغ” يُمكن بيان التبدل المفاجئ في شخصية الطبيب الشهير، أو بالمنطق الدرامي دوافع التغيير في الشخصية. فما الذي يجعل شخصية ما -تبدو في ظاهرها خيّرة- تنقلب فجأة للاتجاه المُعاكس؟

هذا السؤال الطارئ يُجيب عليه الفيلم بالتعمق في دوافع العلم ذاته، وتطبيقها على “وو سوك هوانغ”، فالعلم كالغريزة لديه هو الآخر شهوة لا تُخطئها العين، يُمكن أن يجرف تيارها مُريديها، دون أخذ أخلاقيات المهنة في الحسبان، فالرغبة المُندفعة للوصول للنتائج المعملية الجديدة والبحث عن المزيد منها، تبدو كالمغناطيس في قدرة جذبها، وهذا بالتحديد ما حدث مع عالِمنا، وهو سبب رئيسي في هبوطه للقاع، بعدما كان اسمه في يُحلق في الأعلى.

وهنا يتطرق الفيلم لقضية شائكة، وهي أخلاقيات العلم، ويطرح سؤالا مُباشرا، وهو هل يجب أن يتحلى العلم بالأخلاقيات الواجبة؟

أخلاقيات العلم.. لهاث خلف المجد يلوّث بريق التطور

تأتي الإجابة من أحد علماء الأخلاق، فيقول إنه يسعى لتعليم العلماء أخلاقيات العلم، إذن المُعضلة عامة، وقد خرجت من الحيز الخاص إلى المحيط الأوسع، وبالتالي إذا لم يفعل “هوانغ” ما فعله كان غيره سيؤديه بمنتهى السهولة واليسر، والحُجة هي خدمة العلم والإنسانية، لكن الوجود في حاجة للأخلاق أكثر من العلم، فما فائدة التقدم العلمي مع انخفاض منسوب الأخلاق؟

وهنا يحدث التبدل التدريجي للشخصية، من خادم للعلم إلى مُدلّس، ثم يسقط في الهوة العميقة للفساد، فأثناء السرد يكشف الفيلم عبر أحد مساعديه أن الطبيب قد أبدل النتائج بالفعل، بل وصل به الأمر إلى كتابة النتائج الجديدة المزيفة بخط يده.

العالم “وو سوك هوانغ” بعد تقديمه للعدالة ووكالات الأنباء تُحيط به

نحن إذن أمام شخصية درامية بالكامل، في داخلها الخير والشر، والبداية كانت الرغبة في المساعدة على شفاء الحالات المستعصية من الأمراض، وبمرور الوقت تحولت تلك الرغبة إلى اتجاه مغاير، وبسؤاله عن إذا عاد به الزمن للوراء، هل كانت ستختلف أفعاله عن الماضي؟ تأتي إجابته صادمة بقدر كبير.

إذ يقول في حالة العودة سيفعل ما فعله، فما كان المصير سيتغير، فاللهاث خلف التجارب المعملية هو ما يعنيه، ولا اعتبار لأي عوائق أخلاقية أو دينية قد تعترض طريقه.

استنساخ الخلق.. صراع العلم والشرائع السماوية

في إطار استعراض وجهات النظر المتباينة للموضوع محل النقاش، يستعين السرد ببعض النماذج المؤيدة لعلوم الاستنساخ، مثل الثري المجري الذي سعى لاستنساخ كلبه النافق، حيث تتابعه الكاميرا أثناء مراسم دفن الكلب القديم، واستلام الكلب الجديد المُستنسخ، وهو شبيه لحد الاقتران الكامل بالكلب السابق بطبيعة الحال.

ويستطرد الفيلم في الكشف عن دوافع مهاجمي الاستنساخ، فالشرائع السماوية تنظر لهذه العلوم نظرة متوجسة، والسبب بديهي للغاية، لأن من يملك قيمة الخلق هو المولى عز وجل، أما غير ذلك من هذه الدراسات والأبحاث، فإنها تسعى لمضاهاة الخالق في عمله، وهذا رأي الأديان.

الملصق الدعائي لفيلم “ملك الاستنساخ”

أما على الناحية الأخرى فيقف المؤيدون وعلى رأسهم “وو سوك هوانغ” الذي يتكرر ظهوره في الفيلم مُتحدثا في هذه القضية، ليُعبر عن رفضه لهذه الآراء، ويدافع عن هذه العلوم، وينفي قيامه بعملية الخلق، قائلا إنه ينسخ الحمض النووي والخلايا الحية فقط، أما غير ذلك فلا طاقة له به، لكن ألا يعد استنساخ هذه الخلايا نواة لاستيلاد الكائنات الحية؟

ويستمر الدفاع في هذا الإطار الشائك، استنادا لقيمة الاستنساخ في الأمور الطبية وعلاج الأمراض، وإمداد هذه التقنيات للاقتصاد، وزيادة الحيوانات وتحسين قدرتها وثرواتها الحيوانية. وهكذا يدور الفيلم بين هذا الجانب وذاك، ما بين مؤيد ومُعارض، في تعبير جلي عن الصراع الدائم بين العلم والدين، وهو صراع سُيحسم مع توالي الزمن، لكن لصالح من؟ لا أحد يدري، فلكل زمن رؤيته وأخلاقه وكذلك سماته. وسمة هذا العصر هي التطور الأعمى.

“حرارة منتصف النهار الشديدة، هي بمثابة محاكمة لي”

يُقدم الفيلم سرديته عن عالِم الخلايا الجذعية “وو سوك هوانغ”، ولتقديم هذه الحكاية، يستخدم كافة الوسائل المتاحة للفيلم الوثائقي، سواء الأساليب التقليدية مثل الحوارات والمشاهد الأرشيفية المسجلة، وكذلك الأساليب الحداثية مثل مشاهد التحريك، كل هذا يتداخل معا في وحدة واحدة، تحقيقا لشيء واحد، ألا وهو رواية هذه القصة التي تستحق التأمل والتفكير، ليس في مصير وحياة هذا الطبيب فحسب، لكن في الفكرة ذاتها، الاستنساخ ومدى شرعيته الدينية والأخلاقية.

العالم “وو سوك هوانغ” يقود سيارته في أبو ظبي وهو يستمع لأغنيته المفضلة

قرابة تسعين دقيقة، هي مدة عرض الفيلم، نرى خلالها السجالات والصراعات، والأهم التعريف بهذا العلم القديم زمنا والحديث معرفة، فالحديث عنه دوما ما يحاط بسياج كبير من السرية والغموض، مما يسمح بكثرة الأقاويل التي تفتقد للصحة، هنا يسعى الفيلم لإزاحة الستار عن هذا العلم بأسلوب جذاب ومحترف، يتميز بالدقة والسلاسة في عرض المعلومة، سواء من الناحية العلمية أو الشخصية عن حياة هذا العالِم المثير للجدل الذي اختفى لسنوات بعد الفضيحة العلمية في كوريا.

ولأن الحياة تستمر، فقد انطلق الطبيب في بداية جديدة في بلد لا يدركه فيها أحد، تتابعه الكاميرا وهو يقود سيارته، وفي الخلفية تصدح أغنيته المفضلة التي تقول كلماتها “حرارة منتصف النهار الشديدة، هي بمثابة محاكمة لي”، فهل يشعر بالذنب بالفعل وتتماس معه الكلمات؟ أم أنها لا تعدو أن تكون ظلالا مؤقتة لحالة شفيفة من الصدق سُرعان ما سيتوارى بعيدا.