الاندماج النووي.. تكنولوجيا تلامس السماء وسلاح يدمر الأرض

في ديسمبر/ كانون الأول 2022، أعلن فريق بحثي في “مختبر لورانس ليفرمور الوطني” التابع لوزارة الطاقة الأمريكية عن نجاحه في تحقيق نتائج إيجابية من تفاعل اندماج نووي آمن، يعني ذلك أن التفاعل أنتج من الطاقة ما هو أكبر مما احتاجه لينشأ التفاعل الاندماجي من الأساس، فقد أنتج التفاعل 3 ميغا جول من الطاقة واحتاج إلى 2 ميغا جول فقط، وهي سابقة عُدت الأولى في تاريخ هذا النوع من المحاولات التجريبية.

قبل هذا التاريخ بعام واحد تقريبا، أعلنت وكالة الأنباء الرسمية لجمهورية الصين الشعبية (شينخوا) أن مفاعل الاندماج النووي الصيني “ايست” قد حافظ على درجة حرارة مقدارها 70 مليون درجة مئوية لمدة 1056 ثانية (17 دقيقة و36 ثانية)، وهو سبق كان كذلك فريدا من نوعه.

الشمس هي أكبر مفاعل نووي اندماجي في المجموعة الشمسية، وهي سبب الحياة والدفء على الأرض

ومنذ ثلاثينيات القرن الفائت، وبعد أن تمكن علماء الكيمياء والفيزياء من فهم طبيعة التفاعلات الحاصلة في باطن النجوم، كان هناك أمل أن تتمكن البشرية من حرث هذا النوع من الطاقة يوما ما، وقد بدأت محاولات بناء مفاعلات اندماج نووي منذ الخمسينيات من القرن الفائت، لكن الأمر كان أصعب مما بدا للوهلة الأولى.

ولفهم صعوبة إنشاء هذا النوع من التفاعل، يمكن أن نتأمل لحظات ميلاد النجوم، حيث تتراكم سحب الغاز الزاخر بالهيدروجين على بعضها بكثافة شديدة في صورة كرة ضخمة، حتى تبلغ درجات الحرارة في نواة هذا التجمع حوالي 15 مليون درجة، ويكون الضغط هائلا بسبب كتلة النجم الهائلة، هنا يكون الوضع ملائما لحدوث اندماج نووي، يعني ذلك أن “تندمج” أنوية ذرّات الهيدروجين لتصنع الهيليوم.

الاندماج النووي.. حيلة تحاكي ما يحدث في باطن النجوم

تعلمنا في دروس الكيمياء بالمرحلة الإعدادية، أن الذرة تتكون من إلكترونات تدور حول نواة تحتوي على جسيمات أصغر وهي البروتونات والنيوترونات، وما يحدد طبيعة العنصر هو عدد البروتونات بالنواة، فالهيدروجين تحتوي نواته على بروتون واحد، والهيليوم 2، والليثيوم 3، والبريليوم 4، والنيتروجين 7… إلخ. وفي بواطن النجوم تتسبب الحرارة والضغط الشديدان جدا بدمج كل ذرتي هيدروجين معا، فتجتمع بروتوناتهما معا، لتصبحا ذرة هيليوم واحدة.

مغانط كهربائية فائقة التوصيل مبردة بالهيليوم السائل تولد طاقات هائلة كالطاقة النووية

ولإجراء تفاعل اندماج نووي في مكان آخر غير باطن النجم، يتحايل العلماء على الأمر، فيستخدمون مغانط كهربائية فائقة التوصيل مبردة بالهيليوم السائل، للوصول إلى تلك الحرارة المرتفعة جدا والحفاظ على استمرارها، عبر رفع البلازما (وهي حالة المادة في درجات الحرارة الهائلة) وحصرها في شكل حلقات تدور في الفراغ داخل المفاعل، بحيث لا تتلامس حتّى مع جدران المفاعل، لأن حدوث ذلك يعني ارتفاع درجة الحرارة واختراق جدران المفاعل فورا، وتوقف التفاعل الاندماجي.

لكن ربما في تلك النقطة قد تسأل نفسك: كيف يُنتج التفاعل النووي الاندماجي كل تلك الطاقة؟

معادلة الطاقة-الكتلة الشهيرة التي وضعها الفيزيائي الألماني ألبرت آينشتاين وكانت سببا في اختراع القنبلة الذرية

هنا نحتاج أن نتعلم القليل عن معادلة “ألبرت أينشتاين” الشهيرة (E = mc^2)، حيث يرمز الحرف (E) للطاقة، بينما يرمز (m) للكتلة، ويرمز (c) لمربع سرعة الضوء، وهو رقم كبير جدا، لذلك فإن ضربه في كم صغير جدا من المادة، يُنتج قدرا كبيرا جدا من الطاقة، لذلك يمكننا مثلا تحويل بضعة غرامات من المادة إلى أكثر من تريليون جول من الطاقة، وهذا كم هائل منها، إنه تقريبا الطاقة التي يحتاجها شخص واحد في دولة متقدمة على مدى 60 عاما.

مواد الاندماج.. عناصر آمنة متوفرة في الماء والأرض

عند حدوث الاندماج النووي، تترك ذرات الهيدروجين قدرا يسيرا من الكتلة، هو ما يتحول إلى طاقة، وهذا تحديدا هو ما استهدفه العلماء منذ ثلاثينيات القرن الماضي، لكن بما أنه تفاعل حرج والتحكم فيه صعب جدا، فقد بدأت بوادر النجاح تظهر بعد قرابة 90 سنة، والأمر يستحق، فالاندماج النووي لا يستخدم مواد مشعة مثل اليورانيوم والبلوتونيوم، بل فقط نظائر الهيدروجين مثل التريتيوم والديوتيريوم، وهنا تظهر الأهمية القصوى لهذا النوع من مصادر الطاقة.

فهي متوفرة بكثرة في الماء والأرض ورخيصة، كما أن هذا النوع من التفاعلات لا يحمل أي خطر لحدوث تفاعلات متسلسلة، ولا ينتج نفايات نووية مشعة، ونقصد أن احتمالية وقوع حوادث مثل “تشيرنوبل” و”فوكوشيما” غير واردة، لأنه بحدوث أي اضطراب تبرد البلازما فورا ويتوقف التفاعل كليا.

أضف لذلك أن المنتج الثانوي لتفاعلات الاندماج النووي هو الهيليوم، وهو غاز خامل وغير سام. كما ينتج الاندماج النووي حوالي 4 ملايين ضعف الطاقة الناتجة عن حرق الفحم أو النفط، و4 أضعاف الطاقة الناتجة من مفاعلات الانشطار النووي.

مستقبل الاندماج.. طاقة تنقل علوم الفضاء لمستوى جديد

من المفترض أنه بوصولنا إلى العقد الرابع من هذا القرن، فإن بعض دول العالم ستبدأ في تشغيل مفاعلات الاندماج النووي. كل هذا ونحن لم نتحدث بعد عن الإمكانات الواعدة لاستخدام مفاعلات الاندماج وقودا للمركبات الفضائية، فهي تعطيها ما يكفيها للرحلات الطويلة، ربما إلى خارج المجموعة الشمسية، حتى أن بعض الباحثين في هذا النطاق يرون أن استخدام الطاقة الاندماجية سينقل علوم الفضاء لمستوى جديد.

مركبة “دراغون فلاي” التي ستنطلق لدراسة قمر تايتان التابع لكوكب زحل في عام 2027

فالتقدم في هذا النطاق يتحقق يوما بعد يوم، فقد اقترح فريق من جامعة برينستون في مايو/ أيار الماضي تركيب مفاعل اندماجي لمركبة “دراغون فلاي”، التي ستنطلق لدراسة قمر تايتان التابع لكوكب زحل في عام 2027. وأشار نفس الفريق في دراسة صدرت في 2021 إلى أن هذا المفاعل الاندماجي يستطيع نقل حمولة قدرها طن كامل إلى القمر تيتان في حوالي 31 شهرا فقط، وهي فترة زمنية قصيرة بمعايير السفر في الفضاء.

لكن كل ما سبق كان -مع الأسف- وجها واحدا فقط للعملة، وهو الوجه المنير، أما الوجه الآخر فيمكن أن نتأمل ملامحه بالنظر إلى ما حصل في 30 أكتوبر/ تشرين الأول عام 1961 على إحدى جزر أرخبيل “نوفايا زمليا” في المحيط المتجمد الشمالي.

“القيصر”.. أقوى قنبلة اندماجية في تاريخ البشرية

في عام 1961، ألقت قاذفة قنابل سوفياتية قنبلة “القيصر”، وهي حتى الآن أقوى قنبلة نووية اندماجية في تاريخنا كله، فتسببت القنبلة ببزوغ كرة من الجحيم المضيء بعرض عدة كيلومترات من لمعانها وحجمها، وقد شوهدت على مسافة ألف كيلومتر تقريبا، بل تسببت في موجة صدمية تجولت في كوكب الأرض كله ثلاث مرات، وتسببت في موجة زلزالية عبرت خلال القشرة الأرضية كلها، ثم خلال ثوان قليلة نشأت سحابة عيش الغراب، وبلغ عرضها أربعين كيلومترا، وصعدت إلى السماء على مسافة أكثر من ستين كيلومترا.

“شل” هي نموذج عن قنبلة “قيصر” الروسية معروضة في موسكو منذ 2015

فعلى الجانب الآخر كانت العقول العسكرية تخطط لمستوى مختلف من القنابل، فبعد تفجير قنبلتي هيروشيما وناغازاكي الانشطاريتين في عام 1945، بدأ سباق التسلح العالمي في التنامي، ولا سيما بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفياتي، وبوصولنا إلى عام 1950 بدأ عصر القنابل الاندماجية.

سحابة عيش الغراب التي صعدت في السماء إلى أكثر من 60  كم إثر تفجير روسيا لقنبلة القيصر العملاقة

ويعمل الاندماج النووي (الذي يصنع القنبلة الهيدروجينية) والانشطار النووي (الذي يصنع القنبلة الذرية) بمبدأ واحد، وهو تحويل قدر يسير جدا من المادة إلى قدر هائل جدا من الطاقة، لكن الانشطار النووي يعتمد بالأساس على شطر ذرة كبرى، عادة من نظائر اليورانيوم أو البلوتونيوم إلى ذرات، أما الاندماج النووي فيعتمد -كما ذكرنا آنفا- على دمج ذرتين أصغر لتكوين ذرة أكبر.

ثمار الحرب الباردة.. أسلحة قادرة على تدمير الكوكب

الآن، دعنا نقارن بين ما حصل في هيروشيما وناغازاكي، وما حصل في القطب الشمالي بعدهما بـ16 عاما فقط، فقد قدرت الطاقة الناتجة عن انفجاري هيروشيما وناغازاكي بحوالي 15 و20 مليون جول، ويعبر هذا الرقم عن مقدار الطاقة الخارجة من القنبلة بالكمية المقابلة من مادة “ثلاثي نترو التولوين” (TNT) التي ستولد الكمية نفسها من الطاقة عندما تنفجر.

لذلك، فإن السلاح النووي الذي يعطي 20 مليون جول، ينتج كمية الطاقة نفسها في انفجار 20 ألف طن من مادة “تي إن تي”، ولفهم الأثر الهائل لهذا الحجم من المتفجرات، يكفيك أن تعرف أن القنبلة اليدوية الشهيرة تحتوي فقط على ما مقداره 40-100 غرام من تي إن تي.

في عام 1945 أسقطت الولايات المتحدة الأمريكية قنبلتين ذريتين على مدينتي ناغازاكي وهيروشيما اليابانيتين

وعلى الجانب الآخر، فإن قنبلة القيصر السوفياتية قدرت الطاقة الناتجة عنها بـ58 مليار جول، أي 58 مليون طن من مادة “تي أن تي”، أو ما يقارب 3000 ضعف الطاقة الناتجة عن قنبلة واحدة من قنبلتي هيروشيما وناغازاكي.

لقد كانت قنبلة القيصر مجرد اختبار في منطقة نائية خالية تماما من البشر، لكن لو قدرنا أنها سقطت على مدينة مزدحمة في أي دولة، لكان عدد الوفيات في أقل من ساعة هو حوالي 10-15 مليون شخص، مع انهيار كامل للبنية التحتية في البلد كلها.

فقنبلة القيصر لم تكن إلا نتيجة سباق نشأ في الحرب الباردة بين الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة، وتسبب هذا الصراع السياسي بإنتاج عدد كبير من القنابل الاندماجية، فلو فُجرت معا لدخلت الأرض ربما في حالة انقراض كبير، مع تغير مناخي هائل ينزل بدرجات الحرارة إلى أسفل الصفر في الصيف.

نظرية السكين.. تكنولوجيا تخرج أسوأ طبائعنا البشرية

تعلمنا صغارا أن السكين هو شيء محايد بطبعه، فقد نستخدمه لتقطيع الخضار فيكون مفيدا، أو نستخدمه لقتل الآخرين فيكون مصدر شر، لكن هل هذا حقا صحيح؟

مفاعل نووي للاستخدام السلمي للطاقة

يرى عالم الاجتماع والفيلسوف الفرنسي “جاك إيلول” أن الأمر ليس بهذه البساطة، فمع امتلاكنا لأداة تكنولوجية ما تختلف طبائعنا، وتؤثر تلك الأداة فينا أكثر مما نؤثر فيها، ولو كانت تحمل قدرا من القوة لأغرتنا لاستخدام تلك القوة ضد بعضنا.

وعليه، فلو ركزت البشرية على الاستخدام السلمي للطاقة الاندماجية، لربما استطعنا استخدامها في وقت مبكر، ولربما ساعدتنا في خفض نفث الغازات الدفيئة من الوقود الأحفوري، أو على الأقل إيقاف ارتفاع متوسط درجات الحرارة العالمية، قبل أن تتفاقم المشكلة إلى حد لا نتصوره بحلول نهاية هذا القرن، لكننا لم نفعل.

والمشكلة الأكبر في هذا السياق أن طبائعنا وسلوكياتنا تتأثر بالسياقات، ونحن نعيش الآن في سياق عالم تتصاعد فيه الأصوات المتطرفة، وتميل القوى الكبرى للتصادم، فقد نشأت حرب كبرى في أوكرانيا بدعم غربي ضد الروس الذين غزوها، ونرى توترا شديدا بين الصين والولايات المتحدة في قضية تايوان، ونرى اجتياحا بريا من قبل دولة الاحتلال لغزة، أدى إلى قتل آلاف العزل، نصفهم تقريبا من الأطفال، بتأييد سياسي غربي غير مسبوق، فلا نستطيع -مع الأسف- أن نتوقع مستقبلا أفضل لكوكبنا، مع كل سكين (تقنية) تنتجه أيدينا نحن البشر.

المصادر

1- DOE National Laboratory Makes History by Achieving Fusion Ignition

https://www.energy.gov/articles/doe-national-laboratory-makes-history-achieving-fusion-ignition

2-Chinese “artificial sun” sets new world record

http://www.xinhuanet.com/english/20211231/c4fad387ef0745c18aedee05eed1414d/c.html

3–Nucleosynthesis

https://www.energy.gov/science/doe-explainsnucleosynthesis

4-  What is Nuclear Fusion?

https://www.iaea.org/newscenter/news/what-is-nuclear-fusion

5- ADVANTAGES OF FUSION

https://www.iter.org/sci/Fusion

6- A Titan mission using the Direct Fusion Drive

https://www.sciencedirect.com/science/article/abs/pii/S0094576520307475

7- Tsar Bomba

https://ahf.nuclearmuseum.org/ahf/history/tsar-bomba/

8- What Is the Difference Between a Hydrogen Bomb and an Atomic Bomb?

https://www.livescience.com/53280-hydrogen-bomb-vs-atomic-bomb.html

9- Hiroshima and Nagasaki bombings

https://www.icanw.org/hiroshima_and_nagasaki_bombings

10- Tsar Bomba: The Largest Atomic Test in World History

https://www.nationalww2museum.org/war/articles/tsar-bomba-largest-atomic-test-world-history

11- خدعة التكنولوجيا – تأليف جاك الول – ترجمة د. فاطمة نصر، الهيئة المصرية العامة للكتاب.