العوالم الخفية.. قوى غامضة تحرك عالمنا المرئي الذي لا يتجاوز 5% من الكون

في المرحلة الابتدائية نتعلم أن كل شيء يتكون من ذرات، وقد تبدو لك معلومة بسيطة، فقد تعودت عليها فأصبحت أقرب للبديهة، لكن الفيزيائي واسع الشهرة الحاصل على نوبل “ريتشارد فاينمان” يقول في مقدمة محاضراته الشهيرة المكونة من ثلاثة مجلدات، إنه إذا حدثت كارثة عظيمة لكوكب الأرض وهددت بفناء بني جنسنا، وكان مقدّرا لجملة واحدة فقط أن تبقى، فهي تلك المعلومة البسيطة؛ أن كل شيء يتكون من ذرات.

لدى “فاينمان” حجة وجيهة، فقد أخذت تلك الجملة من تاريخنا البشري آلاف السنوات، بداية من عهد ديمقريطس الفيلسوف اليوناني الذي عاش بمدينة أبديرة قبل أكثر من 2500 سنة، حتى وصلنا إلى نموذج الكيميائي البريطاني “جون دالتون” واضع النظرية الذرية الحديثة المسماة باسمه.

لكن في تلك النقطة ربما تسأل: لمَ أخذنا كل ذلك الوقت للقول إن هناك ذرات؟ ببساطة، لأن الذرات صغيرة إلى درجة السخافة التي لا تُصدق بسهولة، ففي النفَس الواحد مثلا، تقوم رئتاك بسحب مليون مليار مليار ذرة أكسجين، بل إن سمك شعرة واحدة من رأسك يساوي ما مقداره 500 ألف ذرة كربون متجاورة.

الطاقة المظلمة هي المسيطر الأكبر على الكون بنسبة 68,3% من مادة الكون الكلية

إلى هذا الحد فإن كل شيء مدهش حقا، وهو مقبول على الأقل. لكن عالمة الفلك الأمريكية “فيرا روبين كوبر” اكتشفت في ستينيات القرن الفائت شيئا غيّر هذه الجملة تماما، فبدلا من “كل شيء يتكون من ذرات” أصبحت الجملة “كل شيء نعرفه يتكون من ذرات”.

“المادة المظلمة”.. حزام يمنع النجوم من هجران المجرة

خلال عملها في معهد كارنيغي بولاية واشنطن، تقدّمت “فيرا روبين كوبر” بطلب لاستخدام تلسكوبات مرصد بالومار الذي يقع على قمة عالية يبلغ ارتفاعها أكثر من كيلومتر ونصف متر، تبعد عن ولاية سان دييغو بنحو 80 كيلومترا، وهناك راقبت عددا من المجرات على رأسها “المرأة المسلسلة” (مجرة الصوفي) جارة مجرتنا، لتكتشف شيئا يناقض تماما ما نعرفه عن دوران النجوم حول مركز المجرة.

مجرة الصوفي (الأندروميدا) واحدة من المجرات الكبيرة القريبة من مجرة درب التبانة

تقترح قوانين “نيوتن” أن الأجرام التي تدور حول مركز ما (ليكن مثلا مجموعة شمسية أو مجرة)، عادة ما تكون أسرع كلما اقتربنا من المركز، وهذا مفهوم، فالنجوم القريبة من مركز المجرة مثلا تدور بسرعة لكي تنجو من أثر الجذب الشديد هناك، فلا تسقط في المركز، أما النجوم في أطراف المجرات فمن المفترض أن تكون أبطأ، لأن الجاذبية في تلك المنطقة البعيدة عن مركز المجرة تكون أضعف. ولو كانت تلك النجوم في أطراف المجرات تدور بسرعة كبيرة، لأفلتت من المجرة أصلا ومضت في الفضاء بلا عائق.

بسبب كثافة المادة، تتسبب العناقيد المجرية بما يعرف بـ”العدسات الجاذبية” التي تحني ضوء المجرات البعيدة

لكن “فيرا روبين” اكتشفت شيئا غريبا، وهو أن النجوم والسحب الجزيئية في أطراف تلك المجرات لم تكن أبطأ، بل كانت سرعتها مساوية تقريبا لتلك التي تدور حول المركز. لذا كررت تجاربها مع أكثر من مجرة، وفي أكثر من مرصد، وكانت النتائج واحدة، فهذه النجوم في أطراف المجرات لا بد أن تفلت منها مع هذه السرعة الكبيرة، لكنها -لسبب ما- لا تفعل.

إلى الآن، لا أحد يعرف بالضبط هذا السبب، لكن التصور السائد حاليا في مجتمع الفيزياء يقول إن هناك ما يسمى “المادة المظلمة” (Dark Matter)، وهي كيان يغلف المجرات، ويمنع نجوم أطرافها من الهروب، ولا نعرف الكثير عن المادة المظلمة، ومن تلك النقطة بالأساس ظهر اسمها، فالظلام هنا لا يعني أنها سوداء اللون، بل يعني جهلنا بطبيعتها، فنحن نلاحظ فقط أثرها على محيطها.

عناقيد المجرات.. كتلة خفية تضم تجمعا مجرّيا هائلا

أشهر الأمثلة لشرح نقطة “المادة المظلمة” هو عنقود “كوما” المجرّي، وهو تجمع لأكثر من مئة مجرة توجد على مسافة 336 مليون سنة ضوئية من الأرض. فحين حصر العلماء المجرات المرئية في العنقود، ثم قدروا كتلها، لاحظوا بعد ذلك أن حركات المجرات بالقرب من حافة العنقود -التي تحددها الجاذبية الكلية للعنقود، ثم الكتلة- قد تجاوزت بشكل كبير الكتلة المحسوبة سابقا، مما يعني أن هنالك كتلة جانبية موجودة فعلا، لكننا لا نراها.

الهالات حول العناقيد المجرية ستساعد في فهم طبيعة المادة المظلمة

ولفهم الفكرة دعنا نضرب مثالا افتراضيا. تخيل أننا وضعنا تفاحة واحدة في أحد كفتي ميزان، بالطبع سنتوقع أننا إذا وضعنا ثقلا وزنه كيلوغرام في الكفة الأخرى، فإن هذه الكفة الأخرى ستزن أكثر من كفة التفاحة، لكن ماذا لو لم يحدث شيء، وما زالت كفة التفاحة هي الأثقل؟

هنا سنضع ثقلا إضافيا بوزن كيلوغرامين مثلا، لكن ماذا لو أن الميزان لم يتحرك، وما زالت التفاحة أثقل؟ هنا بالتأكيد ستقول إن هناك شيئا غريبا يحدث، ولا بد أن يكون هناك شيء خفي يوجد مع التفاحة في الكفة، يجعلها -وهي صغيرة إلى هذا الحد- تزن أكثر من ثلاثة كيلوغرامات.

على حواف المجرات وجد العلماء بأن المادة تدور بسرعة كبيرة خلافا لقوانين الفيزياء

هذا هو بالضبط ما يرصده العلماء كلما راقبوا حركة المجرات في التجمعات المجرّية، إذ يبدو أن تلك الحركة تشير إلى وجود تجمع مجرّي هائل جدا، لكننا لا نرى ذلك حينما نرصده بالتلسكوبات، ويظهر نفس السلوك حينما يدرس العلماء ظاهرة تسمى “عدسات الجاذبية”.

“عدسة الجاذبية”.. سر يقلب معرفتنا بالكون وحياتنا اليومية

لفهم ظاهرة “عدسات الجاذبية” دعنا نحضر عدسة محدبة وننظر من خلالها، سوف نرى الأشياء في الخلفية بصورة مشوهة ومكبرة، ذلك لأن الضوء يمر خلال أطراف العدسة، وينكسر إلينا بطريقة تشوه وتكبر ما يقع خلفها.

وبالنسبة لعلم الكونيات، فإن الشيء ذاته يحدث، إذ تتوقع النظرية النسبية العامة لـ”ألبرت أينشتاين” أن شعاع الضوء سوف ينحني بتأثير كتلة النجوم والمجرات في الفضاء، وحينما تكون كتلة تلك المادة هائلة مثل تجمعات المجرات الضخمة، فإن ما يقع في خلفيتها يظهر مكبرا ومشوها بصورة واضحة تتناسب مع تلك الكتلة، بالضبط كما يحدث مع العدسة، وهذا هو السبب في تسمية تلك الظاهرة “عدسة الجاذبية”.

عنقود “الرصاصة” المجري يقع على مسافة 3.7 مليار سنة ضوئية

لكن حين رصد فريق دولي من العلماء عام 2004 التشوهات المحيطة بتجمع “عنقود الطلقة المجرّي” الواقع على مسافة 3.7 مليارات سنة ضوئية؛ وجدوا مرة أخرى أن تلك التشوهات تتناسب مع كتلة أكبر بكثير من كتلة المجرات التي ترصدها التلسكوبات، مما يعني أن هناك كتلة إضافية غير مرئية توجد هناك، ولا نعرف عنها أي شيء بعد، سوى أثرها على محيطها.

وقد كشفت حسابات العلماء أن كتلة تلك المادة المظلمة تفوق كتلة المادة التي نعرفها بأكثر من خمسة أضعاف، ويعني ذلك أن كل ما نعرفه من مادة -ذلك الذي نلاحظه في أجسامنا وسياراتنا والطرق، وكوكبنا كله ومجموعته الشمسية والنجوم والمجرات في السماء- لا يمثل فقط إلا خُمس ما نعرفه من مادة، بينما الأخماس الأربعة الأخرى مجهولة تماما.

“الطاقة المظلمة”.. قوة خفية تخرج على قوانين الفيزياء

ظل الأمر على ما هو عليه، حتى كشف فريقان منفصلان من العلماء -وهما يرصدان المستعرات العظمى البعيدة في أواخر تسعينيات القرن الفائت- عن مفاجأة في غاية الغرابة تسببت في حصول قادتهما (وهما الأمريكيان سول بيرلموتر وآدام ريس، والأسترالي بريان شميت) على جائزة نوبل في الفيزياء عام 2011، وهي أن هذا الكون الذي نعيش فيه يتوسع بشكل متسارع، وهذا غريب حقا.

الفلكي “فريتز زويكي” أو من تنبأ بوجود المادة المظلمة في الثلاثينيات من القرن العشرين

فقط تخيل أنك ألقيت بصخرة إلى السماء، فمن المفترض أن تستمر في الارتفاع لفترة، ثم تتباطأ مع الوقت وتقف، ثم تنزل للأرض، لكن ماذا يحدث لو وجدت أنها لا تفعل ذلك، بل تجري بشكل أسرع كلما ارتفعت للأعلى، هنا بالطبع ستتصور أن هناك شيئا ما يدفعها، وهذا الشيء بالنسبة للكون هو ما يسميه العلماء “الطاقة المظلمة” (Dark Matter).

ولفهم الفكرة يمكن أن نرجع إلى الخلف في الزمن حتى عشرينيات القرن الفائت، حينما عمل الفيزيائي الأمريكي “إدوين هابل” في مرصد جبل ويلسون التاريخي في مقاطعة لوس أنجلس بولاية كاليفورنيا، وكان الأكبر على الاطلاق في العالم وقتها.

نموذج البالون الذي يفسر تباعد المجرات واتساع الكون بسبب الطاقة المظلمة

وقد استطاع “هابل” بذكاء شديد أن يتوصل إلى مفهوم “توسع الكون”، فقد لاحظ في أرصاده أنه كلما كانت المجرات أبعد كانت تجري أسرع مبتعدة عنا، فأشار ذلك إلى أن الأمر يتعلق بالفضاء نفسه الذي يقع بين المجرات، فهو يزداد في المساحة لحظة بعد لحظة.

بالون النقاط.. صورة تلخص تاريخ توسع المجرات

يعد مثال البالون أو الكرة التي تنتفخ تدريجيّا هو أشهر شرح لفكرة توسع الكون، وكان أول من ضربه “أرثر إيدنغتون” في كتابه “الكون المتمدد” (1933)، ويجري كالتالي: سنحضر بالونا صغيرا، ثم نرسم عليه بالقلم مجموعة من النقاط المتجاورة في كل مكان، بعد ذلك نبدأ بنفخ البالون، وهنا سنلاحظ أن تلك النقاط تتباعد عن بعضها مع ازدياد حجم البالون، ولاحظ كيف أن النقاط لا تجري على البالون، لكن البالون نفسه هو الذي يتوسع.

رسم توضيحي للانفجار الأعظم وكيف تطور الكون

تلك هي فكرة توسع الكون، وما كشفه “هابل” هو أن المجرات لا تبتعد عن بعضها لأنها تجري بسرعة هائلة، بل لأن هناك “فضاء جديدا” ينشأ بين كل منها. من تلك النقطة تحديدا توالت المكتشفات حتى بتنا الآن نعرف أن هذا الكون الذي نعيش فيه، والذي يبلغ عرضه 93 مليار سنة ضوئية! بدأ من نقطة واحدة في غاية الكثافة والصغر قبل حوالي 13.8 مليار سنة من الآن، ثم توسعت مع الزمن. تلك هي نظرية الانفجار العظيم.

بعد ذلك تسائل العلماء عن مصير هذا الكون، فافترض الثلاثي الذي حصل على نوبل سنة 2011 ورفاقهم أن الكون من المفترض أن يتباطأ في توسعه مع الزمن بسبب كتلة مجراته الهائلة، ويعيدنا ذلك لمثال الصخرة من جديد، فكما كان من المفترض للصخرة أن تعود إلى يديك إذا رميتها للأعلى، فإن الكون هو الآخر سينطلق في توسعه مسرعا في البداية لكن مع الوقت سيتباطأ التوسع، ثم يقف ثم يبدأ الانكماش مرة أخرى.

الثلاثي الذي حصل على نوبل الفيزياء سنة 2011

فما الذي يوسّع الكون بشكل متسارع إذن؟ إنها تلك الطاقة المجهولة، ومثلما أشرنا في حالة المادة المظلمة، فإن الظلام في “الطاقة المظلمة” لا يعبر عن لون أسود أو ظلام، لأننا لا نعرف أي شيء عن طبيعة تلك الطاقة التي تتولد في الفراغ فتوسّعه، بل يعبر عن جهلنا بطبيعتها، كل ما نلاحظه منها هو أثرها على هذا الكون.

“كل ما أعرفه أني لا أعرف شيئا”

حين يحسب العلماء تسارع تمدد الكون، فإنهم يتوصلون إلى كم الطاقة المطلوب لإحداث هذا التسارع، مثلما تتمكن من حساب قدر الطاقة الصادر من سيارتك لجعلها -على سبيل المثال- تتسارع من صفر إلى مئة كيلومتر في عشر ثوان، تقول تلك الحسابات إن الطاقة المظلمة تمثل ما مجموعه 68% من تركيب هذا الكون كله، أما المادة المظلمة التي يفترض أن تمثل الكتلة الإضافية التي رصد العلماء وجودها حول المجرات وعناقيد المجرات، فقد وُجد أنها تمثل 27% من تركيب هذا الكون.

يتكون الكون من أكثر من 95% من مادة وطاقة مظلمتين لا يعرف العلماء أثرا لهما بعد

يعني ذلك أن المادة والطاقة المظلمتين تمثلان 95% من تركيب هذا الكون، وأن كل ما نعرفه يمثل فقط 5% من تركيبه. هل تتخيل ذلك؟ كل ما نعرفه، كل مادة هذا الكلام الذي تقرأ، كل ما يتركب منه جسمك والنجوم والمجرات بالأعلى في الفضاء، كل شيء قدّمه العلم لنا على مدى 400 سنة من تلسكوبات ضخمة ومصادمات هائلة للجسيمات وميكرسكوبات إلكترونية دقيقة، يتعلق فقط بـ5% من تركيب الكون.

يتوافق ذلك بشكل مدهش مع الفيلسوف سقراط حينما قال ذات مرة: “كل ما أعرفه أني لا أعرف شيئا”، ويبدو أننا كلما ازددنا معرفة بهذا الكون واطلعنا على أسراره عبر أدق قوانين الفيزياء من نظريات النسبية والكوانتم وآخر تطوراتهما، ظهرت لنا بحور أوسع من الأسرار، فكأننا كلما ازددنا علما ازددنا جهلا.