بصمة اللغة.. آثار لسان الضاد على تكوين الدماغ العربي

ليست اللغة وسيلة للتواصل والتخاطب بين بني البشر فحسب، ولا حتى مجرد حامل للثقافة وناقل للهوية، بل هي عامل مؤثر في أحد أكثر أعضاء جسم الإنسان أهمية وتعقيدا، فهي تترك بصمة واضحة يمكن تمييزها عند كل إنسان بشكل يجعله مختلفا عن غيره من الناطقين بلغات أخرى.

وقد لا تكون هذه المعلومة مستجدة بشكل كلي، لكنها بالنسبة للناطقين باللغة العربية جديدة وتكشف لأول مرة، إذ تأكد بالتجربة والاختبار العلميين أن اللقاء باللغة العربية كأول أداة في التواصل في حياة الانسان يترك بصمة مميزة في دماغه ترافقه طيلة حياته.

فقد كشف باحثون ألمان في دراسة حديثة أنّ اللغة الأم تؤثّر على طريقة تشابك مناطق معيّنة في الدماغ، وتكمن وراءها الطريقة التي يفكّر بها البشر، وخلصت إلى أن أدمغة الناطقين -باللغة العربية تحديدا- تختلف عن أدمغة المتحدثين بباقي اللغات. وكشفت الدراسة أن المتحدّثين الأصليّين للغة العربية أظهروا ارتباطا أقوى بين نصفَي الدماغ الأيمن والأيسر من الناطقين باللغة الألمانية.[1]

كما وجدوا أيضا ارتباطا أقوى بين فصوص المخ الجانبية التي تسمّى الفصّ الصدغي، وأيضا في الجزء الأوسط المسمّى الفصّ الجداري، وهذه المناطق الدماغية مسؤولة عن معالجة نطق الكلمات وفهم معنى اللغة المنطوقة، وهو ما تتطلّبه اللغة العربية من المتحدّث بها. هذه الدراسة تتقاطع مع دراسات حديثة أخرى، تقول إن اللغة العربية تُمكّن الناطقين بها -منذ ولادتهم- من قدرات أكبر في تعلم مهارات الحياة.[2]

بصمة اللغة الأم.. آثار باقية في الدماغ ولو بعد هجران

ليست نتائج هذه الدراسة الألمانية جديدة كليا، بل إن دراسات أخرى -كمثل تلك التي كشف عنها في بريطانيا قبل سنوات قليلة- أكدت وجود اختلافات بين أدمغة البشر لدرجة يمكن معها مقارنة الدماغ ببصمة الأصبع، أو بالاختلافات التي يرصدها الفلكيون بين النجوم في السماء، أي وجود خصائص مميزة فريدة لدى كل إنسان.[3]

فقد أكدت هذه الدراسة الألمانية الجديدة ما خلصت إليه دراسات علمية سابقة، من كون اللغة الأم تترك بصمة واضحة في دماغ الإنسان، وتجعل تركيبته وفيزيولوجيته مميزة عن أي شخص آخر.

بحوث علمية تؤكد أن اللقاء باللغة العربية كأول أداة في التواصل يترك بصمة مميزة في دماغه ترافقه طيلة حياته

وكشفت نتائج دراسة علمية نشرت عام 2015، أن دماغ إنسان صيني تبنته أسرة فرنسية خلال طفولته، يحلل الأصوات التي تنتجها اللغة الفرنسية بشكل مختلف عن دماغ الإنسان الذي ولد ونشأ في فرنسا. ولاحظ العلماء بالمقابل أن دماغ هذا الإنسان الذي انتقل من بيئة صينية إلى أخرى فرنسية في طفولته، يصبح شبيها بأدمغة الأشخاص الذين يتحدثون اللغتين الفرنسية والصينية معا.[4]

فقد أوضحت الدراسة التي أنجزها باحثون في جامعة “مكغيل” الحكومية بمدينة مونتريال الواقعة بمقاطعة كيبك ذات الأغلبية الناطقة بالفرنسية، أن التعرض للغة الأم ولو لشهور قليلة بعد الولادة، يترك آثارا في دماغ الإنسان ترافقه طيلة حياته، وإن غيّر الانسان بالكامل اللغة التي يستعملها بفعل الهجرة أو التبني.

وباستعمال تقنية شبيهة بتلك التي اعتمدتها الدراسة الألمانية الجديدة -وتعرف اختصارا باسم (IRM)- أخضع الباحثون ثلاث مجموعات من الأطفال المتراوحة أعمارهم بين 10-17 سنة، للتصوير الدقيق للدماغ. وتتألف المجموعة الأولى من أطفال ولدوا ونشؤوا في أسر ناطقة باللغة الفرنسية فقط، والثانية من أطفال صينيين تبنتهم أسر فرنسية قبل أن يبلغوا 3 أعوام، بينما تتكون المجموعة الثالثة من أطفال صينيين تعلموا اللغة الفرنسية ويستعملونها إلى جانب لغتهم الأم.

دراسة علمية تثبت أن اللغة الأم تؤثّر على طريقة تشابك مناطق معيّنة في الدماغ

وخلصت الدراسة إلى أن أدمغة الأطفال الذين تعرضوا للغة الصينية في طفولتهم الأولى، تختلف عن أدمغة الأطفال الذين لم يعرفوا سوى اللغة الفرنسية، مما يعني وجود أنظمة عصبية مختلفة بحسب البيئة اللغوية التي ينشأ فيها كل إنسان. كما أكدت الدراسة أن أثر اللغة الأم يستمر في دماغ المرء، وإن قطع صلته بها وتعلم لغة جديدة.[5]

مهارات النطق.. محاكاة فطرية معقدة لسلوك البالغين

ظهرت معطيات علمية في عام 2007، تؤكد عبر دراسة الدماغ بأجهزة الرنين المغناطيسي والتصوير المخي، أن اللغة في الدماغ لها “نموذج ثنائي التيار” (Dual Stream Model) يشبه النظام السمعي والبصري، حيث تُستشعر معلومات الصور في تيارين مختلفين عبر مجموعتين من الشبكات العصبية.[6]

وتعتبر اللغة خاصة مميزة للإنسان عن غيره من الكائنات، يتعلّمها مند الطفولة بشكل شبه فطري وعن طريق محاكاة سلوك البالغين فقط، أي بدون حاجة إلى تلقين وتدريب مكثفين. وتعتبر مهارة النطق وتعلم اللغات من بين أكثر الظواهر تعقيدا وصعوبة في التفسير العلمي، رغم ما بلغته العلوم الحديثة من تطور.

وقد مكنت التطورات التقنية التي سمحت بتصوير دقيق للدماغ، من تحديد منطقتين أساسيتين تتعلقان باللغة في الدماغ البشري. الأولى هي منطقة “بروكا” وسميت بذلك نسبة إلى مكتشفها الطبيب الفرنسي “بيير بول بروكا” سنة 1861، وقد وصفها بأنها “مركز نطق اللغة”، وتوجد في مقدمة الجانب الدماغي المهيمن، غالبا الأيسر في الفص الجبهي، أما الثانية فهي منطقة “فيرنيك”، وقد سميت بذلك نسبة إلى “كارل فيرنيك” طبيب الأعصاب الألماني الجنسية، وتوجد في القسم الخلفي من الفص الصدغي بالمخ، وغالبا ما ترتبط باستيعاب اللغة.[7]

يمكن القول إن منطقة “بروكا” تتولى مهمة فهم اللغة وتلقيها، بينما تتولى منطقة “فيرنيك” مهمة تطوير القدرات الخاصة بالنطق وممارسة اللغة. وبينما تُخصص المنطقة الأولى مجالا خاصا ومعزولا لكل لغة على حدة، لا تقيم المنطقة الثانية أي فرق بين لغة وأخرى، وتقوم بالوظيفة نفسها مع جميع اللغات. وهو أمر يفسّر لماذا يجد بعض الأشخاص صعوبة كبيرة في تحدث لغة ما، رغم أنهم يفهمونها جيدا.[8]

أسرار الدماغ.. لغز يحمله الإنسان داخل جمجمته

يعتبر الدماغ البشري من أكثر الأعضاء تعقيدا في جسم الإنسان، إذ يستهلك 20% من طاقة الجسم فقط لتشغيل 2% من حجمه، وتضم 86 مليار خلية عصبية. وعندما تتفاعل تلك الخلايا معا بآليات غير مركزية تتعلق بدرجات مختلفة من التعقد وظهور بعض الصفات الجديدة الطارئة على النظام العصبي، مما يحمل بعض الباحثين على افتراض أن اللغة قد تكون هي سر الاختلافات الملاحظة بين أدمغة الناس.[9]

وقد أطلق الرئيس الأمريكي السابق “باراك أوباما” في عام 2013، مشروعا بحثيا ضخما بقيمة 5 مليارات دولار أمريكي، لتحسين فهم البشرية لأسرار الدماغ البشري. وكانت الغاية من هذا المشروع، استغلال التقنيات الحديثة لسبر أغوار هذا العضو، واستكشاف جينات الدماغ وخواصه الفسيولوجية، وحدّد لهذه المبادرة عام 2026 موعدا لإنهاء مهامها.[10]

دراسة علمية تظهر اختلافا بين مراكز الكلام للمتحدثين بالعربية والألمانية

وكشفت مجلة “نيتشر” (Nature) العلمية المتخصصة، في بداية أكتوبر/تشرين الأول 2021، بعض النتائج التي أنتجتها هذه المبادرة، وقد أطلق عليها اسم “أبحاث الدماغ من خلال النهوض بالتقنيات العصبية المبتكرة”، وشارك فيها مئات من العلماء من مختلف أنحاء العالم، لكنها لا تعِد بفك الشيفرة الخاصة بقدرة الدماغ البشري على معالجة سيل المعلومات الحسية التي تخبرنا بأننا جوعى أو بأننا نشعر بالبرد، أو تخلق حياة مليئة بالذكريات.[11]

ومن بين ما كشفته هذه الدراسة، أن دماغ الفأر يحوي حوالي 70 مليون خلية عصبية، بينما الدماغ البشري يحوي حوالي 86 مليارا من هذه الخلايا، كل منها مليء بالمشابك العصبية التي تسمح له بالاتصال بخلايا أخرى. هذا الفارق الكبير حمل بعض العلماء على افتراض أن إنشاء مخطط بدائي لوصلات الدماغ البشري النموذجي سيستغرق 50 عاما على الأقل[12].

اختلاف الأدمغة.. ظاهرة لا تشكل مزية ولا عيبا

تصحح نتائج الدراسة الألمانية الجديدة ما خلصت إليه دراسات علمية سابقة اعتمدت تقنيات المسح المغناطيسي لمكونات الدماغ البشري، وكانت تُظْهِر أنه رغم البناء المميز للجملة العربية، فإن المخ يفسرها على نحو مماثل لغيرها من اللغات.[13]

وقد نبّه القائمون على الدراسة الألمانية إلى أن الاختلافات المكتشفة بين الناطقين بلغات مختلفة، لا تعني تمتع هذا الفريق أو ذاك بمزايا ولا معاناته من عيوب، مقارنة بالمتحدثين بلغات أخرى. بل إن الاختلاف يكمن في شكل الارتباط بين أجزاء الدماغ، وذلك وفقا لطبيعة اللغة الأم، وبفعل التنشئة وتحت تأثير طبيعة اللغة الأم، وطبيعة المعالجة التي ينبغي للدماغ أن يقوم بها.[14]

أما الفائدة من معرفة هذه الاختلافات، فيجسدها العلماء الذين أشرفوا على الدراسة، باحتمال المساعدة في علاج بعض الأمراض، خاصة منها السكتة الدماغية، ذلك أن المعرفة الدقيقة بطبيعة الدماغ الذي يحمله المريض، يمكن أن يساعد في علاجه وتمكينه من استعادة بعض المهارات، مثل القدرة على الحديث.

وأُجريت الدراسة من خلال قيام الفريق بقيادة طالب الدكتوراه والمؤلف الرئيسي للبحث “شوي خو وي”، بفحص المادة البيضاء في أدمغة 94 شخصا، موزعين مناصفة بين متحدثين أصليين باللغة العربية ومتحدثين أصليين باللغة الألمانية. وحرص الباحثون على اختيار أشخاص لهم لغة أم واحدة، ولا يتحدثون (تقريبا) سوى تلك اللغة.

لسان العرب.. لغة تنشط في جهتي الدماغ

أُخضع المشاركون في الدراسة لعملية مسح بجهاز التصوير عبر الرنين المغناطيسي، بهدف الحصول على تشخيص عالي الدقة للأدمغة، بما في ذلك الروابط القائمة بين الألياف العصبية، فتبيّن وجود اختلاف بين الناطقين باللغة العربية والناطقين بالألمانية.

فبينما يلاحظ في أدمغة الناطقين ببعض اللغات، أن مركز الفهم والنطق يقع على الجهة اليمنى للدماغ فقط؛ توضح الدراسة الجديدة نشاط الدماغ على الجهتين لدى الناطقين بالعربية، دون أن يكون واضحا لماذا يقع ذلك، فهي أوضحت الفرق بين الناطقين باللغات فقط.[15]

يقع مركز الفهم والنطق لدى غير العرب على الجهة اليمنى للدماغ، في حين يقع لدى الناطقين بالعربية على الجهتين

ويقول معدّو الدراسة إن اللغة العربية تحتاج إلى إنصات وتركيز بين المتحدث والمستمع، خاصة من لا تعتبر العربية لغتهم الأم، وذلك لمعرفة ما إن كان المتحدث يقصد أن يقول “كتاب” أو “كاتب”؟ بما أن الجذر اللغوي للكلمتين هو نفسه “ك ت ب”.[16]

في المقابل، يحتاج الناطق باللغة الألمانية إلى التركيز في البنية النحوية للجملة، نظرا للتعقيد الذي تتسم به اللغة الألمانية.

لغة الضاد.. أم اللغات وأقدرها على البقاء

في انتظار المرحلة المقبلة من الدراسة، التي ينتظر أن تهتم بمعرفة التطور الذي يحصل في أدمغة الناطقين باللغة العربية حين يتعلمون اللغة الألمانية، يشير المختصون إلى أن الكبار حين يتعلمون لغات أخرى، تتغير الدورات الكهربائية في أدمغتهم، وهذا مفيد لهم لأنهم يصابون بنسبة أقل بمرض ألزهايمر، وتصبح لديهم قدرة أكبر على الاستيعاب والتفكير، خاصة إذا تعلموا هذه اللغات في عمر مبكر.[17]

وتزامنا مع انطلاق هذه الدراسات الكبرى حول أسرار الدماغ، تكشّفت للعالم بدءا من سنة 2013، حقيقة أخرى حول اللغة العربية، إذ تبيّن بناء على نتائج التخصصات الجامعية الجديدة التي ظهرت مطلع القرن الحادي والعشرين، وتعتمد على دراسة الأصوات بدل دراسة الحروف والمخطوطات؛ أن اللغة العربية هي أكثر لغات العالم قدرة على الصمود والاستمرار، حتى إذا كان مصير جميع لغات العالم الحالية هو الاندثار والاختفاء من الوجود بعد نهاية القرن الحالي، فإن اللغة الوحيدة التي ستبقى هي العربية، تليها بحظوظ أقل الصينية والإسبانية.

ورغم انتشارها الواسع وهيمنتها الحالية، فإن اللغة الإنجليزية غير محصنة ضد الاندثار، إذ يحتمل أن ينحصر وجودها في المستقبل البعيد في عالم المعلومات.[18]

وهناك حقيقة أخرى كشفتها الدراسات اللغوية الحديثة، مفادها أن العربية هي اللغة الأم لباقي اللغات كلها، أي حوالي 600 لغة موجودة في العام 2013، باستثناء الصينية التي يقر المختصون بقدرتها على مقارعة اللغة العربية من حيث الأصالة والقدم.

 

المصادر

[1] https://www.sciencedirect.com/science/article/pii/S1053811923001015

[2] https://www.mpg.de/20008844/our-native-language-shapes-the-brain-wiring

[3] https://www.bbc.com/arabic/vert-fut-50225595

[4] https://www.ledevoir.com/societe/science/456806/etude-la-langue-maternelle-laisse-une-empreinte-cerebrale

[5] https://www.ledevoir.com/societe/science/456806/etude-la-langue-maternelle-laisse-une-empreinte-cerebrale

[6] https://www.aljazeera.net/midan/miscellaneous/science/2017/4/9/كيف-يتعامل-الدماغ-مع-اللغة

[7] https://www.aljazeera.net/midan/miscellaneous/science/2017/4/9/كيف-يتعامل-الدماغ-مع-اللغة

[8] https://islam-et-science.forumactif.org/t30-la-langue-arabe-est-la-mere-des-langues

[9] https://www.aljazeera.net/midan/miscellaneous/science/2017/4/9/كيف-يتعامل-الدماغ-مع-اللغة

[10] https://arabicedition.nature.com/journal/2021/10/d41586-021-02660-x/طفرة-هائلة-في-علم-الأعصاب

[11] https://arabicedition.nature.com/journal/2021/10/d41586-021-02660-x/طفرة-هائلة-في-علم-الأعصاب

[12] https://arabicedition.nature.com/journal/2021/10/d41586-021-02660-x/طفرة-هائلة-في-علم-الأعصاب

[13] https://www.natureasia.com/ar/nmiddleeast/article/10.1038/nmiddleeast.2012.97

[14] https://www.dw.com/ar/دراسة-تكشف-مفاجأة-ـ-هكذا-يعالج-الدماغ-اللغتين-العربية-والألمانية/a-65215395

[15] https://www.skynewsarabia.com/technology/1615775-دراسة-تكشف-أسرارا-مثيرة-بشأن-أدمغة-الناطقين-بالعربية

[16] https://www.dw.com/ar/دراسة-تكشف-مفاجأة-ـ-هكذا-يعالج-الدماغ-اللغتين-العربية-والألمانية/a-65215395

[17] https://www.skynewsarabia.com/technology/1615775-دراسة-تكشف-أسرارا-مثيرة-بشأن-أدمغة-الناطقين-بالعربية

[18] https://islam-et-science.forumactif.org/t30-la-langue-arabe-est-la-mere-des-langues