ميكانيكا الكم.. صندوق الأسرار المعقدة والظواهر العجيبة في الكون

ذات مرة قال الفيزيائي اللامع “ريتشارد فاينمان” الحاصل على جائزة نوبل للفيزياء عام 1965: “لا أحد يفهم ميكانيكا الكم”. كثيرا ما يستخدم ذلك الاقتباس للتهكم من قبل طلاب الفيزياء الذين غلبهم تعقيد المسائل في فصول ميكانيكا الكم، فأحد أباطرة عالم الكم يعترف بصعوبتها الشديدة، فما بالك بطلاب لم يتخط عمرهم بعدُ عقدين من الزمن؟!

لكن ما قصده “فاينمان” بالضبط لم يكن كذلك، ولفهم تلك الفكرة دعنا نتأمل ما تعلمناه في المرحلة الابتدائية عن الذرة، فقد رُسمت لنا في كتب العلوم على أنها تشبه النظام الشمسي، فيها إلكترونات تدور في مسارات حول النواة، كما تدور الكواكب حول الشمس، لكن ذلك النموذج في الواقع غير صحيح، هو فقط محاولة للفهم، أو قُل لتقريب الصورة الحقيقية إلى عقولنا، وحينما تسأل: ما هي الصورة الحقيقية؟ فإن إجابة فاينمان ستكون “لا نعرف، وربما لن نعرف”.

يرى فاينمان أنه سيكون من الخطأ دائما أن نشبه ما يحدث في عالم الذرة بشيء في العالم الواقعي، لأن ما يحدث داخل الذرة لا يشبه أي شيء نعرفه على الإطلاق، لا نظام شمسي ولا درجات سلم ولا أي شيء يمكن أن يخطر حتى على بالنا، لأنه ببساطة يعمل بقوانين لم يكن أحد في العالم كله -سواء كان فيزيائيا أو شخصا عاديا- يتصور أنها ممكنة من الأصل.

“قطة شرودنغر”.. حية وميتة بنفس الوقت داخل الصندوق

دعنا مثلا نتأمل “قطة شرودنغر”، وهي تجربة فكرية اقترحها الفيزيائي النظري النمساوي “إروين شرودنغر” قبل نحو قرن من الآن، تقول القصة إن هناك صندوقا مغلقا فيه قطة، وكان مع القطة كمية ضئيلة من مادة مشعة يُحتمل أن تتحلل ذرة واحدة منها خلال ساعة، وكان معهما “عداد غايغر” الذي يقيس التحلل الإشعاعي حال حدوثه، والعداد مربوط بمطرقة، فإذا تحللت الذرة فإن عداد غايغر سوف يتحرك فيترك المطرقة لتقع، ولكنها لو وقعت ستكسر زجاجة تحتوي على غاز قاتل موجودة أسفلها، وتموت القطة.

هل كانت قطة شرودنغر حية أم ميتة وقت فتح الصندوق عليها؟

والآن تقف أنت أمام الصندوق المغلق وتسأل: هل القطة حية أم ميتة؟ في حياتنا العادية نستخدم أدوات لغوية تفصل بين حدثين يمكن فقط أن يحدث واحد منهما مثل “أو”، فالقطة بعد ساعة ستكون حية “أو” ميّتة، هذا بديهي بالنسبة لك، لكن من وجهة نظر ميكانيكا الكم، فإن القطة توجد بعد مرور ساعة في حالة مركّبة من الحياة والموت، أي أنها تكون حية وميتة في نفس الوقت.

هذه التجربة ليست إلا تمثيلا فكريا لتجربة فيزيائية تسمى “الشق المزدوج”، وقد استخدمت منذ قرون لتبيان الفارق بين الجسيمات المادية (مثل كرة تنس طاولة مثلا) والموجات (مثل موجات البحر أو موجات الضوء)، لكن في حالة الجسيمات دون الذرية، فإن نتائج هذه التجربة كانت محيرة للعلماء، لأن ما يبدو أنه جسيم مادي -مثل الإلكترون مثلا- يتصرف في هذه التجربة كموجة في بعض الأحيان وكجسيم في أحيان أخرى، ومن سمات الموجة أنها يمكن أن تمر من بابين مختلفين في نفس الوقت، لكن هل يعني ذلك أن الإلكترون -نفس الإلكترون- يمكن أن يمر خلال بابين مفتوحين في نفس الوقت؟

بحسب تفسير “كوبنهاغن” لميكانيكا الكم، فإن ذلك ممكن، ويتطور الأمر بعد ذلك لما نسميه “حالة التراكب الكمي”، وهي حالة يوجد فيها الجسيم في كل الاحتمالات الممكنة معا في نفس الوقت. يعني ذلك أن الذرة الموجودة داخل المادة المشعة في صندوق “شرودنغر” قد تحللت ولم تتحلل في نفس الوقت، وبالتبعية فإن عداد “غايغر” قد أسقط المطرقة ولم يسقطها في نفس الوقت، ويلي ذلك استنتاج “شرودنغر” أن القطة كانت ميتة وحية في نفس الوقت.

“مبدأ عدم اليقين”.. كرات البلياردو ذات الفوبيا

هل تأكدت مما قصده “فاينمان”؟ ففي كل مرة ندخل فيها إلى عالم الكم تملأنا مشاعر في غاية الغرابة لدرجة، أن “نيلز بور” الفيزيائي الدنماركي الشهير قال ذات مرة: “من لم تصبه ميكانيكا الكم بالدوار، فهو لم يفهمها بعد”.

مبدأ اللايقين أو عدم التحديد ينص على أنه لا يمكن تحديد قيمة موقع جسيم وزخمه بنفس الدقة في آن واحد

والآن دعنا ندخل إلى أجواء أغرب قليلا مما سبق، ولنتعرف مثلا على “مبدأ عدم اليقين” (Uncertainty Principle) الذي ينص على أنه لا يمكن تحديد خاصيتين مُقاستين من خواص نظام كمومي -نسبة إلى الكم- معا، إلا ضمن حدود معينة من الدقة. وأشهر الأمثلة هنا هو استحالة حساب موضع وسرعة الإلكترون معا في نفس الوقت؛ بل يمكن تحديد أحدهما بدرجة تقترب من اليقين، والآخر بدرجة تبتعد عنه.

هذا بالطبع كلام معقد، لكن لتقريب الأمر دعنا نتأمل حياتنا اليومية، في أي لحظة تقود سيارتك يمكنك أن تخبرنا بسرعتك وموضعك، فتقول: أنا الآن في هذه النقطة بين قرية كذا وقرية كذا، وأسير بسرعة 80 كم بالساعة، غوغل نفسه يفعل ذلك في تطبيق الخرائط، فيخبر الواحد منا بموضعه وسرعته الآن.

لكن على رغم ما يبدو من بديهة في هذا فإن الكون يأبى على الجسيمات دون الذرية أن تمتلك موضعا وسرعة محددين بدقة مثلما فعلت أنت قبل قليل، ولو افترضنا أننا كبّرنا حجم الإلكترون ليصبح بحكم كرة بلياردو (وما زالت نفس القوانين الكمومية تجري عليه) ثم وضعناه في صندوق مغلق، فإنه سيتحرك داخل الصندوق بشكل محموم متخبطا في جدرانه الأربعة، وربما كسرها.

ويشبه الإلكترون هنا شخصا مصابا برهاب الغرف المغلقة، حينما تغلق الغرفة فيتوتر ولا يقف على حال أبدا. وبالنسبة للإلكترون، فإنه لا يوجد شيء يدفعه لذلك، إنها فقط قوانين الكون تنص عليه – أو قُل تجبره- أن لا يمتلك موضعا محددا وسرعة محددة في آن، ولا يسمح فقط إلا بدرجات احتمالية تتقيد بـ”مبدأ عدم اليقين”.

“التموج الكمومي”.. حالة من التولد والفناء الأبدي

يمتد أثر “مبدأ عدم اليقين” للزمن والطاقة، إذ ينص المبدأ على أنه لا يمكن للطاقة -في نقطة محددة من الزمن- أن تبلغ قدرا محددا، ولو كان هذا القدر صفرا (أي لا شيء)، بل يجب دائما أن تستمر الطاقة في التأرجح (مثلما فعل الإلكترون قبل قليل).

الجسيمات وضديداتها تتخلق في كل لحظة وفي كل مكان لوقت قصير جدا دون توقف ثم يفني أحدها الآخر 

ولذلك فإننا إذا امتلكنا -على سبيل المثال- ممحاة سحرية يمكنها محو كل شيء في هذا الكون، النجوم والكواكب والمجرات بأكملها، فإن الفضاء الفارغ الباقي لا يمكن أبدا أن يحتوي على صفر طاقة، ولذلك يضطر الفضاء الفارغ نفسه -امتثالا لمبدأ عدم اليقين- أن يخلق حالة أدنى من الطاقة فيه. لذلك، تنشأ في الفراغ الفيزيائي أزواج موجبة وسالبة من جسيمات المادة والمادة المضادة، تسمى -لغرض التقريب- الجسيمات الافتراضية، ويشبه الأمر أن نقول إن حاصل جمع (1) و(-1) هو (0)، أي: فراغ، لا شيء.

وتولد هذه الجسيمات لقدر يسير جدا جدا من الزمن، ثم يُفني بعضها بعضا، تاركة قدرا طفيفا من الطاقة، وتنشأ تلك الجسيمات، ثم يفني بعضها بعضا في كل مكان بالكون وطوال الوقت، بحيث تحظر حالة الفضاء الفارغ نهائيا، وتسمى تلك الظاهرة بـ”التموج الكمومي”.

“النفق الكمومي”.. ظاهرة تتجاوز قوانين الميكانيكا الكلاسيكية

من أغرب الظواهر التي يمكن أن تشهدها في ميكانيكا الكم ما يسمى بـ”النفق الكمومي”، وتعرف بأنها احتمال غير صفري يمكّن الجسيم دون الذري من المضي قدما في حالة محظورة في الميكانيكا الكلاسيكية. وهذا بالطبع كلام معقد، لكن لفهمه تخيل أن عليًّا -مثلا- هو شاب اكتشف فجأة أنه قد ورث ثروة كبيرة من إحدى القريبات في الولايات المتحدة الأمريكية، ويجب أن يسافر ليستلمها، لكن هناك مشكلة، وهي أنه لا يمتلك نقودا لشراء تذاكر الطيران.

يحاول علي أن يقترض من أي صديق، لكنه لا يجد أحدا مستعدا للدفع، لكن أحدا من شركة الطيران أخبره أن الشركة يمكن أن تسمح له بالمرور إلى الولايات المتحدة دون دفع، بشرط أن يدفع في خلال ساعة واحدة فقط من وصوله، وهنا يسعد صديقنا حد السماء، فذلك بالضبط هو ما يطلبه، وسيحصل على النقود من المحامي في المطار ويدفع ديونه، ثم يستكمل إجراءاته.

هل مرّ هاري بوتر عبر الجدار عبر نفق كمومي؟ وهل يمكن أن يحدث ذلك حقيقة؟

الآن تخيل أن هناك كرة تنس أرضي ما، تقوم بضربها في الجدار فترجع إليك من جديد، وهكذا تستمر في الأمر بلا توقف. وفي الفيزياء الكلاسيكية هناك احتمال قدره صفر أن تمر تلك الكرة من الجدار إلى الجهة الأخرى، لأنها ببساطة لا تمتلك قدر الطاقة اللازم لاختراقه، أما لو كانت تلك الكرة تخضع لقوانين ميكانيكا الكم، فإن هناك احتمالا ضئيلا جدا جدا جدا، لكنه ليس صفرا، أن تقترض تلك الكرة قدرا من الطاقة لوهلة زمنية قصيرة جدا يسمح بها “مبدأ عدم اليقين” لـ”هايزنبرغ”، كي تمر من الجدار، ثم تعيد هذه الطاقة مرة أخرى كما في حالة صديقنا علي.

وفي الواقع، فإن هناك احتمالا قائما بالفعل أن تتمكن أنت من المرور عبر جدار حجرتك، إذا قررت المحاولة كل ثانية، مثلما فعل “هاري بوتر” ورفاقه عندما مروا إلى رصيف القطار عبر اختراق الجدار، لكنه مع الأسف احتمال صغير جدا، لدرجة أنه يجب عليك أن تحاول لمدة أطول من عمر الكون نفسه.

ورغم غرابة هذه الظاهرة، فإنها هي السبب في أنك تقرأ هذا الكلام الآن، فلولا النفق الكمومي لما تمكنت البروتونات في باطن الشمس من تجاوز ما يسمى بـ”حاجز كولوم” والاندماج معا، لبناء ذرات الهيليوم مع قدر من الطاقة هو الذي يجعل أي نجم نجما بالمعنى المفهوم، يشع ضوءا وحرارة تسمحان للحياة بالنمو والازدهار على كواكب مثل الأرض.

التشابك الكمّي.. تخاطر الجسيمات على أطراف المجرة

ورغم غرابة ما شهدناه للتو في ظاهرة “النفق الكمومي”، فإن ظاهرة “التشابك الكمّي” (Quantum Entanglement) تظل الأكثر إثارة للانتباه بالنسبة لكثير من الفيزيائيين، ثلاثة منهم حصلوا على جائزة نوبل في عام 2022 عن دراستهم لهذه الظاهرة، وهم الأمريكي “جون كلاوسر” والأسترالي “أنطون سايلينجر” والفرنسي “آليه أسبيه”.

فإحدى الخصائص الأساسية للجسيمات دون الذرية هي اللف أو الغزل (Spin)، ويشبه الأمر دوران الأرض حول نفسها مثلا. لكن كالعادة فإن هذا مجرد مثال للتقريب. والواقع أن اللف خاصية جوهرية محددة للجسيمات دون الذرية، ويشبه الأمر أن يكون من خصائص الإنسان أنه يضحك أو يبكي أو يتحدث أو يتخيّل، والأمر كذلك بالنسبة للجسيمات، فاللف من خصائصها.

التشابك الكمّي تخاطر بلا اتصال تتفاعل فيه الجسيمات الكونية معا مهما ابتعدت

ويشير التشابك الكمّي لوجود نوع من الارتباط بين الجسيمات دون الذرية، مفاده أننا حينما نقرأ لف الجسيم “أ” في لحظة ما، فإن قراءة لف الجسيم “ب” المتشابك معه كميا في اللحظة نفسها سوف تكون معاكسة، ومهما قمنا بتكرار التجربة وبأي طريقة، فإن اللف سيكون معاكسا، وسيحدث ذلك بشكل لحظي تماما.

والغريب أن ذلك يحدث على أي مسافة بين الجسيمات، حتى لو وضعنا أحد الجسيمين في طرف مجرتنا درب التبانة، والجسيم الآخر في طرف المجرة المعاكس على مسافة ألف مليون تريليون كيلومتر. وبالطبع يناقض ذلك أحد الأسس المهمة للنظرية النسبية، وهي أنه لا يمكن للتأثير أن يقع بأكبر من سرعة الضوء، لذلك تصور “أينشتاين” أن التشابك الكمي يحتوي على خدعة ما لا نعرفها، لكن ثلاثي نوبل 2022 أثبت أنه لا توجد خدع، وهذا التأثير اللحظي الغريب يحدث، ولا يوجد أي تفسير له إلى الآن.

ويشبه الأمر في غرابته -وهذا التشبيه فقط لغرض التقريب- أن يرفع شخص يدعى حسن يديه في كوكب الأرض، وفي نفس اللحظة، يخفض أخوه عمر يديه على كوكب الأرض، بدون أي ترابط بينهما. هذا بالطبع بافتراض أن حسن وعمر يخضعان لقوانين ميكانيكا الكم، لكنهما في الحقيقة لا يفعلان ذلك في واقعنا الطبيعي.

وإلى الآن، تظل الظواهر الكمومية هي الأغرب على الإطلاق في تاريخ العلم، وهي من الغرابة بحيث أن فريقا من علماء الكم على رأسهم “نيلز بور” قال إنه ليس من الضروري، ولا من الممكن، أن نعرف واقع ما يحدث داخل الصناديق المغلقة (صندوق قطة شرودنغر أو الذرة على أية حال)، ومن الضروري أن نبتكر نماذج رياضية مفيدة جدا في توقُّع مستقبل هذه الصناديق بلغة الاحتمالات، بغض النظر عن جوهرها.

والغريب في الأمر أن هذه الطريقة نجحت لدرجت أنها أعطت النتائج الأدق في تاريخ الفيزياء إلى الآن، ونحن نعيش في كنف تطبيقاتها العلمية كل يوم.

 

المصادر

1- الكون الأنيق- براين جرين

2- البحث عن قطة شرودنغر- جون جريبن.

3- What Is the Uncertainty Principle and Why Is It Important?

https://scienceexchange.caltech.edu/topics/quantum-science-explained/uncertainty-principle

4- Schrödinger’s Cat Experiment and the Conundrum That Rules Modern Physics

https://www.discovermagazine.com/the-sciences/schroedingers-cat-experiment-and-the-conundrum-that-rules-modern-physics

5- Quantum Fluctuation

https://universe-review.ca/R03-01-quantumflu.htm

6- Quantum Tunneling of Particles through Potential Barriers

https://phys.libretexts.org/Bookshelves/University_Physics/Book%3A_University_Physics_(OpenStax)/University_Physics_III_-_Optics_and_Modern_Physics_(OpenStax)/07%3A_Quantum_Mechanics/7.07%3A_Quantum_Tunneling_of_Particles_through_Potential_Barriers

7- فلسفة الكوانتم – رولان أومنيس

8- Quantum Mechanics

https://plato.stanford.edu/entries/qm/

9- The Nobel Prize in Physics 2022

https://www.nobelprize.org/prizes/physics/2022/popular-information/