سماع الموسيقى.. حقائق وخرافات حول الذكاء وتحفيز الدماغ

1088377636

لطالما كان للموسيقى تأثير عظيم سحر البشرية منذ قديم الزمن، حتى أن الفيلسوف اليوناني أفلاطون وصفها قبل أكثر من ألفي وثلاثمائة سنة بأنها “قانون أخلاقي”، أما “آرثر شوبنهاور” الفيلسوف الألماني الذي عاش قبل قرنين من الزمان فقد قال إن “الموسيقى أكثر اختراقا لذواتنا من كل الفنون الأخرى، لأن كل تلك الفنون تخاطب الظلال فقط، بينما تخاطب الموسيقى الجوهر”.

“تأثير موزارت”.. أنغام تحفز مهارات التفكير المكاني

تجولت الموسيقى في أروقة المفكرين والفلاسفة والشعراء على مدى آلاف السنوات، لكن في عام 1993 لفت انتباهَ العالم أجمع رابطٌ جديد ظهر بين الموسيقى وأدمغتنا، حينما أجرى ثلاثة علماء في مركز العلوم العصبية بجامعة كاليفورنيا الأمريكية تجربة لاختبار الأمر، وهم “فرانسيس راوشر” و”جوردون شو” و”كاثرين كي”.

قام العلماء بفحص تأثير الاستماع إلى موسيقى “موزارت” على فرع من مهارات التفكير يسمى “التفكير المكاني”، وهو ما يعني القدرة على استيعاب وتفسير وتذكر العلاقات المكانية فيما بين العناصر والمساحة. فمثلا يمتلك لاعبو كرة القدم المهرة قدرات أكبر في التفكير المكاني، فيمكنهم إحراز أهداف في مساحات دقيقة من المرمى، ويمكن للاعبي النبالة -وهم أصحاب القدرات الأعلى في التفكير المكاني- توجيه السهم بدقة أكبر للهدف.

“تأثير موزارت.. استغلال قوة الموسيقى لشفاء الجسد، وتقوية العقل ، وإطلاق الروح الإبداعية

في التجارب، قُسم المشاركون إلى فريقين، كلاهما تلقى ثلاثة اختبارات قياسية للتفكير المكاني، لكن فريقا منهما لم يستمع لأي شيء في الخلفية، بينما استمع الفريق الآخر إلى مقطوعة “بيانو سوناتا” التي قدمها الموسيقي النمساوي الشهير “فولفغانغ أماديوس موزارت” في عام 1781 عندما كان ابن 25 عاما. وقد وجدت النتائج تحسنا مؤقتا للتفكير المكاني لمدة 15 دقيقة.

تقوية العقل وإطلاق الإبداع.. سحر الموسيقى الكلاسيكية

بعد صدور تلك الدراسة ونشرها في مجلة “نيتشر” المرموقة، انطلقت كرة الثلج التي تزايدت مع الزمن، وظهر ما سمي “تأثير موزارت”، ففي عام 1994 كتب “أليكس روس” لعمود الموسيقي في نيويورك تايمز أن الباحثين وجدوا أن الاستماع إلى “موزارت” يجعلك أكثر ذكاء.

هل للموسيقى أثر إيجابي على الناس أثناء أدائهم أعمالهم؟

وتطور الأمر من هنا إلى ظهور كتاب “تأثير موزارت.. استغلال قوة الموسيقى لشفاء الجسد، وتقوية العقل، وإطلاق الروح الإبداعية”، للكاتب “دون كامبل” عام 1997. ويقول فيه إن الاستماع إلى “موزارت” -خاصة كونشيرتو البيانو- يزيد مؤقتا معدل ذكاء المرء وينتج عددا من الآثار المفيدة الأخرى على الوظيفة العقلية، وأوصى المؤلف “كامبل” بتشغيل موسيقى كلاسيكية مختارة خصيصا للأطفال، لأنها ستفيد نموهم العقلي.

ووصل الأمر لدرجة أن حاكم ولاية جورجيا الأمريكية اقترح في 1998 ميزانية قدرها أكثر من 100 ألف دولار سنويا لتزويد كل طفل يولد في الولاية بشريط أو قرص مضغوط يحتوي على موسيقى كلاسيكية.

انهيار النظرية.. آفات سوء الترويج والتفسير المتهافت

مع بداية الألفية، تحول تأثير الموسيقى من مجرد دراسة لحالة خاصة إلى شائعة عامة يصدقها الملايين حول العالم، وتقول إن الموسيقى بشكل عام تساعد الجميع (وبشكل خاص الأطفال) على تطوير قدراتهم العقلية، ومن هنا انطلقت كتب ومساقات بالجملة تشرح هذا التأثير وتوظفه لأجل حياة سعيدة، مثلما تفعل كتب التنمية البشرية.

وظهر أول خطأ في فهم تأثير الموسيقى من المروجين لهذه الدراسات في طريقة نقلهم للنتائج، فالتجربة الأولى التي أثارت هذه الضجة في التسعينيات أظهرت فقط زيادة في “الذكاء المكاني” ولمدة قصيرة لم تتخط 15 دقيقة، ولكن شعبيا فُسرت النتائج على أنها زيادة في معدل الذكاء العام.

تأثير موزارت دراسة مفادها أن الموسيقى تزيد من التركيز والمتعة اثناء أداء الأعمال

وقد وضعت البحوث اللاحقة تحديات كبيرة أمام نتائج الدراسة الأولى، ففي عام 1999 مثلا صدرت ورقات بحثية في دوريتي “نيتشر” و”سايكولوجيكال ساينسز” أشارت إلى أن التحسّن المعرفي الصغير لا يعكس تغيرا في معدل الذكاء، بل ربما يرجع إلى استمتاع الشخص أثناء تأدية المهمة، الأمر الذي يحسن الأداء بغض النظر عن الذكاء.

وقد وجدت الدراستان أن الاستماع إلى “موزارت” مثلا أو حتى مقطع صوتي مقروء من قصة للكاتب “ستيفن كينغ” قد عزز أداء المشاركين في مهمة لطي الورق وقطعه بالمقص، فقط حينما استمتع الشخص بما استمع إليه.

تعلم العزف.. متنفس لإبداع الطفل وبذرة لتقدير الذات

وجد فريق بحثي من جامعة هارفارد عام 2013 أن الأطفال يحصلون على كثير من الفوائد من دروس الموسيقى بالفعل، إذ يمكن أن يكون تعلم العزف على آلة موسيقية متنفسا رائعا لإبداع الطفل، ويمكن للممارسة المتكررة بشكل عام أن تعلم التركيز والانضباط، وكذلك تعزز الشعور بالمكافأة بعد تعلم أغنية جديدة أو إتقان نمط معين من العزف، الأمر الذي يعزز بالتبعية تقدير الذات.

لكن بعيدا عن كل ما سبق، وجد هذا الفريق البحثي أن إحدى الفوائد التي يُستشهد بها كثيرا -وهي أن دراسة الموسيقى تحسن الذكاء- تعد خرافة، فالتدريب الموسيقي ليس له أي تأثير على القدرات المعرفية للأطفال الصغار.

لذا فحص هذا الفريق عشرات من الدراسات التي بحثت فيما إذا كانت الموسيقى ترفع المهارات الإدراكية، فوجدوا أن خمسا منها فقط تستخدم التجارب العشوائية، وهي المعيار الذهبي لتحديد العلاقات السببية في مثل هذا النوع من التجارب. ومن بين الدراسات الخمسة أظهرت واحدة فقط تأثيرا إيجابيا واضحا.

هل تؤثر الموسيقى على النمو الدماغي لدى الأطفال وتزيد من ذكائهم؟

قام هذا الفريق كذلك بالتجريب على 29 طفلا اختارهم بشكل عشوائي تماما، ثم قسمهم على مجموعتين، واحدة منهما تلقت دروسا في الموسيقى، والأخرى تلقت دروسا في أنشطة أخرى، ثم قام الفريق بقياس أربع مهارات إدراكية هامة، لكن لم تظهر نتائج الدراسة أي دليل على الفوائد المعرفية للتدريب على الموسيقى.

والخلاصة أن إجماع العلماء في المجتمع النفسي الآن يشكك في الادعاء القائل إن تشغيل الموسيقى الكلاسيكية للأطفال يمكن أن يعزز ذكائهم، وينظر إلى الأمر على أنه أسطورة.

شفاء الأمراض.. خرافات وتجارب تفتقر للتوثيق

في الآونة الماضية شهد تأثير “موزارت” إضافة جديدة، فقد أبلغت بعض الدراسات عن انحسار بعض من الأعراض لدى مرضى الصرع بعد أن استمعوا إلى مقطوعة “بيانو سوناتا”. ومع ذلك، أظهر بحث صدر في مارس 2023 لـ”ساندرا أوبيرليتر” و”جاكوب بيتشنغ” من جامعة فيينا، أنه لا يوجد دليل موثوق به لتأكيد مثل هذا التأثير المفيد لموسيقى “موزارت” على المصابين بالصرع.

وأضاف الباحثون في دراستهم التي فحصت عددا من الدراسات الأخرى عن هذا الأمر، أن تأثير “موزارت” المزعوم يمكن أن يُعزى بشكل أساسي إلى تجارب انتقائية وأحجام عينات صغيرة وممارسات بحثية غير كافية.

كثيرون يفضلون الاستماع إلى الموسيقى أثناء الدراسة فهي تزيد من تركيزهم وتشعرهم بالمتعة

ولا تقف الخرافات المتعلقة بالموسيقى عند هذا الحد، فقد أصبح شائعا لدى الكثيرين -لا سيما الطلبة- أن تشغيل مجموعة من المقطوعات الموسيقية أو الأغاني التي تحبها في الخلفية بينما تستذكر دروسك أو تؤدي عملا يتطلب منك بعض التركيز كالقراءة أو قيادة السيّارة، يساعدك بالفعل في التركيز بشكل أكبر أثناء أدائك تلك المهام.

رفيقة المذاكرة.. خدعة الطلاب للتأثير على الدماغ

فنّد باحثون من جامعة “كارديف متروبوليتان” الأمريكية قبل عدة سنوات أثر تشغيل الموسيقى على المذاكرة، عبر تقسيم مجموعة من الطلاب إلى أربعة مجموعات لقراءة مقالات محددة، الأولى استمعت في الخلفية إلى موسيقى فقط، والثانية إلى نوع من الأغاني محبب بالنسبة لهم، والثالثة إلى نوع من الأغاني لا يفضلونه، والأخيرة إلى لا شيء. وتقول الدراسة إن هؤلاء الذين قرأوا تلك المقالات في أجواء صامتة كانوا أفضل في أدائهم بمقدار 60% من هؤلاء الذين أدوا نفس المهمة في أجواء احتوت أغاني في الخلفية.

وفي مجموعة من التجارب اللاحقة، كان على الخاضع للتجربة أن يتذكر مجموعة من الحروف أو الأرقام التي تعلمها بترتيب محدد في حالتين، الأولى تتضمن وجود موسيقى وأغان في الخلفية، والثانية تتطلب صمتا تاما، وقد جاءت النتائج لتقول إن الأداء كان أفضل في حالة الصمت التام، ثم الموسيقى بدون كلمات، ثم الأغاني.

وكان فريق بحثي من عدة جامعات سويدية وإنجليزية في 2019 قد كرر نفس التجارب، لكن مع إخضاع المشاركين لمجموعة من الاختبارات التي تقيس إحدى المهام الإبداعية المهمة، وهي ما يسمى بالبصيرة اللغوية، لكن أداء الخاضعين للتجارب في الحالات الثلاث كان سيئا بفارق واضح عن أقرانهم الذين خضعوا لنفس الاختبارات الإبداعية في خلفية صامتة.

والواقع أن هناك عاملا في انتشار هذه الخرافة المتعلقة بالرابط بين الموسيقى والتركيز، وهو أن البعض سيقول إنه جرب الاستماع إلى الموسيقى أثناء استذكار دروسه، وكان هذا مفيدا، لكن في هذه الحالة ربما يكون كل ما يفعله الشخص هو التبديل بين مشتت أكبر ومشتت أخف، بمعنى أن هؤلاء بطبعهم يصابون بالتشتت مع أقل صوت في الخلفية، وليكن مثلا سيارة في الشارع أو صياحا في المنزل المجاور أو إشعارا من الهاتف، لذلك يفضلون تشويشا منتظما مثل موسيقى هادئة مستمرة على تشويش متقطع يمكن أن يكون مزعجا وغير متوقع، لكن في كل الأحوال يظل التشويش مؤثرا على التركيز.

مثيرة العواطف.. لغة عالمية تحرك النفس البشرية

في النهاية، ما زالت الموسيقى شيئا غير مفهوم بالنسبة للعلماء، فهي لغة عالمية معقدة بحسب دراسة نشرت في دورية “بي إن إيه إس” الشهيرة. وكلمة “لغة” هنا لا تعني لغة مثل لغتنا التي نتحدث بها، لأن الموسيقى لا تحمل أي دلالات بالمعنى المفهوم في علم اللسانيات، لكن المقصود أن العالم كله يتأثر بها بنفس الطرق على تنوعها، فيحزنون جميعا للموسيقى الحزينة ويبتهجون للموسيقى المبهجة، ويتفقون على ذلك بشكل عام.

فنحن -على سبيل المثال- نميل إلى ترجمة الموسيقى -كأي شيء آخر- إلى صور في مخيلتنا، فمثلا الموسيقى المتصاعدة تستدعي تكوين الدماغ لصورة صاعدة كدرجات سلّم، كذلك تستدعي الموسيقى الهادئة مشهدا هادئا في الدماغ مثل المشاهد الطبيعية التي يرفقها البعض في مقاطع الفيديو القصيرة على تيك توك أو إنستغرام حين عرض الموسيقى الهادئة.

ويرى الباحثون في هذا السياق أن الموسيقى قادرة على إثارة 13 عاطفة مختلفة في البشر، وهي التسلية والفرح والإثارة والجمال والاسترخاء والحزن والحلم والانتصار والقلق والشعور بالتفرد والانزعاج والتحدي والحماسة. هذا التعقد في المشاعر التي تستثيرها الموسيقى يخلق حالة فريدة لكل شخص على هذا الكوكب.

 

المصادر

1- Music and spatial task performance Frances H. Rauscher, Gordon L. Shaw & Catherine N. Ky

https://www.nature.com/articles/365611a0

2- CLASSICAL VIEW; Listening To Prozac . . . Er, Mozart

https://www.nytimes.com/1994/08/28/arts/classical-view-listening-to-prozac-er-mozart.html

3- Prelude or requiem for the ‘Mozart effect’?

https://www.nature.com/articles/23608

4- The Mystery of the Mozart Effect: Failure to Replicate

https://journals.sagepub.com/doi/10.1111/1467-9280.00169

5- Two Randomized Trials Provide No Consistent Evidence for Nonmusical Cognitive Benefits of Brief Preschool Music Enrichment

https://journals.plos.org/plosone/article?id=10.1371/journal.pone.0082007

6- Unfounded authority, underpowered studies, and non-transparent reporting perpetuate the Mozart effect myth: a multiverse meta-analysis

https://www.nature.com/articles/s41598-023-30206-w

7- Does listening to preferred music improve reading comprehension performance?

https://onlinelibrary.wiley.com/doi/full/10.1002/acp.2994

8- Background music stints creativity: Evidence from compound remote associate tasks

https://onlinelibrary.wiley.com/doi/10.1002/acp.3532

9- What music makes us feel: At least 13 dimensions organize subjective experiences associated with music across different cultures

https://www.pnas.org/doi/abs/10.1073/pnas.1910704117