النجوم الثنائية.. عناقات سماوية لا تكاد تراها العين المجردة

من النجوم التي لفتت انتباه العرب قديما نجم السهى، وهو نجم خافت قريب جدا من نجم لامع يسمى المئزر، وكان يضرب بالسهى المثل في خفوت الموضوع أثناء النقاش، فيقول أحدهم مثلا “أريها السهى وتريني القمر”، في كناية عن اختلاف التفكير. وكذلك كان الناس يستخدمونه لاختبار قوة أبصارهم، لو رأيته فإن ذلك يعني حدة البصر. وإلى جانب ذلك كان البعض ينظرون إليه من أجل التأمين من السرقة ولسع العقرب والحية، فيقول الشخص قبل نومه “أعوذ برب السُهيّة من كل عقرب وحية”.

ويسمى السهى في الأطالس النجمية المعاصرة “ألكور” (Alcor)، ونعرف الآن أنه نجم أبيض ضخم يعد أكبر في الكتلة من الشمس بحوالي الضعف، وأكبر في اللمعان كذلك، بحيث أنه لو وضع في سمائنا لكانت أيامنا مشمسة بفارق 14 ضعفا. وما زال هذا النجم يحتل مكانة هامة في السماء بالنسبة لهواة الفلك، فهو ورفيقه المئزر من أشهر النجوم الثنائية البصرية في سماء الليل، ويمكنك رصدها بالعين المجردة، وهما في كوكبة الدب الأكبر أو بنات نعش الكبرى.

توائم السماء.. عناق نجمي لا تراه العين المجردة

النجوم الثنائية هي ببساطة نجوم تدور حول بعضها، وقد تندهش حينما تعرف أن حوالي نصف النجوم الظاهرة في السماء ليلا هي نجوم ثنائية، لكن من الصعب أن نلاحظ ذلك بأعيننا لأنها بعيدة جدا فلا يبدو إلا ألمعُ النجمين. ويشبه الأمر أن يقف صديقان إلى جوار بعضهما على مسافة كيلومتر أو كيلومترين منك، فيمكن أن تراهما إذا كان نظرك حادا، لكنك غالبا ستراهما شخصا واحدا واقفا، بسبب تقاربهما النسبي مقارنة بالمسافة بينهما وبينك.

أنظمة النجوم الثنائية، ظاهرة فلكية منتشرة في السماء

ويرى العلماء أن النجوم الثنائية أكثر شيوعا بفارق كبير من النجوم المنفردة في مجرتنا درب التبانة، ويظن فريق منهم أن الشمس نفسها كانت يوما ما نجما ثنائيا. وقد بُني هذا الافتراض على دراسة هيكل “سحابة أورت” الموجودة في الباحة الخلفية لمجموعتنا الشمسية، إذ يشير ثباتها إلى وجود سابق لقوى جاذبية أكبر من الشمس وحدها.

ففي عام 2018 أعلن فريق بقيادة علماء فلك برتغاليين أنهم حددوا توأم الشمس على بعد 184 سنة ضوئية تقريبا من الأرض، وهو نجم سمي “أتش دي 186302″، لكن من المبكر جدا تأكيد نتائج كتلك.

مركز الكتلة.. كعبة تطوف بها الأجرام الثنائية

والسبب في وجود النجوم الثنائية مفهوم بالطبع، فالغالبية العظمى من النجوم تنشأ بالأساس في صورة مجموعات تشبه الحضانات الضخمة داخل سحب غازية شاسعة زاخرة بالهيدروجين، يحوي كل منها مئات أو آلافا من النجوم حديثة الولادة، وبالتبعية فإن تقارب تلك النجوم يفتح الباب لأن تتأثر بجاذبية بعضها. ومن أشهر الأمثلة على هذه التجمعات النجمية “الثريا”، وهي عنقود نجمي يوجد في كوكبة الثور، يمكن بسهولة أن تراه بعينيك، فهو يشبه خطّافا صغيرا من نجوم خافتة.

عنقود الثريا، نجوم ولدت من غيمة سديمية واحدة

والواقع أن دوران الأجرام السماوية حول بعضها يخضع لنفس القوانين، سواء كنا نتحدث عن كواكب أو نجوم، وهذه القوانين تفرض أن يدور الجرمان حول ما يسمى بمركز الكتلة بينهما، وهو نقطة تعتمد على كتلة الجرمين كليهما، فإذا كانت كتلتا الجرمين متساوية فإنهما يدوران معا حول نقطة في المنتصف تماما بينهما، وكلما ازدادت كتلة جرم منهما على الآخر اقتربت تلك النقطة من الجرم الأكبر في الكتلة، وإذا كان فارق الكتلة كبيرا فستقترب النقطة من الجرم الأكبر في الكتلة حتى تدخل فيه.

فإذا كنا نتحدث عن الشمس وكوكب الأرض مثلا فإن مركز الكتلة قريب جدا من مركز الشمس، أي داخلها، وذلك لصغر كتلة الأرض وعظم كتلة الشمس. أما في حالة النجوم، فإن لم يكن فارق الكتلة كبيرا بهذا الشكل، فإنهما سيدوران معا حول مركز مشترك بينهما.

اكتشاف الثنائيات.. بداية تاريخ النجوم الراقصة

يرجع تاريخ ملاحظة النجوم الثنائية إلى بدايات اختراع التلسكوب، لكن أول دليل على أن تلك النجوم ليست مجرد محاذاة بصرية كحال السهى والمئزر؛ ظهر في عام 1767 عندما أدخل الفيلسوف الإنجليزي “جون ميشيل” الإحصاء إلى دراسة النجوم، موضحا في ورقة بحثية أن عددا من النجوم تنشأ في صورة أزواج تُشد إلى بعضها عن طريق الجاذبية.

الفلكي البريطاني “ويليام هيرشل” أول من أشار إلى أن النجوم الثنائية تصنع أنظمة مستقلة

وبعد هذا التاريخ بحوالي 8 سنوات أشار الفلكي والملحن البريطاني “ويليام هيرشل” أن بعض ثنائيات النجوم قد تصنع نظاما مستقلا يتأثر كل من فرديه بجاذبية الآخر. وكان “هيرشل” يقيس تغير موقع ولمعان مجموعة من النجوم في السماء عبر تلسكوبه الضخم، فاكتشف أن بعض النجوم تبدو كأنها تتخذ مدارات حول بعضها، لذا جمع أكثر من 700 زوج منها في قائمة خاصة، وكان هو أول من سماها الثنائيات (Binary Stars).

تدور الثنائيات حول مركز كتلة مشترك، يكون أقرب إلى الجرم الأكبر كتلة

وعلى مر السنين، بدأت فهرسة عدد من النجوم المزدوجة وقياسها، وتصدر لها الآن أطالس خاصة للهواة والمتخصصين، وقوائم ممتلئة بعشرات الآلاف منها. لكن تجدر الإشارة إلى أن وجود نجمين متجاورين في السماء لا يعني بالضرورة أنهما يدوران حول بعضهما، فربما يكون ذلك وهما بالنسبة للناظر من على الأرض. في تلك الحالة نسمّيها ثنائيات بصرية أو كاذبة (Optical Binary).

الشعرى اليمانية.. ثنائية ألمع نجوم السماء

يعد أحد أشهر الأمثلة التي نعرفها من تلك النجوم الثنائية هو نجم “الشعرى ب”، وهو يدور مع الشعرى اليمانية (Sirius) حول مركز كتلة يميل ناحية الشعرى اليمانية (وفي هذه الحالة يسمى الشعرى أ) وهو ذو الكتلة الأكبر. فالشعرى أ هو ألمع نجوم السماء على الإطلاق، وهو عملاق أبيض، بينما رفيقه قزم أبيض بحجم كوكب أورانوس (4 أضعاف قطر الأرض) مثلا، لكن كتلته تساوي كتلة الشمس تقريبا.

غير أنه من الصعب جدا رصد رفيق الشعرى اليمانية بتلسكوب هواة بقطر مثلا 4-6 بوصات (10-15 سم)، إذ يتطلب الأمر تلسكوبا أكبر. لكن على الرغم من ذلك فهناك مجموعات من النجوم الثنائية يمكن أن تراها بسهولة بذلك التلسكوب.

ثنائي “منقار الدجاجة” أجمل ثنائيات النجوم في السماء على الإطلاق

وأشهر النجوم الثنائية وأجملها وأكثرها رصدا في سماء الليل هو ثنائي “ألبيريو” أو منقار الدجاجة (Albireo) المكوّن من نجمين أحدهما أزرق والآخر أصفر، لكنها لا يُريان إلا بالتلسكوب، وكلما زاد قطر التلسكوب كان الثنائي أكثر إثارة. وبزيادة قطر التلسكوب نستطيع رؤية نجم مرافق للنجم الأول، وبذلك يصبح النظام ثلاثيا.

ثنائي المئزر والسهى.. مشهد بديع في كوكبة بنات نعش

ثنائي المئزر والسهى هو ثنائي بديع حقا في أي تلسكوب صغير للهواة، بل ربما قد يزيد شعورك بالسحر أن تعرف أن ما تنظر إليه خلال تلسكوبك البسيط ليس مجرد نجمين يدوران حول بعضهما، بل إنهما ستة نجوم (غير مرئية لتلسكوبات الهواة)، فالسهى يرافقه قزم أحمر، وأما المئزر فيتكون من نجمين يدوران حول بعضهما، وكل منهما نجم ثنائي أيضا. (في حالة وجود أنظمة نجمية بها أكثر من نجمين فإنها تسمى “نجم متعدد” Multiple star).

ثنائي المئزر- السهى هو أشهر ثنائي نجمي في السماء، حيث كانت العرب تمتحن برؤية نجم السهى أبصارهم

ينضم هذا الثنائي ورفاقه إلى كوكبة الدب الأكبر المتحركة (بنات نعش الكبرى)، وهي مجموعة من النجوم تشكل الكثير من نجوم كوكبة الدب الأكبر، وتتحرك جميعا بالسرعة نفسها وفي الاتجاه نفسه ناحية كوكبة القوس، وكذلك فإن لها جميعا تركيبا كيميائيا متشابها، ولها تقريبا العمر نفسه، ويرى فريق من العلماء أن تلك المجموعة من النجوم كانت قبل نصف مليار سنة جزءا من سحابة نجمية واحدة.

وبعد رصد ثنائي المئزر والسهى، يمكنك أن تنتقل إلى الثنائي “إبسلون القيثارة” (Epsilon Lyrae) في كوكبة القيثارة أو اللورا، ويبعد عنا حوالي 160 سنة ضوئية. ومن الممكن رؤية الثنائي بصعوبة بعينك المجردة، وبسهولة عبر تلسكوب صغير.

ثنائي “إبسلون القيثارة” المعروف بـ”ثنائي الثنائي”

لكنك إذا استعملت تلسكوبا أكبر قليلا بقطر 8 بوصات مثلا أكبر، فإنك سوف تكتشف أن كل فرد منهما يتكون من نجمين يدوران حول بعضهما، ولذلك تسمى هذه المنظومة بين هواة الفلك “ثنائي الثنائي”. وفي عام 1985 حدد العلماء أن واحدا من هذه النجوم الأربعة هو بدوره ثنائي آخر، مما يعني أننا نتحدث عن نظام نجمي يتكون على الأقل من خمسة نجوم، ونقول -على الأقل- لأن الباب بالفعل مفتوح لدراسة المنظومات الثنائية في إبسلون القيثارة.

ظهر الناقة.. ثنائي لطيف يجذب أنظار الهواة

هناك ثنائي آخر يعد من أفضل وأشهر الثنائيات بالنسبة لهواة الفلك، ومن الممكن رؤيته بسهولة عبر التلسكوب، وهو “إيتا ذات الكرسي” (Eta Cassiopeiae)، ويسمى أيضا “ظهر الناقة” (Achird)، فهو ثنائي جميل يقع من الأرض على مسافة حوالي 20 سنة ضوئية، وقد اكتُشف أول مرة قبل ثلاثة قرون على يد الفلكي “ويليام هيرشل”، وهناك ميزة لطيفة لهذا الثنائي، وهي الفارق اللوني الواضح بين الرفيقين (أبيض وبرتقالي).

ثنائي “ظهر الناقة” في كوكبة ذات الكرسي يظهر بلونين أبيض وبرتقالي

والمسافة بين هذا النجم ورفيقه تسمح بدورة قدرها حوالي 500 سنة، لكن المسافة الظاهرة بينهما في السماء بالنسبة لنا هي 11 ثانية قوسية، إذ تقاس المسافة الظاهرية بين الرفيقين في الأنظمة الثنائية بالثواني القوسية، والدرجات القوسية (وهي أيضا تنقسم إلى دقائق وثوان قوسية)، وهي وحدة قياس المسافات في السماء بشكل عام.

وهناك طريقة مبسطة يمكنك خلالها أن تفحص قدرة تلسكوبك على فصل الثنائي؛ قم بقسمة الرقم 750 على الفارق بالثواني القوسية بين الرفيقين، وسيكون الناتج أنسب قوة تكبير يمكن خلالها أن ترى الثنائي بأفضل صورة. وهنا يمكن أن تستخدم عدسات تلسكوبك العينية للوصول إلى التكبير المناسب، ويمكنك حساب قوة تكبير تلسكوبك بشكل عام عبر قسمة البعد البؤري للتلسكوب على البعد البؤري للعدسة العينية، ولا تقلق فلا تعقيد في ذلك، فكلها بيانات تجدها مدونة على التلسكوب والعدسات.

نجم العناق.. ثنائيات متناسلة وألوان مدهشة

ثمة نظام نجمي آخر ممتع للرصد في تلسكوب صغير للهواة هو “نجم العناق”، ويسمى أيضا “غاما المرأة المسلسلة” (Gamma Andromedae)، وهو ثالث ألمع نجم في كوكبة “المرأة المسلسلة”، إنه نظام نجمي متعدد يبعد عن الأرض حوالي 350 سنة ضوئية عن الأرض، وهذا النظام يقترب من الشمس بسرعة 12-14 كيلومترا في الثانية.

ففي عام 1778، اكتشف الفيزيائي الألماني “يوهان توبياس ماير” أن نجم العناق ليس نجما منفردا بل ثنائيا، أحدهما أصفر ذهبي لامع والآخر أزرق نيلي باهت، ومع تباين اللون المدهش فإن هذا الثنائي يوضع في قائمة أهداف هواة الفلك حول العالم مع تلسكوباتهم المتوسطة.

ثنائي “العناق” ثالث ألمع نجوم كوكبة “المرأة المسلسلة” ومرسوم على رجلها

ومع تلسكوبات أضخم وأدوات فلكية أكثر تعقيدا، استطاع العلماء التأكيد على أن أحد طرفي هذا الثنائي يتكون من منظومتين تدوران حول بعضهما، وبذلك يكون “العناق” نظاما مكونا من أربعة نجوم تدور حول بعضها في شكل ثنائيين.

تحتوي كوكبة الدجاجة على ثنائي آخر يسمى “أوميكرون الدجاجة” (Omicron Cygni)، وهو نجم عملاق مضيء باللون البرتقالي المحمر، يدور مع نجم آخر قريب منه له نفس اللون تقريبا، والنجم الرئيسي أوميكرون نفسه داخل أيضا في مدار مع نجم آخر، أما النظام النجمي الثنائي الأول فيمكن بسهولة رصده بتلسكوب صغير، ومع بعض الصعوبة يمكن أن تلاحظ النظام الثاني.

“ستيلاريوم” برمجية فلكية احترافية مجانية تساعد الهواة على سبر أعماق السماء

في كل الأحوال يمكنك استخدام برمجيات فلكية مجانية مثل “ستيلاريوم” (Stellarium) لتحديد مواقع تلك النجوم الثنائية بسهولة، بعد ذلك اخرج لسطح منزلك مع تلسكوب صغير، وابدأ بالبحث عنها بشكل عملي. وأفضل موعد لرصد كوكبة “الدب الأكبر” هو الربيع، وفي الخريف يمكن بسهولة أن ترى كوكبتي “ذات الكرسي” و”المرأة المسلسلة” في أفضل وضع، أما الصيف فهو الوقت الأفضل لرؤية كوكبتي “الدجاجة” و”القيثارة”.

 

المصادر

1- Binary Star Systems: Classification and Evolution

https://www.space.com/22509-binary-stars.html

2- Binary Stars

https://www.atnf.csiro.au/outreach/education/senior/astrophysics/binary_intro.html

3- Multiple Star Systems

https://universe.nasa.gov/stars/multiple-star-systems/

4- The Sun Might Have Once Had a Binary Companion Star

https://www.universetoday.com/147514/the-sun-might-have-once-had-a-binary-companion-star/

5- The AMBRE project: searching for the closest solar siblings★

https://www.aanda.org/articles/aa/full_html/2018/11/aa34285-18/aa34285-18.html

6- Mizar and Alcor in the bend of the Big Dipper

https://earthsky.org/brightest-stars/mizar-and-alcor-the-horse-and-rider/

7- November 27, 1783: John Michell anticipates black holes

https://www.aps.org/publications/apsnews/200911/physicshistory.cfm

8- A guide to star Epsilon Lyrae, the Double Double

https://www.skyatnightmagazine.com/advice/epsilon-lyrae/

9- chird (Eta Cassiopiae) Star Facts (Distance, Colour, Radius & more)

https://www.universeguide.com/star/3821/achird

9- Almach

https://www.star-facts.com/almach/

11- Omicron 1 and Omicron 2 Cygni

https://www.astropix.com/html/observing/doubles/doubles11.html

12- برنامج ستلاريوم

https://stellarium.org/ar/

13 – James Mullaney   Double and Multiple Stars and How to Observe Them, With 45 Figures –