“مستقبل العقل”.. إرهاصات ثورة حاسوبية عملاقة تقتحم الدماغ البشري

يثير فيلم “مستقبل العقل” أسئلة عدة تضع المتلقي في دائرة الدهشة والحيرة والإبهار، لا سيما أنّ الاتصال بين الأدمغة سيصبح واقعا ملموسا لا شك فيه، وإن تخلله بعض العقبات التي ستذلّلها الإنجازات التقنية الجديدة. ويرى العلماء أننا سنملك في المستقبل تقنيات صناعية متقدمة جدا تؤهلنا للتخاطب عن بُعد.

يحشد هذا الفيلم الوثائقي عددا من الشخصيات العلمية المختصة بمستقبل العقل البشري، لعل أبرزهم “راندل كوين” مدير الشؤون العلمية سابقا في شركة “كيرنل لوس أنجلوس” ورئيس مؤسسة “كاربون كوبيز” لأبحاث الدماغ، وهو يرى أنّ الإنسان يتمنى امتلاك المزيد من السيطرة على دماغة حتى يستطيع أن يختار ما يستوعبه ويتعلمهُ، ويتمنى الإنسان أن يدرك الأشياء التي لا يستطيع إدراكها الآن. فهو -على سبيل المثال لا الحصر- يود أن يرى الأشعة فوق البنفسجية، وأن يسمع الأصوات فوق الصوتية، وأن يتذكر من الأشياء أكثر مما يستطيع تذكره في العادة.

ويذهب في توقعه إلى أبعد من ذلك حينما يرى بأننا سنكون قادرين على قراءة وفهم ما يدور في أدمغة الناس، بترجمة مكوّناتها إلى معانٍ يسيرة ومفهومة، كما سنستطيع إدخال المفاهيم إلى الأدمغة وتعليمها إيّاها.

وترى “تان لي” -وهي الرئيسة التنفيذية لشركة “إيموتيف سان فرانسيسكو”- أن الجزء الأكثر تشويقا في المستقبل هو إمكانية تحقيق ذكاء ذي سمات إنسانية، وهذه الفكرة كان قد تحدّث عنها الراحل “مارثن مينيسكي”، وتعني القدرة على إيجاد بيئة نملك فيها علاقة رمزية مع الذكاء الصناعي، بحيث نرى تداخلا في عوالمنا الفيزيائية والرقمية والبيولوجية، من دون أن تكون أجزاؤنا منفصلة، بل متكاملة في كائن إنساني واحد.

“تان لي”، الرئيسة التنفيذية لشركة “إيموتيف سان فرانسيسكو تختبر بعض تقنيات الشركة

ويقول “رافائيل يوستي” -وهو مُنظّر فكري في مبادرة “برين”، وأستاذ علم الأعصاب في جامعة كولومبيا- إننا عندما نتخذ قرارا الآن نظن أننا الذين نتخذ ذلك القرار، وأننا نقرّر بأنفسنا، لكن ماذا لو كانت أدمغتنا متصلة بشبكة من الحواسيب السحابية، وكانت خوارزميتها تتضمن اتخاذ القرار. فمن الذي يقرر إذن؟

ويؤكد “رافائيل” بأننا متعطشون لمعرفة حقيقتنا وتفكيرنا والسبب وراء أفكارنا وذكرياتنا ومشاعرنا وخيالنا، ويمضي إلى القول إن إحدى النظريات تفترض أنّ الدماغ يُنشئ واقعا افتراضيا، أو نموذجا للعالم يدور في رؤوسنا طوال الوقت.

علم الأعصاب قائم منذ 100 سنة لكننا نجهل كيفية عمل الدماغ ولا نملك نظرية حول كيفية أدائه لوظائفه

ويتعلق هذا بالأفكار التي انتشرت في ميدان الفلسفة بضعة قرون، ولا سيما الأفكار التي طرحها الفيلسوف الألماني “إيمانويل كانت” بأنّ السبب في اتفاق رؤيتنا للعالم في عقولنا، ليس بسبب أنّ عقولنا تعكس العالم، بل على النقيض من ذلك، فالعالم نفسه هو صنيعة عقولنا، أي أنّ ما ندركه لا يوجد خارج عقولنا بل داخلها.

“رافائيل يوستي”، مُنظّر إيديولوجي في مبادرة “برين” وأستاذ علم الأعصاب في جامعة كولومبيا

ولا يذيع “رافائيل” سرا حين يقول إنّ علم الأعصاب قائم منذ 100 سنة، لكننا نجهل كيفية عمل الدماغ، وليست لدينا نظرية حول كيفية أدائه لوظائفه. ويرى أن السبب الأول في ذلك هو أنّ فهم كيفية عمل الدماغ يتعلق بتعريفنا لأنفسنا ككائنات بشرية عاقلة نُعرَف بعقولنا لا بأجسامنا، أي أننا لا نفهم العضو الذي ينشئ أذهاننا، وعندما نفهم كيفية عمل الدماغ نستطيع التعرّف على عقولنا من الداخل، وحينئذ سوف نفهم أنفسنا للمرة الأولى.

والسبب الثاني متعلّق بالعيادات والمرضى ولا بد للبشر من فهم كيفية عمل الدماغ، لأننا بحاجة ماسة إلى مساعدة المصابين بالأمراض العقلية والعصبية، وعلينا أن نفهم النظام الدماغي حتى نستطيع إصلاحه.

دماغ الإنسان.. شبكة من الأنظمة المعقّدة في جماجمنا

يتناوب المختصون على تقديم المعلومات العلمية الدقيقة التي تُكوّن -في خاتمة المطاف- صورة للموضوع الرئيس للفيلم، فيقول آدم غزالي -وهو الرئيس التنفيذي لشركة “نيوروسكيب” في سان فرانسيسكو- إن فهم هذا العضو شديد التعقيد (أي الدماغ) الذي ينشأ منه كل ما يجعلنا بشرا، أي ما نرى ونحس ونسمع وشعورنا بالهوية.. كل ذلك في الدماغ الذي يحتوي على 100 مليار عصبون، ومئات التريليونات من المشابك العصبية تعمل جميعها في شبكة ديناميكية تتغير باستمرار. إنه نظام شديد التعقيد وعلينا أن ندرسه بطريقة علمية.

الدماغ يحتوي على 100 مليار عصبون ومئات الترليونات من المشابك العصبية تعمل جميعها في شبكة ديناميكية متغيرة

وحين يحتاج المخرج إلى معلومة إضافية تعزز رصيده، يلتجئ إلى تقنية التعليق الصوتي، فيقول إن دماغ الإنسان يحتوي على ألياف، مشغولة مجموع أطوالها 3 ملايين كيلومتر، وهذا ما يعادل الذهاب إلى القمر 7 مرات، فالدماغ هو المكان الأكثر تعقيدا وغموضا في الإنسان، وفيه تنشأ المشاعر والأفكار والذكريات، المكان الذي يسعى جاهدا لفهم نفسه، وهو لُغز لم يُحلّ بعد.

فالكائن البشري لا يعرف في الوقت الراهن ولا يستطيع بناء أي شيء يقترب من مضاهاة ما نراه في دماغ الإنسان. وتقول الحقائق العلمية إن وزن دماغ الإنسان أقلّ من 1400 غرام، ويستهلك 20-30 واط من الطاقة، ويُجري حسابات معقدة تعجز عنها الحواسيب العملاقة.

“كاترين أمانتسي”، مديرة الشؤون العلمية لمشروع الدماغ البشري

ويقول “هنري ماركرام” -وهو منظّر فكري ومدير مشروع “بلو برين”، ومؤسس مشروع الدماغ الإنساني- إن الدماغ يحتوي على نحو 1000 تريليون مشبك عصبي بحجم البكتيريا، وهي بمثابة آلات كيميائية تستقبل النبض الكهربائي، ثم تُصدر مواد كيميائية تصل إلى المستقبلات، وهي آلات شديدة التعقيد، وهذا يؤدي إلى تغيير سلوك العصبونات وظهور الموّرثات وخروج بروتينات جديدة. ويؤكد أيضا أنّ العمليات الكيميائية البيوفيزيائية في الدماغ معقدة للغاية.

وتسلّط “كاترين أمانتسي” -وهي مديرة الشؤون العلمية لمشروع الدماغ البشري- الضوء على تعقيد آلية الدماغ، فتقول إننا إذا حاولنا أن نصِف عمل ألف شبكة من الخلايا، فلنا أن تتخيل الاتصال هاتفيا بألف شخص في وقت واحد، وبينما نفعل هذا يفعله كل من حولنا، وكل شخص يعيش على كوكب الأرض (نحو 7 مليارات)، وعندما تصف كل هذه الاتصالات التي يجريها 7 مليارات شخص تخيّل أنّ هذا كله لا يُعادل سوى عشر الطاقة الممكنة، وهذا كله يدور داخل الجمجمة التي يتجاوز وزنها الكيلوغرام ونصف الكيلوغرام بحسب رأيها.

عقول البشر.. كفاءة وقوة تطورت على مر التاريخ

يقول “فيليب ريفلين” -وهو مدير منصة المعلوماتية الطبية بمشروع الدماغ الإنساني- إن تقديراتهم تشير إلى أنّ شخصا واحدا من كل شخصين أو ثلاثة في أوروبا يعاني من اضطراب ذي صلة بالدماغ، وهذا يعني أنّ عدد المصابين بهذه الاضطرابات في أوروبا يصل إلى 200 مليون شخص، الأمر الذي يحمّل المجتمع ثمنا باهظا، فكلفة الأمراض الدماغية أكبر من كلفة السرطان وأمراض القلب والسكّري مجتمعة.

الاتصالات التي يجريها 7 مليارات شخص معا، لا تعادل سوى عُشر الطاقة التشغيلية للدماغ

أمّا السبب الآخر فيرتبط بالتكنولوجيا والاقتصاد، فمن المرجح أن عقول البشر والحيوانات أيضا قد اكتشفت عبر ملايين السنين من التطور طرقا للحساب، ربما تكون أكثر كفاءة وقوة مما تقدّمه لنا حواسيبنا الرقمية اليوم. فإذا ما استطعنا فكّ هذه الرموز العصبية وفهم كيفية إجراء العمليات الحسابية في الدماغ وماهية الخوارزميات القائمة في أجهزتنا العصبية، فسوف نحدث ثورة في علم الحاسوب وتكنولوجيا الحاسوب والاقتصاد في آن واحد.

وترى “كاترين أمانتسي” -وهي مديرة الشؤون العلمية لمشروع الدماغ البشري- أنّ الهدف الأسمى لمشروعهم هو تعزيز التكافل مع الذكاء الصناعي، فهو يتقدّم بسرعة هائلة، ويوفّر لهم وسائل متعددة ليكونوا أكثر إنتاجية وفعالية في إجراء أعمالهم وإدارة حياتهم اليومية. ومع إطلاق المزيد من الأجهزة القادرة على فهم البشر يستطيعون في خاتمة المطاف أن ينشؤوا نوعا مختلفا من الذكاء الصناعي ذي النزعة الإنسانية، وسوف تضطرب الفوارق بين العالم الحيوي والعالم الرقمي.

“فيليب ريفلين”، مدير منصة المعلوماتية الطبية بمشروع الدماغ الإنساني

ويعزز التعليق الصوتي هذا الرأي، ويقول أن من شأن الفهم العميق لآلية الدماغ أنن يأتي بإجابات عن أسئلة فلسفية كبرى من قبيل: ما هو الوعي؟ وكيف يُبنى؟ وهل من إرادة حرة يمكن أن تتغير إلى الأبد وتتعاطى مع مفاهيم مثل الذات الداخلية أو الذنب أو حتى الحقيقة؟ إنهم يتواصلون مباشرة مع الحاسوب من خلال الأفكار، ويشاركون مشاعرهم وأفكارهم عبر الإنترنت، ولعلهم يستطيعون مستقبلا قراءة أفكار الآخرين والتلاعب بها أيضا.

تقنيات التصوير العصبي.. وسيلة غير جراحية لدخول الدماغ

ينطوي الفيلم على انعطافة كبيرة، تعود بدايتها إلى منتصف التسعينيات، آخر عقود القرن العشرين والألفية الثانية، فقد حدثت ثورة كبيرة في علم الأعصاب عندما ظهرت تقنية التصوير العصبي، وقدّمت كشوفات لم تخطر على بال أحد.

آدم غزالي، الرئيس التنفيذي لشركة “نيوروسكيب” في سان فرانسيسكو

وقد صرّحت “ساندرا داكوستا” -وهي مديرة قسم التصوير المغناطيسي لمعهد البوليتكنيك الاتحادي في مدينة لوزان السويسرية- أنّ تقنيات التصوير العصبي مهمة لهذه الثورة، ومفيدة في دراسة الدماغ فهي وسيلة غير جراحية لدخول الدماغ. ومن خلال التصوير بالرنين المغناطيسي استطاعوا أن يشاهدوا عمل الدماغ من الداخل وهو يختبر المشاعر المختلفة. كما سمحت لهم هذه الآلية برصد الأكسجين في الدم داخل الدماغ، ودراسة ما لم يكونوا يتصوروه قبل سنوات قليلة عن التفاعل بين الأجزاء المختلفة من الدماغ، في حين يتحدث المريض أو يشاهد صورة أو يستمع لصوت أو يفكر بموضوع ما.

ويزعم “رافائيل يوستي” أنّ العلماء لا يجهلون كيفية عمل الدماغ لأنه شديد التعقيد، بل لأنهم ليست لديهم العدة اللازمة لدراسته على المستوى المطلوب، فعندما يدرسون نظاما معقدا -كالدماغ- يضم 100 مليار عصبون، ويحاولون تسجيل نشاط عصبون واحد، فهم كمن يحاولون مشاهدة فيلم على شاشة تحتوي على مليون بكسل وهم ينظرون إلى بكسل واحد فقط، وسوف تضيع عليهم بقية الأشكال على الشاشة والصور الأخرى، لأنها ناتجة عن الارتباطات في الزمان والمكان بين كل بكسل وآخر.

التصوير المغناطيسي للدماغ في معهد البوليتكنيك الاتحادي في مدينة “لوزان” السويسرية

وبفضل تقنيات التصوير العصبي، استطاع العلماء أن يعرفوا عن الدماغ خلال 15 سنة ما لم يعرفوه منذ ظهور البشرية حتى الآن. وهذا التقدّم المتحقق يجعلنا نتفاءل بأننا في المستقبل القريب سنكون قادرين على ترميم الأعصاب التالفة ومعالجة الأمراض مثل باركنسن والزهايمر والاكتئاب والانفصام.

إنّ النجاح في علم الأعصاب الإنساني دفعهم للخوض في مجالات أخرى مثل علم الأعصاب المعرفي، حيث يستعمل التصوير الوظيفي والمحاكاة غير الجراحية بدراسة وظائف دماغ الإنسان الذي ينطوي على أسرار كثيرة لا تُعدّ ولا تُحصى. وقد حان الوقت بعد هذه الثورة الكبيرة أن يصل هذا العلم إلى الحياة اليومية، أو بكلمات أخرى أن ينتقلوا من المختبر إلى عالم الواقع.

مشلول يتحدى بطل العالم في السباقات.. قيادة ذهنية

تُقدم تقنية واجهة الدماغ والحاسوب فوائد عظيمة في عدد من التطبيقات العلاجية، منها معالجة الأعراض المرتبطة بالشلل، حيث يعمل الدكتور “هوزيه ميلان” منذ سنوات في معهد البوليتكنيك الاتحادي في مشروع طموح يقوم على تطوير واجهة للدماغ والحاسوب تتيح للمشلولين فرصة التحكّم بعقولهم بهيكل عظمي روبوتي، وبذلك يستطيعون المشي أو تحريك أيديهم من جديد.

وقد وفّرت هذه التقنيات قدرات هائلة لأولئك المرضى، فاستطاع مريض بالشلل الرباعي أن يقود بذهنه سيارة سباقات “فورمولا وان” عام 2017، وكان “رودريغو هوينر منديز” أول شخص يحقق ذلك.

“رودريغو منديز” أول شخص مريض الشلل الرباعي يقود سيارة “فورميولا وان” ذهنيا عام 2017م

تتوسع “تان لي” في الحديث عن تجربة “رودريغو”، فتقول إنه زُود بغطاء رأس يحتوي على 14 قناة تقيس الذبذبات الكهربائية في دماغه، بعد أن قضى شهورا في تخطيط وتدريب الخوارزميات على فهم الأفكار وتفسيرها بالقيادة إلى الأمام أو للانعطاف يمينا أو يسارا أو التوقف. ولم يستخدم “رودريغو” أي مِقوَد أو بدّالات، ولم يكن في المركبة أحد سواه، بل إنه تحدى “لويس هاملتون” بطل العالم في سباقات “الفورمولا وان”، وكان قد صادف وجوده في دولة الإمارات، فقبِل “هاملتون” التحدي.

ولم يقتصر الأمر عند هذا الحدّ، فثمة مشاريع كثيرة قائمة على واجهات الدماغ والحاسوب، فقد طوّرت شركة “يورو إليكتريك” تقنية مبنية على توظيف ألعاب الفيديو المُسيّرة ذهنيا في تعلّم تنظيم نشاط الدماغ.

وقد ثبت أنّ ألعاب الفيديو المُسيّرة ذهنيا مفيدة في علاج أمراض الاكتئاب أو اضطراب النشاط الزائد عند الأطفال. ويقول آدم غزالي -وهو الرئيس التنفيذي لشركة “نيورو سكيب” في سان فرانسيسكو- إن هذه الألعاب تحسّن القدرة على الانتباه لدى عدد من الحالات الطبية، ومنها اضطراب نقص الانتباه، والنشاط الزائد، واضطراب ما بعد الصدمة، والإصابة الدماغية الرضيّة، والتوحد وما إلى ذلك.

تطوير الذكاء الخارق في أدمغتنا.. ثورة المستقبل القادمة

شهدت السنوات الماضية ثورة علمية أفضت إلى التدخل في عمليات عقلية تساعد المرضى الذين يعانون من تلف عصبي أو اضطرابات عصبية، وستبدأ هذه الشركات بنقل التطورات إلى حياتنا اليومية، لتغيّر بذلك شكل تعاملنا مع بعضنا وفهمنا للعالم.

ويترقب كثير من العلماء حدوث ثورة اقتصادية في المستقبل، بتطوير التقنيات الجديدة بدلا من التقنيات الحيوية كما في مشروع الجينوم البشري، ففي العام الماضي أسس “إيلون ماسك” شركة للتقنيات العصبية تُدعى “نيورالينك”. كما أسس الملياردير “براين جونسن” شركة مماثلة تُدعى “تيرنس”، الأمر الذي يعطينا الأمل بأنّ التقنيات العصبية سوف تُحدث ثورة اقتصادية لا بدّ منها.

ألعاب الفيديو المُسيّرة ذهنيا تساعد في علاج أمراض الاكتئاب أو اضطراب النشاط الزائد عند الأطفال

وعليه، فيمكن تعريف الشريحة المعرفية، بأنها أحدث ابتكارات “مايند ميلز” وأكثرها طموحا، لأنها تجمع بين تقنية الأعصاب والذكاء الصناعي، ويسعى بعض روّاد الأعمال إلى تعزيز أدمغتنا، بحيث نطوّر ذكاء خارقا يهيئنا للعمل مع الذكاء الصناعي، ومن شأن ذلك أن يخفِّف شعور البشر بأنهم أصبحوا أقل أهمية لصعود الذكاء الصناعي.

تحسين القدرات.. تلاشي الحدود بين العالم الحيوي والرقمي

لا تتوقف الدول المتقدمة عن إطلاق المشاريع العلمية، ولعل أحدثها مشروع الدماغ الإنساني الذي أطلقه الاتحاد الأوروبي. كما تبنّت دول عدة مبادرات مماثلة لدراسة الدماغ، منها اليابان وكندا والصين وأستراليا وكوريا الجنوبية، ويمكن لهذه المشاريع أن تغيّر مسار أبحاث الدماغ، وتقود البشرية إلى تطورات لم يسبق لها مثيل. وسيتطور الاتصال بين الدماغ والآلة ليصبح أكثر كفاءة ودقة، وسيفتح الباب لاحتمالات لا تُحصى، لاستفادة البشر من القدرات التي يتيحها الذكاء الصناعي.

“الذكاء ذو السمات الإنساني” يقوم على التفاعل مع الذكاء الصناعي ليجعل البشر أكثر انسجاما مع بيئتهم

إنّ تطوير الأجهزة سوف يفضي إلى ظهور نوع مختلف من الذكاء أطلق عليه البعض اسم (الذكاء ذو السمات الإنسانية)، ويقوم على ابتكار نطاق واسع من الأجهزة والمُستشعرات التي تتفاعل مع الذكاء الصناعي على نحو يجعل البشر أكثر انسجاما مع بيئتهم.

شريحة إلكترونية قادرة على تسجيل نشاط مليون عصبون في دماغ شخص مريض وتحفيز 100 ألف عصبون

وهكذا فإنّ الحدود بين العالم الحيوي والعالم الفيزيائي والعالم الرقمي سوف تصبح باهتة، وسنتعامل بسلاسة مع كل تلك الأبعاد، فإذا شعرت بالحيرة، فسوف يُدرك ذلك ذكاؤك الصناعي ويدلك على ما تفعل، وإذا شعرت بالإرهاق سوف يرسل لك أمرا لإعداد القهوة أو يُرسل إلى هاتفك المحمول رسالة تدعوك إلى المشي قليلا وتحريك ساقيك، وسوف تصبح بيئتك امتدادا لدماغك، وهذا النوع من الذكاء ذي السمات الإنسانية هو ما سنراه في المستقبل.

كما أثبتت تجارب أخرى إمكانية تحسين القدرات العددية للأطفال المُصابين بعُسر الحساب، وهم الذين يستعصي عليه إجراء العمليات الحسابية، وثمة إمكانية لتحسين أدائهم بزراعة أجهزة في الدماغ.

وتدعم وكالة البحوث المتطورة مشروعا لصناعة شريحة إلكترونية تسجّل نشاط مليون عصبون في دماغ شخص مريض، وتحفيز 100 ألف عصبون في وقت واحد، وهذا ليس خيالا علميا بل هو واقع ملموس، وهذه الشرائح تفيد المرضى، وقد تصل إلى العيادات خلال أربع سنوات لا غير.

“يستطيع العلم أن يغيّر العالم والمجتمع ومسار التاريخ”

يوحي لنا الفيلم بأننا نقترب من حدود الخيال العلمي المستقبلي في هذا المشروع، وثمة مصطلح في الخيال العلمي يُدعى تحميل العقل، ويدل على أن العقل الذي يمثل كينونتنا لن يستمر في الاعتماد على الدماغ كما يفعل الآن، وسنظل بحاجة إلى الدماغ بطبيعة الحال، ولا يمكن أن يتولى جهازٌ إدارةَ الدماغ، لكننا سنحظى بعدد من الأجهزة، منها ما هو مناسب للسفر في الفضاء، أو العيش في كوكب آخر، أو الإقامة تحت الماء، أو شيء من هذا القبيل.

تقنية محاكاة الدماغ، هو مفهوم علمي حديث يحاكي فيه الدماغ الآلة عن بعد

ويرجّح الفيلم بأننا في المستقبل البعيد نسبيا سوف نجد تقنية محاكاة الدماغ، وهو مفهوم علمي يشير إلى أنّ ما تفعله هنا إنما تحاول فيه محاكاة ما يحدث في الدوائر الكهربائية، وعندما يحدث ذلك سنفكر في العواقب الشخصية والاجتماعية.

وهذا هو ما يعنيه تحميل العقل، وهو مصطلح فلسفي بحت يثير أسئلة مهمة من بينها: ماذا يحدث إذا استطعتَ أخذ هُويتي وعقلي وحوّلتني إلى شيء آخر؟ وهناك كثير من الاحتمالات التي ستبقى مفتوحة، وربما تستطيع أن تكوّن نسخا احتياطية من عقلك، وتستطيع استعادة عقلك حتى لا تكون العواقب وخيمة.

هل يمكن سرقة أو قراءة الأفكار والأفكار اللاشعورية من شحص أثناء نومه؟

ويركز صانع الفيلم على أنّ المعرفة التي اكتسبناها عن الدماغ خلال السنوات الماضية أتاحت لنا ما كان يُعدّ ضربا من الخيال العلمي، فنحن نتقدم بسرعة هائلة ولا نعرف إلى أين ستقودنا معرفتنا بالدماغ، لكننا سنبقى قادرين على توجيهها إلى المسار الصحيح.

ويقترح المخرج إضافة حقوق جديدة إلى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، لنحمي الأفراد من إساءة استخدام التقنيات العصبية والذكاء الصناعي، وهذا ما يدعونه بالحقوق العصبية والحقوق العقلية، كالأفكار وحتى الأفكار غير الشعورية التي لا نعرف عنها شيئا ولسنا واعين بها. كما يجب أن نحمي الإحساس بالهوية والأنا والذات، ونقنع زعماء العالم وقادة المجتمعات بأهميتها البالغة.

وينبغي أن نثق بقدرة هذه التقنيات التي تجلب المنفعة، ليس للمرضى فحسب بل للناس الأصحاء أيضا، إذ سنكون قادرين على فهم أنفسنا. وينبغي ألاّ نسخّر هذه التقنيات ضدّنا، وأن نتوخى الحذر وأن نضع هذا الإطار الأخلاقي قيد التنفيذ.

ويختم المخرج فكرته الرئيسية بالقول: يستطيع العلم أن يغيّر العالم والمجتمع ومَسار التاريخ إلى الأفضل أو إلى الأسوأ، ونحن منْ يقرر ذلك، لنمضي في الاتجاه الصحيح.