ميكانيكا الكم”.. وقطة شرودنغر”

قطة شرودنغر.. وميكانيكا الكم

كونٌ تنعدم به جميع مظاهر السكينة، وما من شيء مستقر به، فكلٌّ يمضي في حركة دؤوبة بلا توقف، ابتداء من أصغر الكائنات إلى أعظم الأجرام السماوية. الجميع يسير وفق أنماط حركية مشتركة، تحكمها معادلات رياضية دقيقة، ولطالما كان وصف طبيعة حركة الأجسام إحدى الأولويات التي شغلت قدماء الإغريق وغيرهم ممن حاولوا فهم آلية عمل الكون.

فنجد أن أحد التفسيرات اليونانية القديمة التي تعلل سبب سقوط السهم بعد انطلاقه من وتر القوس، يقول إنّ السهم يصيبه الإعياء والكلل مع مرور الوقت، فلا يكون بمقدوره مواصلة التحليق، ومع أن هذا التفسير أصبح اليوم شاذا وبعيدا كل البعد عن الحقيقة، نجد أن ثمة محاولات كانت تشق طريقها في تبرير حركة الأجسام.

وبلا شك، فإن المهمة لم تكن يسيرة على الإطلاق، فالأجسام لا تتحرك في بُعد واحد فقط ولا حتى في اثنين، بل في ثلاثة أبعاد مقرونة بالزمن، فتكتمل بذلك الأبعاد الأربعة التي صاغها لنا العالم الشاب “إسحاق نيوتن”.

ولا تتوقف صعوبة تمثيل الحركة رياضيا عند هذا الحد، فالأجسام لا تتحرك بسرعة ثابتة ولا في استقامة واحدة دوما، بل هناك تغير إما في المقدار أو الاتجاه، ولتجاوز هذه العقبات ولفك طلاسمها، استطاع “نيوتن” وضع أحد أعظم الأعمال العلمية في التاريخ البشري في القرن الـ17، مؤسسا بذلك فرعا رياضيا جديدا يُعرف بـالتفاضل والتكامل.

ميكانيكا الكم.. حيث تتعطل قوانين الحركة الكلاسيكية

كانت معادلات “نيوتن” للحركة -سواء بوجود محصلة قوى مؤثرة أو بعدمها- تتنبأ بمستقبل مسار الأجسام (Trajectories) بشكل دقيق جدا، ولا سيما الأجسام السماوية في أثناء حركتها حول بعضها، أو بمعنى أصح حول مركز الثقل.

لقد بدا الكون في حال ثبوت واستقرار أكثر من أي وقتٍ مضى في وصف حركة الأجسام، وهو ما دفع عالم الرياضيات الفرنسي “بيير سيمون لابلاس” في بداية القرن الـ19 إلى وضع فرضيته الشهيرة بمسماها المجازي “شيطان لابلاس” (Laplace’s Demon)، وتشير إلى أنّ أحدا لو استطاع معرفة “موقع” و”زخم” كلّ ذرة في الكون على نحو دقيق، سيخول له ذلك معرفة ماضي ومستقبل الكون في أي وقت معين، بالاستعانة بالقوانين الكلاسيكية فقط، وهو ما يتبناه أصحاب مذهب “الحتمية” (Determinism) في العلوم.1

إسحاق نيوتن، صاحب الفضل في تطوير رياضيات التفاضل والتكامل

وهو ما بدا أنه كان حلما فيما مضى يُسعى إليه، لكن الثورة العلمية اللاحقة التي ظهرت في بداية القرن الـ20 قلبت الطاولة رأسا على عقب، فعند الحديث عن أدق جزء أو مُكون للمادة، يدفعنا ذلك للغوص إلى أدق نقطة ممكنة، بمعنى آخر أن نبحث في مستويات تتجاوز النانومتر، حيث تتعطل قوانين الحركة الكلاسيكية عن العمل، ويبدأ الكون يتصرف على نحو غريب.

في هذه النقطة، سنصل إلى أقصى تفصيل لكيان أي مادة، ويطلق عليه العلماء وحدات الـ”كوانتا” (Quanta)، وتظهر بها جليا ظروف “عدم الحتمية”، على عكس ما سبق في الفيزياء الكلاسيكية القادرة على التنبؤ، وعليه احتاج العلماء إلى ابتكار منظومة معادلات رياضية جديدة لوصف هذا الكون الغريب، فنشأ بذلك فرع جديد من العلوم، ألا وهو ميكانيكا الكم.

“إذا كنت تظن أنك تفهم ميكانيكا الكم، فهذا يعني أنك لا تفهمها”

إن هذا العلم -الذي ظهر على أيدي علماء منهم “ماكس بلانك” و”نيلز بور” و”إرفين شرودينغر”- بات ندا قويا لنظريات النسبية العامة للعالم الألماني الشهير “ألبرت أينشتاين”، وهو لا يختلف عن نظيره “نيوتن” في طموحه لوضع إطار محكم وكامل للكون بإمكانية التنبؤ به، كما أن الخوض في غمار هذا المجال لم يكن خيارا يسيرا لدى العلماء، بل تطلب الأمر أعظم العقول براعة وعبقرية أكثر من أي وقت مضى.

فنحن هنا نتحدث عن عالم غير مرئي، يفتقد لخصائص الحتمية كما هو الحال في فيزياء “نيوتن”، فسِمة “عدم الحتمية” هي عباءة ميكانيكا الكم، فعلى سبيل المثال، عند الحديث عن الجسيمات ما دون الذرية كالإلكترونات، يصعب علينا تحديد وضبط موقعها حول النواة قبل مراقبتها، ولا يمكننا التنبؤ بموقعها مستقبلا، بل كل ما يمكن قوله إنّ هناك احتمالا معينا أن يكون الإلكترون في الموقع “أ” أو “ب” أو غيره، وهو ما يُعرف بخاصية “التراكب الكمومي” (Superposition) للإلكترون، بوجوده في أكثر من موقع في ذات اللحظة.

تجربة الشق المزدوج، حيث تأخذ الإلكترونات الصفة الموجية عند مرورها بالشقين

ومثال ذلك التجربة الشهيرة “تجربة الشق المزدوج” للعالم البريطاني “توماس يونغ” في عام 1801، وقد كان يهدف بهذه التجربة إلى إثبات أنّ للضوء خصائص مزدوجة موجية وجُسيمية. لكن في ذات الحين برهنت تجربته -بطريقة غير مباشرة- على خاصية التراكب الكمومي للفوتون، وينطبق على الفوتون ما ينطبق على الإلكترون وبقية الجسيمات ما دون الذرية.2

وعلى ضوء ما سبق، نستحضر مقولة تُنسب لعالم الفيزياء الأمريكي “ريتشارد فيمان”، قالها أثناء تقديم إحدى محاضراته: إذا كنت تظن أنك تفهم ميكانيكا الكم، فهذا يعني أنك لا تفهم ميكانيكا الكم.

ميكانيكا الكم وتجارب المادة والطاقة.. بداية متعثرة

عانت ميكانيكا الكم في بداية ظهورها، لاسيما في العقود الثلاثة الأولى، فلم تكن هناك تجارب ملموسة كثيرة يمكن استنباط معادلات رياضية منها، لكنّ علماء مثل “ماكس بلانك” و”إرنست رذرفورد” توصلوا بالتجارب إلى أنّ المادة والطاقة لا يمكن تجزئتهما إلى ما لا نهاية، وإنما هناك حد متناه في الصغر تصل إليه حافة كلّ شيء.

وعليه وُضعت بعض القوانين والمبادئ التي تتناسب مع هذه المعايير الجديدة، ومن هذه المفاهيم الدالة الموجية (Wavefunction)  بدلا من حساب المركز والزخم، ومبدأ الريبة أو عدم اليقين (Uncertainty Principle)، بدلا من الخصائص الفردية للجسيمات.3

معادلة مبدأ عدم اليقين لهايزنبيرغ

وقد بدا أن هذه المسلمات تحل جزءا كبيرا مما تواجهه المسائل المتعلقة بميكانيكا الكم، ليس هذا فحسب، بل إنها استُخدمت على نطاق واسع في شتى مجالات العلوم والتقنيات، كدراسة كيفية مرور التيارات الكهربائية عبر “ترانزستورات” سيليكونية في دوائر الحاسوب، أو العلاقة بين شكل الجزيء وتأثيره على امتصاص الضوء.4

ولم يقف الأمر عند هذا الحد، فمساحة التجارب التخيلية تشغل حيزا كبيرا في مثل هذه المجالات العلمية التي يصعب تطبيقها على أرض الواقع، لغياب الإمكانيات ولصعوبتها البالغة. ومن رواد هذا المجال عالم الفيزياء النمساوي “إرفين شرودينغر” الحائز على جائزة نوبل في عام 1933، الذي أرهق تفكيره وتفكيرنا بطرح تجربة تجسد إحدى ركائز فيزياء الكم، ألا وهي تجربة “قطة شرودينغر”.

“قطة شرودينغر”

قبل الخوض في التفاصيل، علينا التنويه أنّ ما يحدث هنا هو تجريد من الواقع في عالم افتراضي بحت، ولا ينبغي القيام بهذه التجربة على أرض الواقع بأي شكل من الأشكال.

تُمثل تجربة “شرودينغر” الخيالية معضلة حقيقية عند تطبيق قوانين فيزياء الكم على معايير أكبر من الحيز الذي تشغله بطريقة غير مباشرة، بمعنى آخر، أننا في فيزياء الكم ندرك مبدأ “التراكب الكمومي” للجسيمات ما دون الذرية، أي أنها تمتلك أكثر من خاصية وموقع في ذات الوقت، وإذا ما رُبطت حالة هذه الجسيمات بأجسام مرئية أكبر، فإننا سنحصل على شيء يشبه هذه التجربة.

قطة شرودنغر، محاكاة لتفسير كوبنهاغن

تقول التجربة إننا بحاجة إلى وضع قطة بداخل صندوق غير شفاف مغلق بإحكام لمدة ساعة على الأقل، ولا نستطيع أن نعرف ما يجري بداخله. بالإضافة إلى علبة بها مواد مشعة، وعداد “غايغر” (جهاز لكشف الجسيمات المشعة)، ومطرقة، وعلبة زجاجية قابلة للكسر، بها غاز سام.

عند تطبيق التجربة نختار مواد مشعة وفق معاييرنا، بحيث تكون هناك احتمالية بنسبة 50% من صدور جسيم ذري مُشع واحد فقط في ظرف زمني مدته ساعة، ثم يقوم عداد “غايغر” الكاشف للجسيمات المشعة فور كشفه للجسيم الذري، بإرسال إشارة للمطرقة، لتكسر علبة الغاز السامة، فتموت القطة.

والآن عند فتح الصندوق، سيكون هناك احتمالان، إما أن القطة ميتة أو حيّة، وذلك اعتمادا على النتيجة النهائية مما رصدته أعيننا. على أي حال، إذا ما تمعنا في الأمر قبل فتح الصندوق، فإننا سنجد أنّ القطة حية وميتة في الوقت ذاته. وهذه المعضلة هي خلاصة ومبتغى “شرودينغر” من هذه التجربة.

“تفسير كوبنهاغن”.. إبطال أشهر المفاهيم في ميكانيكا الكم

لقد أراد “شرودينغر” في تجربته أن يبرهن على مدى سُخف ما يفضي إليه “تفسير كوبنهاغن”، وهو أشهر المفاهيم في عالم فيزياء الكم، وأكثرها اعتمادا في المناهج الأكاديمية، ويشير إلى احتمالية وجود ذرة واحدة في مكانين مختلفين، ولا يمكننا التحقق من ذلك إلا إذا قمنا بمراقبة مباشرة.

على سبيل المثال، إحدى ذرات الألمونيوم في جهازك الحاسوب يمكن أن تكون على سطح القمر الآن، لكن احتمالية وجودها على مكتبك هي أعلى بكثير، وعلى هذا النحو فلا يمكنك الجزم بموقع أي ذرة حتى تتأكد من رؤيتها أو مراقبتها مباشرة، وهذا ما يشير إليه “تفسير كوبنهاغن”: أنّ الذرة موجودة وغير موجودة في الوقت ذاته.

 

لقد كانت حيلة ذكية من قبل العالم “شرودينغر” أن يطرح تجربة -أو بالأحرى معضلة- كهذه، لتفنيد “تفسير كوبنهاغن” إذا ما طُبقت على أجسام أكبر مما دون الذرية، مثل “قطة شرودينغر”.5

تلعب هذه التجربة دورا مهما اليوم لدى الباحثين والمختصين، فتحثهم على التحقق من نقاط الضعف والقوة الموجودة في تصوراتنا اتجاه فيزياء الكم. كما أنّ تجربة القطة بحد ذاتها ذات جمهور غفير اليوم، بغض النظر عن مدى استيعابهم للتجربة، فـ”قطة شرودينغر” باتت إحدى أيقونات هذا العصر.

المصادر:

[1] محررو الموقع (التاريخ غير معروف). شيطان لابلاس. تم الاسترداد من: https://www.stsci.edu/~lbradley/seminar/laplace.html

[2] موراي، أندرو (2020). شق مزدوج مع ذرات مفردة. تم الاسترداد من: https://physicsworld.com/a/double-slits-with-single-atoms/

[3] سيجل، إيثان (2019). هذا هو السبب في أن نظرية المجال الكمي هي أكثر جوهرية من ميكانيكا الكم. تم الاسترداد من: https://www.forbes.com/sites/startswithabang/2019/04/25/this-is-why-quantum-field-theory-is-more-fundamental-than-quantum-mechanics/?sh=45daf1742083

[4] بول، فيليب (2013). هل سنفهم يوما ما نظرية الكم؟. تم الاسترداد من: https://www.bbc.com/future/article/20130124-will-we-ever-get-quantum-theory

[5] محررو الموقع (2021). تجربة شرودنجر ببساطة. تم الاسترداد من: https://astronimate.com/schroedingers-cat-experiment-simple/