أحجام الكون الكبيرة.. مقياس المساحات الشاسعة بين الأجرام السماوية

لا بد أن تكون قد تساءلت يوما عن حجم هذا الكون الواسع، بل ربما بحثت عبر غوغل أو سألت “تشات جي بي تي” (Chat GPT) مثلا، فأتتك الإجابة بأن آخر الأبحاث في هذا النطاق تقول إن عرض هذا الكون هو حوالي 93 مليار سنة ضوئية، لكن حتى مع هذه المعلومة البسيطة يظل التساؤل قابعا في داخلك، لأنك تعرف المعلومة بالفعل لا جدال في ذلك، لكنك لم تتمكن من إدراكها بعد.

ربما كان السبب في كتاب المدرسة، فقد رُسمت لك المجموعة الشمسية فيه بشكل غير حقيقي، وهذا مفهوم، فليس الغرض من تلك الرسوم إعطاء مقياس حقيقي للمجموعة الشمسية، بل فقط تقريب الفكرة، وربما لو قرر المسؤولون عن كتابة المناهج إعطاء صورة حقيقية لمقياس المجموعة الشمسية لما تمكنوا من ذلك، لأن الورقة لن تتسع.

مسافات المجموعة الشمسية.. ملعب يفصل بين حبة الأرز وكرة الشمس

لفهم الفكرة دعنا نفترض أن الشمس أصبحت بحجم كرة قدم، الشمس الحقيقية ضخمة جدا، لدرجة أنها لو كانت إناء زجاجيا لوضعنا داخلها أكثر من مليون كرة أرضية، لكننا لغرض التقريب فقط سنتخيل أنها بحجم كرة قدم، في هذه الحالة فإن الأرض ستصبح بحجم أقل من حبة أرز، ولو قررنا أن نمثل المسافة بينهما لوضعنا الكرة خلف المرمى في أحد ملاعب كرة القدم، ووضعنا حبة الأرز خلف المرمى الآخر.

المجموعة الشمسية تتكون من بضع كواكب كبيرة ومئات ألوف الكويكبات الصغيرة

في أرض الواقع، فإن الشمس تبتعد عن الأرض مسافة تقدر بحوالي 150 مليون كيلومتر، وتسمى هذه المسافة عند أهل الفلك بـ”الوحدة الفلكية”، وهي مسافة كبيرة جدا، لدرجة أن الضوء الذي يجري بسرعة 300 ألف كيلومتر في الثانية الواحدة، يقطعها في ثماني دقائق وثلث الدقيقة.

الآن دعنا نمد الخطوط على استقامتها ونستمر في المثال الذي بدأناه، فإذا كانت الأرض بحجم حبة أرز على مسافة ملعب واحد من الشمس، فإن المشتري عملاق المجموعة الشمسية سيكون بحجم حبة عنب على مسافة 5 ملاعب، وزحل على مسافة 10 ملاعب، ثم أورانوس بعد 20 ملعبا، وأخيرا نبتون على مسافة 30 ملعبا تقريبا، كل هذا لو كانت الشمس بحجم كرة قدم، فقط تخيل المسافات الحقيقية.

عند ذلك الحد تظن أن المجموعة الشمسية قد انتهت، لكنك مخطئ في هذا الافتراض، فبعد نبتون يقع عالم مختلف تماما لم نكن لنتصور يوما وجوده.

حزام “كايبر”.. حديقة خلفية ضخمة وراء نبتون

تبدأ حكاية ما وراء نبتون مع الفلكي الأمريكي الألماني “جيرارد كايبر” الذي نشر مقالا سنة 1951 في مجلة الفيزياء الفلكية يقترح فيه وجود منطقة واسعة، تحتوي أعدادا ضخمة من أجرام صغيرة نسبيا بعد كوكب نبتون.

مجرة درب التبانة تحتوي على قرابة 400 مليار نجم، شمسنا نجم واحد من بينها

توقع “كايبر” وقتها أن ذلك كان فقط في بداية تكوّن المجموعة الشمسية، لكننا الآن نعرف أن تلك المنطقة ما زالت موجودة، بل إن الفلكيين بدؤوا بالتقاط صور لبعض أجرامها منذ تسعينيات القرن الفائت، بعد تطوير الكاميرات التي تعمل بجهاز اقتران الشحنة، وقد فتحت عصرا فلكيا جديدا، ومن هنا توالت الاكتشافات للأجرام ما وراء نبتون.

ومع مزيد من المسح اكتشف العلماء أن حزام “كايبر” يمتد بشكل رئيسي ما بين 30-55 وحدة فلكية من الشمس، لكن بعض أجرامه تنطلق لما هو أبعد من ذلك. ويحتوي الحزام على ما يقترب من 100 ألف جرم يزيد نصف قطرها عن 100 كم، مع تريليونات الأجرام ذات الحجم الأصغر. في الواقع هذه المنطقة لا تتكون من حزام واحد، بل ثلاثة أحزمة رئيسية.

“سيدنا”.. مدارات حبة غبار في غاية الانحراف

“سيدنا” هو أحد الأجرام التي تسكن منطقة حزام “كايبر”، وهو حالة خاصة، فهو أصغر في الحجم من القمر بفارق واضح، وينضم إلى فئة تسمى “أجرام منفصلة” (Detached Objects)، وهي مجموعة من الكواكب القزمة التي اندفعت خارج الحزام لتدور بمدارات في غاية الانحراف.

الكوكب القزم “سيدنا” يدور حول الشمس في مدار بيضاوي يقترب لمسافة 76 وحدة فلكية ويبتعد حتى 975 وحدة فلكية

يدور “سيدنا” حول الشمس في مدار بيضاوي، فيقترب من الشمس في بعض الأحيان، ويبتعد عنها في أحيان أخرى، وحينما يكون “سيدنا” قريبا من الشمس فإنه يقع منها على مسافة 76 وحدة فلكية تقريبا، وحينما يكون بعيدا عنها فإنه يكون على مسافة 975 وحدة فلكية تقريبا. والوحدة الفلكية -كما أسلفنا- هي المسافة بين الأرض والشمس، ولو كانت الشمس كرة قدم لكان “سيدنا” أصغر بكثير من حبة غبار على مسافة حوالي 975 ملعب كرة قدم.

وكما تلاحظ، فإنه بالنسبة لمدار “سيدنا” يعد مدار نبتون لا شيء تقريبا! إلا أن الرحلة لم تنته، فما زلنا داخل المجموعة الشمسية، وبعد حزام “كايبر” وربما على حدود “سيدنا”، يبدأ ما يسميه العلماء “سحابة أورت”.

سحابة “أورت”.. بقايا الشد والدفع في مراحل التكون الأولى

سميت سحابة “أورت” نسبة إلى “يان أورت” الفلكي الألماني الذي افترض وجودها سنة 1950، فقد افترض أن المجموعة الشمسية محاطة بسحابة كروية ضخمة تحتوي على ما يقارب تريليوني جرم بقطر أكبر من كيلومتر واحد، تمتد إلى ما قد يصل إلى 100 ألف وحدة فلكية من الشمس.

سحابة أوورت سحابة كروية ضخمة تحتوي على ما يقارب تريليوني جِرم بقطر وتبعد 100 ألف وحدة فلكية من الشمس

ويرى العلماء أن سبب تكون تلك المنطقة هو حالات الشد والدفع بين الكواكب في مراحل التكون الأولى للمجموعة الشمسية، مما دفع بعض الأجرام الصغيرة نسبيا خارج الوسط الشمسي، البعض منها هرب من تأثير الشمس، والبعض بقي.

والآن تخيل مرة أخرى أن الشمس هي كرة خلف مرمى ملعب كرة قدم، كم من الملاعب تحتاج لتضع مجموعة شمسية كاملة؟

رجل القنطور.. أقرب نجوم السماء إلى الحي الشمسي

ليس كل ما ذكرنا إلا ذرة في سياق ما هو قادم. لذا دعنا الآن نترك المجموعة الشمسية جانبا ونتعلم قليلا عن أقرب النجوم للشمس، ويسمى “رجل قنطورس” أو رجل القنطور (القنطور هو كائن خيالي نصفه العلوي إنسان ونصفه السفلي حيوان)، وهو منظومة تتكون من ثلاثة نجوم (ألفا وبيتا وقنطور الأقرب)، ويرى سكان نصف الكرة الجنوبي النجمين ألفا وبيتا بسهولة في سمائهم، أما “المقدم” فلا يمكن أن يرى بالعينين المجردتين، فهو خافت جدا.

وينتمي القنطور الأقرب إلى فئة من النجوم تسمى “الأقزام الحمراء”، وتكون عادة أصغر في الكتلة من الشمس بنحو النصف أو أصغر، أما في الحجم فإن بعض تلك النجوم قد يكون في حجم كوكب المشتري. وعلى عكس الشمس، فإن الأقزام الحمراء لا تحرق وقودها من الهيدروجين في النواة فقط، بل في كل مكان بالنجم، لكن ذلك يجري ببطء شديد، وخلال فترة طويلة جدا تصل إلى تريليون سنة. وفي الواقع فإن كل الأقزام الحمراء الموجودة في الكون كله لم تزل طفلة.

ولو كانت الشمس بحجم كرة قدم توجد الآن في القاهرة، لكان القنطور الأقرب بحجم كرة تنس طاولة، ويوجد الآن في مدينة فرانكفورت الألمانية، هذا ونحن نتحدث عن أقرب النجوم إلينا، ويقع على مسافة 4.3 سنوات ضوئية من شمسنا الدافئة، والسنة الضوئية هي وحدة مسافة تساوي حوالي 9.5 تريليونات كيلومتر.

مجرة الصوفي.. أكبر جيران درب التبانة

إذا علمنا بأن القنطور الأقرب والشمس وحوالي 100-400 مليار نجم آخر، يعيشون في ما يسمى مجرة درب التبانة، فكما أن العالم يتكون من دول، فإن الكون يتكون من مجرات، لكن المجرات ليست قريبة من بعضها مثل الدول، بل هي متناثرة في الفضاء. والمجرات هي تجمعات ضخمة للنجوم والغبار والغاز والبقايا بين النجمية ترتبط جميعا جذبويا، وتدور حول مركز واحد. وتعد المجرات الوحدات الأساسية لبناء الكون.

مجرة الصوفي أو المرأة المسلسلة، أبعد جِرم في السماء يرى بالعين المجردة

يبلغ عرض مجرة درب التبانة حوالي 100 ألف سنة ضوئية، ويعني ذلك أننا لو أطلقنا شعاعا ضوئيّا من أحد طرفي المجرة، فسوف يستغرق 100 ألف سنة حتى يعبرها. وتعد درب التبانة مجرة متوسطة إذا ما قورنت بأكبر المجرات القريبة منا، وهي مجرة الصوفي، وتسمى “المرأة المسلسلة”.

ولتخيل الفارق بين المجرتين في الحجم والمسافة، دعنا نفترض أن درب التبانة هي طبق سلطة صغير تمسكه بيديك وتقف في أحد جانبي غرفتك، هنا سوف تكون المرأة المسلسلة بحجم طبق أرز كبير، يوجد على بعد مترين ونصف في طرف الغرفة الآخر.

عنقود مجرات العذراء العظيم.. منزلنا الذي يضم مئات المجموعات المجرّية

مع وجود ما يقرب من 50 مجرة، معظمها من المجرات القزمة، تعيش مجرة درب التبانة والمرأة المسلسلة داخل ما يسمى “المجموعة المحلية”، والمجموعات من هذا النوع شائعة في الكون، فتجمع مجرات العذراء مثلا يحتوي على ما يقرب من 2000 مجرة.

“عنقود مجرات العذراء العظيم” يحتوي على 100-200 مجموعة مجرية في نطاق يبلغ قُطره 110 ملايين سنة ضوئية

حتّى تلك المجموعات التي تشبه مجموعة العذراء ومجموعتنا، تتجمع في مجموعة ضخمة تسمى “عنقود مجرات العذراء العظيم”، وربما يحتوي على 100-200 مجموعة شبيهة في نطاق يبلغ قُطره 110 ملايين سنة ضوئية، إنها مسافة ضخمة جدا تساوي أكثر من مليون مليون مليار كيلومتر.

وفي تلك النقطة دعنا نتعرف على اصطلاح مهم في نطاق الفلك هو “الشبكة الكونية”، أعظم أشكال الكون الذي نراه، ويمكن للتلسكوبات التي تمسح السماء بمجال واسع مثل “ماسح سلون الرقمي” أن ترصد هذا الهيكل. وفي الواقع فقد أصدر ماسح سلون مؤخرا خريطة لـ200 ألف من المجرات والكوازارات التي عثر عليها منذ عام 2000 إلى 2020.

وفي هذا النوع من الخرائط تلاحظ بوضوح هيكل الشبكة الكونية، إذ لا تتوزع المجرات بانتظام في الفضاء، وإنما تتخذ شكل خيوط مترابطة معا وفراغات شبه خالية من المجرات فيما بينها، يشبه الأمر قطع الأسفنج، أو تلك القطعة اللذيذة من الجبن في كرتون “توم وجيري”، وفي نقط التقاء تلك الخيوط معا نجد التجمعات المجرية الكثيفة التي تحتوي على آلاف المجرات.

تريليونا مجرة.. رقم هائل لا يمثل إلا 5% من الكون المنظور

في عام 2016 أعلن علماء من وكالة الفضاء والطيران الأمريكية (ناسا) أن الكون المنظور يحتوي في مجمله على ما يقدر بحوالي تريليونَي مجرة، وهو رقم هائل. ولتخيله دعنا نبدأ بالعد معا من 1 ثم 2 ثم 3، وهكذا باستمرار بدون توقف للأكل أو النوم أو العمل، ولكي ننتهي من عد تريليون نحتاج حوالي أربعين ألف سنة.

في الكون ما يربو على تريليونَي مجرة تشكل جميعا “الشبكة الكونية”

لكن ماذا لو قلنا لك إن كل ما سبق في رحلتنا معا، من كواكب ثم نجوم ثم مجرات ثم هياكل الكون العظمى، كل تلك الأحجام والمسافات الشاسعة تمثل فقط نحو 5% من تركيب هذا الكون، بحيث تبقى 95% غير معروفة لنا بعد؟

لذا يفترض علماء الفلك أن ما بقي من كوننا المجهول يتكون من طاقة مظلمة ومادة مظلمة، وهما أمران لا نعرف عنهما أي شيء. لكن العلماء تمكنوا من ملاحظة أثرهما على محيطهما الكوني. والظلمة هنا لا علاقة لها بلون أو ملمس، بل بجهلنا بطبيعة تلك الكيانات، وربما يوما ما خلال العقود القليلة القادمة نتمكن من إزاحة تلك الظلمة عن عقولنا.

 

المصادر

1- How Big is Our Solar System?

https://www.nasa.gov/sites/default/files/files/YOSS_Act1.pdf

2- Solar System Sizes and Distances

https://www.jpl.nasa.gov/edu/pdfs/scaless_reference.pdf

3- What is the Kuiper Belt?

https://www.space.com/16144-kuiper-belt-objects.html

4- Oort Cloud

https://astronomy.swin.edu.au/cosmos/o/oort+cloud

5- Proxima Centauri, closest star to our sun

https://earthsky.org/astronomy-essentials/proxima-centauri-our-suns-nearest-neighbor/

6- What is a galaxy?

https://www.livescience.com/galaxy

7- The Local Group

https://imagine.gsfc.nasa.gov/features/cosmic/local_group_info.html

8- All about the Virgo Supercluster

https://www.astronomy.com/observing/all-about-the-virgo-supercluster/

9- A Map of the Observable Universe

https://apod.nasa.gov/apod/ap230705.html

10- Hubble Reveals Observable Universe Contains 10 Times More Galaxies Than Previously Thought

https://www.nasa.gov/feature/goddard/2016/hubble-reveals-observable-universe-contains-10-times-more-galaxies-than-previously-thought