التلسكوبات والمراصد الفلكية.. سباق عيون الإنسان التي تسبر أغوار الكون العميقة

“قُلِ انظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرض ۚ

وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لَّا يُؤْمِنُونَ”

سورة يونس- الآية (101)

إن من أهم الوسائل التي استخدمها البشر -ومن بعدهم الفلكيون- لرصد السماء ومراقبة أجرامها؛ العين المجردة، وهي أولى الوسائل التي استخدمتها البشرية منذ أن نظرت إلى السماء، لكنها لم تكن كافية إلا لرؤية بضعة نجوم هنا وهناك، أو قمر بلا تضاريس، أو كواكب بلا أقمار ولا حلقات، وربما بعض السحب النجمية على شكل لطخات سحابية.

ولذلك كان اختراع العدسات أمرا رائعا وإبداعيا، استحق أن يسجل ويخلد في التاريخ، فمبدأ عملها يقوم على تجميع أكبر كمية من الضوء، ومن ثم رؤية تفاصيل أدق وأوضح.

فقدرة المنظار أو التلسكوب في ذلك تفوق العين المجردة بدرجات كثيرة جدا، فهما يسمحان لنا برؤية مناظر في السماء لم نكن نراها أبدا، فأصبحنا نرى للقمر فوهات وجبالا وسهولا، وللكواكب أقمارا وحلقات وتضاريس، وللّطخ السحابية الغبشاء بين النجوم تفاصيل كثيرة؛ فهي إما مجرات، أو أعداد هائلة من النجوم المتراصة على شكل عنقود، وربما كانت نجوما مغمورة في بحور تلك الغازات، كحال سديم الجبار في كوكبة الجوزاء.

للتلسكوبات أنواع ثلاثة، أهمها وأكبرها تلك التي تستعمل المرايا المقعرة لتجميع الضوء

وقد ساعدنا التلسكوب كذلك على استكشاف أعماق الكون وتحليله ووضع النظريات حوله، فقد تخطت قدرة العين وما يعرف بالتلسكوبات البصرية، إلى أطياف أخرى من الضوء، منها الأشعة تحت الحمراء، والأشعة فوق البنفسجية، والأشعة السينية، وأشعة غاما، حتى بتنا نرسل لكل طيف تلسكوبه الفضائي الملائم له، فيرينا بعينه ما لا تراه العيون الأخرى.

تلسكوبات القرن الـ20.. عصارة مائة عام من الفلك الرصدي

مع تقدم علم الفلك والفضاء واختراع الأجهزة الفلكية والأقمار الصناعية والتلسكوبات والمركبات الفضائية، ازداد التطلع إلى معرفة أصل هذا الكون ومن أين جاءت الحياة إلى الأرض وهل من كائنات أخرى وحضارات عاقلة غيرنا في هذا الكون، فأصبح التعاون العلمي بين المؤسسات الفلكية العالمية من مختلف مراكزها ضرورة لتحقيق هذا الهدف الذي يعده علماء الفلك والكونيات ساميا ونهائيا.

فقد كان لاكتشاف “إدوين هابل” في عام 1928 للكون المتمدد صدى كبيرا في العالم، فمن وراء مرآة تلسكوب جبل ويلسون بكاليفورنيا، استطاع “هابل” أن يرصد الكثير من المجرات، فوجد أنها تبتعد عنا، وأن الكون يتمدد.

تلسكوب “هيل” بقطر خمسة أمتار فوق جبل “بالومار” بكاليفورنيا، أعظم تلسكوبات الكرة الأرضية حتى عقد الثمانينات

وبعد الحرب العالمية الثانية، ألقت الدول ببعض أجهزة راداراتها إلى العلماء، فوجّهوها نحو الفضاء، فمنهم من كشف عن حقيقة دوران الزهرة حول نفسه بعكس اتجاه باقي الكواكب، ومنهم من كشف عن نبضات راديوية تصل الأرض بانتظام شديد، عُرفت فيما بعد بالنابضات أو النجوم النيوترونية، وقد جعلتهم يدركون أن في الكون أجراما خطيرة لا تراها عيون البشر.

ومن أجل ذلك، أخذت الدول الكبرى تمول معظم المشاريع الرامية إلى هذا السبيل، وهدفها الأول والحقيقي هو السبق العلمي وكسب ريادة الفضاء، تحت غطاء البحث العلمي الفلكي، فأطلقت أمريكا “تلسكوب هابل الفضائي” في العام 1990، فكان ثورة في عالم الفلك والكونيات، فقد اكتشف في بضع سنين أضعاف ما عرفته البشرية عن السماء منذ فجر التاريخ.

مركبة الفضاء المريخية “باث فايندر” تحط على سطحه سنة 1997 بعد ستة أشهر من السفر

ثم هبطت مركبة “باث فايندر” على المريخ عام 1997، وثماني مركبات أخرى بعدها، وبُنيت المراصد العالمية الأوروبية أمثال التلسكوب الرباعي الكبير جدا في تشيلي وتلسكوب جنوب أفريقيا، وتلسكوب “كيك” المزدوج في هاواي الأمريكية، وأماكن كثيرة من العالم، وكان لدولة قطر نصيب في ذلك حين بنت 5 مراصد فلكية حول العالم لاكتشاف المواكب النجمية حول نجوم المجرة. وهكذا فعلت معظم مراكز البحوث والجامعات العالمية.

سباق الفضاء.. استعراض للعظمة يستفيد منها العلماء والهواة

في محاولة لاستعادة أمجادها الفلكية الفضائية، بدأت الدول الغربية عموما -وتبعتها بعض دول الشرق- تفكر جديا بإرسال إنسان إلى المريخ، ربما في أقل من 10 سنوات من الآن، ناهيك عن مشروع العودة إلى القمر مع مركبة “أرتميس” في عام 2025.

ويبقى الفلكيون وهواة الفلك هم الرابحين والمستفيدين من كل هذه التقنيات العلمية الحديثة، فبِها يتطلعون إلى الكون ويكتشفون أسراره الغامضة، ويُشبعون رغباتهم في البحث عن الحضارات العاقلة في الكون.

رحلة “أرتيمس” للعودة نحو القمر المتوقعة في 2025

وقد شهد القرن العشرين سباقا في صنع التلسكوبات الكبيرة، فبعد أن بقي تلسكوب “هيل” ذو المرآة ذات الخمسة أمتار على جبل بالومار في كاليفورنيا أكبرَ تلسكوب على الأرض لمدة تقارب 30 سنة، جاء التلسكوب الروسي ذو الستة أمتار في عام 1976 ليضاهيه كبرا.

وبإطلاق تلسكوب الفضاء “هابل” ذي المرآة ذات القطر 2.4 متر في العام 1990، أغلقت صفحة هذين التلسكوبين وغيرهما أمثال تلسكوب جبل ويلسون ذي المترين ونصف، الذي من وراء عدسته حدثت اكتشافات كثيرة.

ثورة التلسكوبات العملاقة.. أجسام ضخمة ذات قدرات هائلة

بدأت بعد تلسكوب “هابل” ثورة التلسكوبات العملاقة ذات الأقطار التي تتراوح بين 8–11 مترا في النصف الثاني من عقد التسعينيات، ببناء تلسكوب “كيك” العملاق ذي العشرة أمتار في هاواي الأمريكية، رافقه مثيله وجاره كيك 2، ثم بناء التلسكوب الأوروبي الرباعي الكبير جدا ذي القطر 8.2 أمتار في تشيلي، وهو باتحاد مراياه يشكل تلسكوبا قطره 16 مترا.

تلسكوب “كيك” المزدوج في هاواي بقطر 10 أمتار

ثم جاء تلسكوب “سوبارو” ذي القطر 8.3 أمتار، وكذلك التلسكوب الثنائي “جيمني” ذي الثمانية أمتار، ويقع أحد التلسكوبين في النصف الشمالي من الكرة الأرضية، والآخر في النصف الجنوبي منها. ثم تلسكوب “هوبي – إبرلي” ذي التسعة أمتار في تكساس، وتلسكوب المنظار الكبير ذي 11,9 مترا، وغيرها من التلسكوبات.

ثم جاءت تقنية البصريات التكيفية (adaptive optics) التي رافقت التلسكوبات العملاقة في أدائها، وهي تقنية تعمل على التعويض عن وجود الغلاف الجوي الذي يشوش الرؤية، ويعمل على تكسير الضوء القادم من النجوم والمجرات، فلا يسمح برؤيتها صافية نقية.

وتستخدم هذه التقنية أشعة الليزر العملاقة التي تنطلق من مصادرها بجانب المراصد الفلكية، فتحسب مقدار الاضطراب في الغلاف الجوي، وعليه تقوم مرايا التلسكوب العملاقة -بسبب تجهيزاتها الدقيقة التي تسمح لها بالتحرك أماما وخلفا لمسافة بضع ميكرونات- بالتعويض عن هذه الاضطرابات، مما يسمح برؤية أوضح للأجرام السماوية.

“البصريات التكيفية”، تقنية عالية الجودة ترافق التلسكوبات الكبيرة من أجل التعويض عن اضطرابات الغلاف الجوي

والخطوة التالية هي تلسكوبات عملاقة حقا، تتركب من مرايا ذات أقطار تتراوح بين 20–100 متر، لكن المشكلة هي التكلفة. فالمرايا هي أكثر أجزاء التلسكوب استنفادا للنقود، فهي باهظة التكاليف، لا سيما إن كانت ستُصنع من قطعة واحدة كالتلسكوب الكبير جدا وتلسكوب “جيمني”، أو من عدد كبير من القطع المتناسقة التي يتحكم بحركتها الحاسوب كتلسكوب “كيك” ذي الـ36 قطعة سداسية، ويعد تركيبها والتحكم فيها أمرا بالغ التعقيد، في الحصول على الضوء المنعكس عن سطوح كل المرايا متجمعا في نقطة واحدة.

تلسكوبات القطعة الواحدة.. جدوى قليلة وتحركات عسيرة

مع أن صناعة التلسكوبات ذات القطعة الواحدة أصبح أمرا ممكنا، فإن جدواها قليلة جدا أمام التلسكوبات هائلة الكبر، فالدقة في النحت لن تكون كبيرة، كما أن نقلها إلى مسافات بعيدة كالجبال لن يكون أمرا سهلا، ناهيك عن صعوبة تثبيته هناك. لذا فالمستقبل يؤيد التلسكوبات القطعية، لأن التعامل مع القطع الصغيرة سيكون أسهل، وهو ما ستنهجه وكالتا الفضاء الأوروبية وناسا.

المرصد الأوروبي الرباعي الكبير جدا في تشيلي

فكلما زاد قطر شيئية التلسكوب (المرآة) جمع كمية من الضوء أكبر، وكانت صوره أوضح. ولأننا على الأرض محكومون بالغلاف الجوي الذي يسبب اضطرابات كبيرة للضوء القادم من الفضاء، كانت زيادة أقطار شيئيات التلسكوبات أمرا ضروريا.

فالتلسكوبات ذات الأقطار الأقل من ثمانية أمتار تستطيع التفريق بين نجمين تفصل بينهما مسافة نصف ثانية قوسية فقط، أي ما يعادل التفريق بين ضوئي سيارة على بعد 400 كيلومتر. وليس ذلك بالأمر العظيم، فتلسكوب “هابل” الفضائي يمكنه فعل عشرة أضعاف ذلك، والتلسكوب الكبير جدا أو “جيمني” يمكنه فعل قدر ذلك حوالي ثلاثين مرة، ومع ذلك فلا نزال بحاجة إلى ما هو أفضل.

التلسكوب الأوروبي فائق الكبر.. عملاق الألف مرآة

تعمل وكالة الفضاء الأوروبية حاليا على تصميم تلسكوب كبير يبلغ قطره 39,3 مترا، ويدعى التلسكوب الأوروبي فائق الكبر (European Extremely Large Telescope)، وفيه تُستغل تكنولوجيا المرآة ذات القطع، المستعملة في تلسكوب “كيك” ذي العشرة أمتار، لكن المشكلة تكمن في نحت كل هذه القطع على شكل قطع مكافئ لمرآة واحدة، عوضا عن الشكل الكروي لها، حتى يتجمع الضوء المنعكس عنها في أقل مساحة عند البؤرة، ولتعطي صورة حادة ودقيقة للجرم المرصود.

التلسكوب الأوروبي فائق الكبر سيتكون من 1000 مرآة بقطر متر واحد لكل منها

وهو ليس كمثل تلسكوب “كيك” الذي يتكون من 36 مرآة سداسية الشكل بقطر مترين لكل واحدة منها، فإن التلسكوب فائق الكبر سيتكون من 1000 مرآة بقطر متر واحد لكل منها، وستكون المرآة الثانوية بقطر ثلاثة أمتار، وعلى بعد حوالي 35 مترا من المرآة الرئيسية.

ولعلنا في مطلع العقد القادم نجد على الأرض تلسكوبا أو اثنين من هذه العمالقة قد وضعت هنا أو هناك. وهذه التلسكوبات ستكون مكملات أرضية لتلسكوب “جيمس ويب” الفضائي، وتلسكوبات الفضاء التي سترسل فيما بعد. وربما تكون التلسكوبات الأرضية هذه نهاية الجيل الأرضي الذي ستنطلق منه التلسكوبات بأحجامها العملاقة إلى الفضاء، لتصبح هذه وتقنياتها المرافقة في عداد الماضي.

“إدوين هابل”.. اسم لامع لأول تلسكوب يتخذ مدارا حول الأرض

أطلق تلسكوب الفضاء “هابل” في عام 1990، فكان أول تلسكوب فضاء يتخذ مدارا حول الأرض، بعيدا عن تأثير الغلاف الجوي الأرضي السلبي على الأرصاد، وقد حقق هذا التلسكوب ذو المرآة المجمعة البالغ قطرها 2.4 متر من الاكتشافات العلمية أضعاف ما اكتشفته كل المراصد الفلكية الأرضية طوال عصر الفضاء.

تلسكوبا الفضاء “هابل” (1990) و”جيمس ويب” (2021)

سمي تلسكوب “هابل” تيمنا بعالم الفلك “إدوين هابل” الذي كان أول من أشار إلى تمدد الكون، وهو لا يزال فاعلا يلتقط الصور تلو الأخرى، ويجمع البيانات الفلكية لأجرام تعد تحديا كبيرا لكل المراصد والتلسكوبات الفلكية الأرضية، لكنه لن يدوم على تلك الحال، فمدة صلاحيته توشك على الانتهاء حتى بعد طلعات الإصلاح والترقية الخمس التي زارته في مداره المرتفع 400 كيلومتر فوق سطح الأرض في العقد الأخير من القرن الماضي وبداية القرن الحالي.

فها هي راية الرصد الفضائي تنتقل إلى تلسكوب “جيمس ويب” (نسبة لمدير إدارة الطيران والفضاء الأمريكية “ناسا” السابق) الأضخم والأكثر تعقيدا وبعدا، وقد أطلق إلى مداره حول الأرض-الشمس بصاروخ إيريان 5 العملاق، يوم 25 ديسمبر/ كانون الأول 2021.

“جيمس ويب” خليفة “هابل” في الفضاء بقطر 6,5 مترا

ويبلغ قطر مرآة هذا التلسكوب 6,5 أمتار، ولضخامة المشروع وعظيم تكلفته المادية التي بلغت قرابة 10 مليارات دولار، وعظيم المردود العلمي في المقابل، فقد اشتركت في بنائه وكالة “ناسا” ووكالة الفضاء الأوروبية “إيسا” ووكالة الفضاء الكندية.

“جيمس ويب”.. عملاق يفتح عهدا جديدا في الفضاء

خاض تلسكوب “جيمس ويب” محطات فحص وتدقيق، ابتدأت في وكالة الفضاء الأوروبية، وانتهت في مركز “غودارد” لرحلات الفضاء التابع لناسا، وذلك تفاديا لأي أخطاء محتملة، لا سيما بعد الخطأ الذي وقع فيه مهندسو تلسكوب هابل الفضائي، وكلفهم خمس رحلات فضاء لإصلاحه بعد ذلك، وبعد كل ذلك الفحص والتدقيق أُطلق التلسكوب إلى الفضاء في رحلة استغرقت 30 يوما، قبل أن يستقر في مداره بعيدا عن الأرض.

تلسكوب “جيمس ويب” الفضائي موجود على بعد 1,5 مليون كيلومتر من الأرض

الأرض ولا متيسر الوصول، بل يقع على بعد مليون ونصف المليون كيلومتر من الأرض في نقطة مدارية تدعى نقطة “لاغرانج” الثانية.

نقاط “لاغرانج” هذه -وعددها خمس- تسمح بأن يبقى الجسم فيها ثابتا في موقعه أثناء دورانه حول الأرض، في أثناء دوران الأرض نفسها حول الشمس مرة كل سنة، أي أن تلسكوب “جيمس ويب” يكمل دورة واحدة حول الشمس مرة كل سنة، لكنه ثابت في مكانه حول الأرض في الجهة البعيدة عن الشمس.

وهو مزود بشراع كبير واق من أشعة الشمس، يبلغ حجمه حجم ملعب تنس، لإبقاء مرآته وأجهزته العلمية الأخرى عند درجة الحرارة المطلوبة، وهي أقل من 50 كلفن، أي ما يعادل °220 تحت الصفر المئوي، وتختلف درجة الحرارة بين طرفي الشراع من سالب 232 درجة في الناحية البعيدة عن الشمس، إلى موجب 85 درجة في الناحية المقابلة للشمس، أي بفارق يبلغ 317 درجة مئوية.

نقطة لاغرانج الثانية هي واحدة من خمس نقاط ثابتة المدار حول نظام الأرض-الشمس

ويتكون التلسكوب من 18 مرآة سداسية الشكل، لكل واحدة منها قطر يبلغ 1.3 متر، وجميعها مطلية بالذهب، لأنه عاكس ممتاز للأشعة تحت الحمراء، وهي طبقة رقيقة جدا يصل سُمكها إلى جزء واحد من الميكرون. ومن الغرائب أن الذهب هو من أرخص المواد الداخلة في تصنيع أدوات وأجهزة هذا المرصد الفلكي الفضائي.

خليفة “هابل”.. فوارق ضخمة على كل المقاييس

مع أن قطر مرآة “جيمس ويب” الكلية هو 6.5 أمتار، فقد أطلق وأجزاؤه مطوية عند الإقلاع، وقد نشرت أجنحتها بعد ستة أيام كأنها زهرة في الفضاء، وللدقة المتناهية في الصنع والهندسة فإن هذه المرايا تقع بمحاذاة بعضها بدقة تبلغ نانومترا واحد تقريبا، أي جزءا من مليار جزء من المتر.

مقارنة بين مساحة مرآة تلسكوب “جيمس ويب” وتلسكوب “هابل”

ويفوق تلسكوب “جيمس ويب” قدرة “هابل” عشرات المرات، فمجال عمله هو الأشعة تحت الحمراء، ومن المتوقع أن يكون قادرا على اكتشاف كواكب تدور حول نجوم أخرى، أو نجوم تولد في محاضنها السديمية السميكة، ناهيك عن الكويكبات والمذنبات في نظامنا الشمسي القريب، وربما المجرات الموجودة على حافة الكون المرئي المعروف حاليا بأنه على بعد 13,3 مليار سنة ضوئية، وهي مسافة تقل عن بداية الكون (الانفجار العظيم) بحوالي 500 مليون سنة فقط (13,8 مليار سنة ضوئية).

تلسكوب “هابل” الفضائي، أول تلسكوب بصري يدور في مدار حول الأرض على ارتفاع 400 كم

كما سيبحث التلسكوب عن أنواع الثقوب السوداء المختلفة -الصغير منها والكبير- ليدرس أسباب نشأتها، فتلسكوب “جيمس ويب” الذي عُرف بداية بتلسكوب الجيل الجديد، يعد ثورة حقيقية في استكشاف الكون القريب والبعيد على حد السواء، بل إن العلماء يرتقبون عشرات من الاكتشافات الجديدة التي ستترتب عليها مئات من رسائل الماجستير والدكتوراه، وألوف من الأوراق البحثية المنشورة في الدوريات العلمية العالمية.

مقارنة بين دقة الصور التي يلتقطها تلسكوب “جيمس ويب” مع صور تلسكوب “هابل”

وقد نشر “جيمس ويب” أولى صوره يوم 12 آب/ أغسطس 2022، فأذهلت العالم بدقتها وروعة تفاصيلها، ثم كرر مجموعة من الصور كان “هابل” قد التقطها من قبل، ليظهر الفارق الشاسع بين الصور وملامحها، وكيف أثر تقدم التكنولوجيا على عطاء “جيمس ويب”.

اختراق الغيوم والسدم المجرية.. ثورة تخترق المجهول

لا يقتصر عمل التلسكوب على الجزء المرئي من الطيف الكهرومغناطيسي، فما المرئي سوى جزء ضئيل من هذا الطيف الواسع، لذا اتجه العلماء إلى دراسة الكون بألوانه المختلفة، وبعيون مغايرة لعيون البشر، فكانت التلسكوبات الراديوية أولا كتلسكوب “غرين بانك” بولاية فرجينيا.

ثم تتالت بعد ذلك أنواع التلسكوبات، فكانت تلسكوبات الأشعة تحت الحمراء “سبتزر”، والأشعة الميكروية “بلانك”، والأشعة فوق البنفسجية “غاليكس”، وأشعة إكس “نيوتن”، ثم أشعة غاما “فيرمي”، ومن كل نوع عددٌ من التلسكوبات، ويقع أكثرها ضمن نطاق الراديو، لأنها غنية عن الخروج إلى الفضاء.

في الفضاء وعلى الأرض أنواع مختلفة من التلسكوبات ترصد السماء بأطوال موجية مختلفة

وقد كشفت الصور الملتقطة من خلال هذا الطيف الواسع من الأشعة عن حقائق مخفية، لا يمكن للأشعة البصرية أن تدركها بحال، كما استطاعت بعض التلسكوبات اختراق الغيوم والسدم المجرية، لتكشف لنا عن خفايا مركز المجرة وما وراء المجهول.

سطح الشمس كما يرى بأطول موجية مختلفة

فالشمس -على سبيل المثال- كان لها نصيب آخر من الأرصاد، فقد جمعت لها فسيفسائيات من جميع أطياف الأشعة الكهرومغناطيسية، وكانت الحقائق المكتشفة وفقا لذلك مذهلة. وكذا الحال مع مركز مجرتنا والمجرات الأخرى أمثال مجرة الصوفي (الأندروميدا).

“كارل جانسكي”.. فلكي يفتح باب علم الفلك الراديوي

كان للتلسكوبات الراديوية السبق العلمي في الاختراع، وذلك على يد فلكي أمريكي يدعى “كارل جانسكي”، وكان أول من بنى تلسكوبا راديويا تابعا لشركة “بل” الأمريكية للاتصالات في العام 1931، واستطاع أن يلتقط به الإشارات الراديوية من الشمس والمجرة، ثم بدأ فيما بعد تطوير تلسكوب خاص به لالتقاط إشارات الأشعة الكونية. وهكذا ظهر علم جديد هو علم الفلك الراديوي.

التلسكوبات الراديوية، صحون عملاقة تلتقط أشعة الراديو القادمة من الكون

وفي الوقت ذاته، يسمح الغلاف الجوي للأشعة المرئية بجميع ألوانها بأن تصل إلى سطح الأرض، ومعها بعض الأشعة تحت الحمراء، وكثير من أشعة الراديو، بما اصطلح على تسميته نوافذ الغلاف الجوي.

ولأن طيف أشعة الراديو واسع جدا مقارنة بالأشعة المرئية، فقد كان له الفضل الكبير في الكشف عن حقائق كثيرة في الكون، أهمها مدة دورة كوكب عطارد، وثنائيات النابضات النجمية، ودوران الزهرة العكسي حول نفسها، ومركز المجرة الحي، ومجرات أطراف الكون، والانفجار العظيم وغيرها.

“فاست”.. خليفة صيني يرِث أعظم التلسكوبات الراديوية

ظل تلسكوب “أريسيبو” الراديوي في بورتوريكو بأمريكا اللاتينية منذ عام 1963 حتى عام 2016 أكبر تلسكوب ذي صحن لاقط واحد في العالم بقطر 305 أمتار، وكان قد بُني في واد بين جبلين.

وقد كان لـ”أريسيبو” الفضل في إرسال أول رسالة من سكان الأرض إلى الفضاء، وهي رسالة مكونة من موجات راديو تحمل معلومات مشفرة بسيطة عن البشرية والأرض، بُثت باتجاه عنقود الجاثي النجمي “مسييه 13” الواقع على بعد 26 ألف سنة ضوئية، وذلك عام 1974، فكان استعراضا للإنجاز البشري في مجال التكنولوجيا، ومحاولة جدية للتواصل مع كائنات فضائية.

“مرصد أريسيبو” الراديوي يرسل أول رسالة من سكان الأرض إلى الفضاء سنة 1974

وقد ظل تلسكوب “أريسيبو” الراديوي صاحب الرقم القياسي في العظم، حتى بنى الصينيون تلسكوبا شبيها له في عام 2016 بالمواصفات نفسها، لكن بقطر بلغ 500 متر هو تلسكوب “فاست”. وشهد عام 2019 استكمال تشغيل جميع مرافق هذا التلسكوب العظيم، لإتاحة استخدامه عالميا لعلماء الفلك الراديوي. وبذلك تكون الصين قد سجلت رقما قياسيا في تاريخ صنع التلسكوبات الراديوية، التي سيكون بمقدورها التقاط إشارات باهتة من أطراف الكون وحوافه، وسبر أغوار الكون السحيق.

وبعد عام واحد من تشغيل التلسكوب الصيني، وبالتحديد يوم 1 ديسمبر/كانون أول 2020، انقطعت بعض الأسلاك الحاملة لتلسكوب “أريسيبو” فتسببت بدمار جزئي له، ثم أخذت أجزاؤه تتهاوى بسبب وزنها الثقيل، فأُعلن رسميا بعد ذلك عن موت التلسكوب ودماره وانتهاء مهامه العلمية.

تلسكوب “فاست” الصيني، أعظم التلسكوبات الراديوية على الأرض منذ 2016

إن السماء وما فيها من ألغاز عظمى قد أجبرت الإنسان على سبر أعماقها، ليس بالانتقال إليها فحسب، بل باستقبال رسائلها التي تتحدثها بلغات كثيرة هي لغة الضوء وأطيافه، وكان لا بد أن يصنع لها البشر أجهزة تفهمها، فتنقل لنا أسرارها وما تخفيه عنا في مكامنها في الكون السحيق، فكانت تلك التلسكوبات، وكان عصرها العظيم.